من التاريخ: «المسألة الشرقية» ونهاية الدولة العثمانية

من التاريخ: «المسألة الشرقية» ونهاية الدولة العثمانية
TT

من التاريخ: «المسألة الشرقية» ونهاية الدولة العثمانية

من التاريخ: «المسألة الشرقية» ونهاية الدولة العثمانية

كتبت الإمبراطورة النمساوية الشهيرة ماريا تيريزا: «... إن تقسيم الدولة العثمانية سيكون من أخطر المشاريع الأوروبية، وسيكون له عواقبه الوخيمة... فماذا سنكسب من التوسع حتى ولو إلى حدود القسطنطينية سوى العواقب السلبية... أنا لن أسمح أبدًا بتفتيت الإمبراطورية التركية وأتمنى ألا يشهد أحفادي من بعدى طردها من أوروبا».
هذه الجملة لخّصت ما يمكن وصفه بـ«المسألة الشرقية» المقصود بها أوضاع الدولة العثمانية في السياسة الأوروبية بعد اضمحلال قوتها وبداية معاناتها من التحلل السياسي والعسكري التدريجي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مع زيادة أطماع الدولة المختلفة في ممتلكاتها في وسط وشرق أوروبا.
لقد انطفأت شعلة الإمبراطورية - كما تابعنا في الأسبوع الماضي - ولم تعد قادرة على مواجهة القوى الأوروبية المنافسة كما كانت قبل قرنين من الزمان إبان السلاطين العظام من أمثال محمد «الفاتح» و«سليمان القانوني» وغيرهما، إذ باتت فريسة للدول الأوروبية المختلفة الطامعة في أراضيها، ولكن للسياسة الدولية أحكامها بطبيعة الحال، ولم تسمح هذه حقًا بتفتيت كيان الدولة لأسباب تتعلق بالتوازنات الداخلية للنظام الأوروبي.
واقع الأمر أن الدولة العثمانية كانت تمتلك أراضي في القارة الأوروبية ولديها تماسها مع الدولة النمساوية وفرنسا وروسيا، فضلاً عن سيطرتها على مضيقي الدردنيل والبوسفور وبحر مرمرة الذي يربطهما، وهو الطريق الرابط بين البحرين الأسود والمتوسط. كل هذه الأصول السياسية والاستراتيجية جعلتها دولة مهمة في النظام الأوروبي، حتى وإن لم يكن لديها القدرة على الدخول في منظومة توازنات القوى كلاعب قوي مؤثر كما كان حالها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. ذلك أن التوازنات السياسية أصبحت تحتم على القوى الأوروبية العاقلة السعي لاحتواء سقوط العملاق العثماني كي لا تصبح ممتلكاته عرضة للصراعات الأوروبية ومن ثم اندلاع الحروب المختلفة بين القوى الكبرى بعدما استتب الأمن النسبي في القارة بعد اتفاقية «صلح وستفاليا» عام 1648. بكلام آخر، الفراغ السياسي صار الشبح الذي تخشاه كل القوى الأوروبية، ومن ثم اتفقت فيما بينها على الإبقاء على الدولة العثمانية درءًا للصراعات المختلفة. واستمرت هذه السياسة حتى سقوط الإمبراطورية العثمانية رسميًا بعد الحرب العالمية الأولى وإلغاء الخلافة الإسلامية.
من ناحية أخرى، برز هناك عنصر جديد عارض هذه المعادلة السياسية الأوروبية، تمامًا، رافضًا أن يكون طرفًا في أي تسوية تحدث بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية هو... المارد الروسي.
هذا المارد الجديد بدأ يظهر في المعادلة السياسية بقوة على أيدي القيصر بطرس الأكبر... الرجل الذي انتشل روسيا من التخلف وأطلق عملية تحديث واسعة النطاق. وكان القيصر الطموح يحلم بإنشاء جيش قوي يسانده أسطول أقوى يستطيع من خلاله مد نفوذ روسيا في ثوبها السياسي والعسكري الجديد.
هذا الطموح جعل الصدام بين الروس والعثمانيين حتميًا، لا سيما، لكسر سيطرة العثمانيين على البحر الأسود وفتح المجال أمام الأسطول الروسي للتحرك هناك إضافة إلى فتح الممرات التركية (مضيقَي الدردنيل والبوسفور) أمام عبور التجارة الروسية. وهذا ما دفع بطرس الأكبر للتحرش بالدولة العثمانية حتى استطاع أن يحتل مدينة أزوف على البحر الأسود. والجدير بالذكر، أن بطرس الأكبر أو من جاءوا بعده لم يعترفوا بدور الدولة العثمانية السياسي في أوروبا، بل حكم السياسة الخارجية الروسية تجاه العثمانيين عنصران أساسيان: الأول، استباحة أراضيها في شرق أوروبا، والثاني رغبة الروس في فرض حمايتهم على المجتمعات الأرثوذكسية في أراضي الدولة العثمانية بحجة أن الكنيسة الروسية هي امتداد لكنيسة القسطنطينية (الفنار)، ويلاحظ هنا وجود ارتباط وثيق بين العنصرين.
إزاء هذه السياسة الروسية اضطرت الدول الأوروبية المختلفة إلى العمل على دعم العثمانيين في وجه التوسّع الروسي والوقوف ضد أي عمل روسي للاستيلاء على الأراضي العثمانية، ليس حبًا في الأستانة بل رغبةً بوقف التوسّع الروسي وحفظ التوازن في شرق أوروبا، لأن دول أوروبا الغربية ما كانت مرحّبة بمد النفوذ الروسي للبلقان وشرق أوروبا.
ومن ثم، منذ مطلع القرن الثامن عشر بدأت «المسألة الشرقية» تأخذ أبعادها في السياسة الأوروبية، وذلك على الرغم من أن الدولة العثمانية لم تكن بشكل رسمي جزءًا من المنظومة السياسية الأوروبية، بل كانت كذلك فقط من الناحية العملية. وحتى رغم امتلاك الدولة العثمانية أراضي واسعة في أوروبا، لم ينظر للدولة في أي وقت من الأوقات على اعتبارها جزءًا من التركيبة الثقافية الأوروبية لأسباب تتعلق بالدين واللغة، وهو الأمر انعكس في إبقائها خارج المنظومة التعاهدية الأوروبية. وفعلاً، لم تشارك الأستانة في أي اتفاقيات دولية جماعية على الإطلاق إلا في معاهدة باريس عام 1856، التي أنهت حرب القرم بهزيمة روسيا على أيدي التحالف الفرنسي البريطاني العثماني. وكانت (كما وصفها بعض المؤرخين) «إحدى رجليها في أوروبا استراتيجيًا بينما رجلها الأخرى كانت خارج السور الأوروبي».
لقد استمرت «المسألة الشرقية» بأشكالها المختلفة على مدار القرن الثامن عشر، وسعت روسيا تدريجيًا لابتلاع أراضي الدولة العثمانية (لا سيما في البلقان)، بينما سعى العثمانيون لتقليص خسائرهم. وعلى الرغم من توصلهم إلى صيغة تعايش مع النمسا وفرنسا بمقتضي اتفاقيتي كارلوويتز Karlowitz وباسارويتز Passarowitz، فإن الجبهة الطويلة مع الروس ظلت تستنزفهم. ومن ثم، استطاعت روسيا بعد معارك متقطعة أن تفرض على العثمانيين عام 1774 اتفاقية كوتشوك كينارجي - أو «النافورة الصغيرة» - التي فرضت روسيا على الدولة العثمانية بمقتضاها السماح لسفنها بالمرور عبر المضيقين التركيين إضافة إلى تقديمها تنازلات في البحر الأسود والأراضي المحيطة به. ويقال أيضًا إن روسيا أخذت تعهدًا من الدولة العثمانية بالسماح لها بأن تكون راعية لأمور المجتمعات الأرثوذكسية في أراضيها، ولو أن بعض المصادر التاريخية الحديثة تشير إلى أن نصوص الاتفاقية لم تتضمن هذا الشرط، ولكن في كل الأحوال فإن روسيا لم تنتظر موافقة «الباب العالي» (أي السلطان) على هذا البعد الديني، لأن لعبته من الناحية العملية دون انتظار موافقة الدولة العثمانية.
بعد الثورة الفرنسية، بدأت «المسألة الشرقية» تأخذ أبعادًا مختلفة، إذ جاءت الحملة الفرنسية على مصر والشام لتغير موازين القوى الأوروبية، ومعها الاتفاق الضمني بالإبقاء على أراضي الدولة العثمانية.
لقد أدى هذا التغير إلى سرعة التدخل البريطاني من أجل إلحاق الهزيمة بالحملة الفرنسية وطردها من مصر على أيدي البريطانيين بعد إخفاق العثمانيين في هذه الخطوة نتيجة لضعفهم العسكري. وحتى بعد جلاء الحملة الفرنسية، لم تحترم فرنسا الثورية هذا التوجه، خصوصًا بعدما اتفق القيصر الروسي الإسكندر مع نابليون بونابرت على تقسيم أراضي الدولة العثمانية بمقتضى معاهدة تيلزيت عام 1807، لكن الصراع الفرنسي الروسي أدى إلى الإبقاء على الدولة العثمانية. ومع أن العثمانيين لم يُدعوا للمشاركة في مؤتمر فيينا الشهير عام 1814، ظلت أراضيهم بمنأى عن أي مطمع أوروبي استنادًا إلى المعادلة الأوروبية السابقة، وهكذا ظلت دولتهم جزءًا من التوازن السياسي الأوروبي دون أن تكون لاعبًا رسميًا فيه.
واستطاعت الدولة العثمانية على مدار القرن التاسع عشر أن تحافظ على بقائها السياسي في أوروبا وداخليًا، بفعل سعي الدول الأوروبية (باستثناء روسيا) إلى الإبقاء عليها. وفي كل مرة تسعى روسيا للنيل من الدولة العثمانية فإن التحالفات الأوروبية كانت تساندها. بل الأغرب من ذلك أنه عندما تعرّضت الدولة العثمانية لأكبر خطر وجودي على بقائها بسبب الدولة المصرية الفتية في عهد محمد علي باشا، فإن روسيا اتحدت مع الدول الأوروبية لهزيمة مصر في معركة نوارين (نافارينو) البحرية عام 1827، بسبب التوازنات الخاصة باستقلال اليونان، بينما تآمرت أوروبا على مصر في 1840 لضرب جيشها بعدما وصل لقرابة أربعين فرسخًا من الباب العالي وفرضت معاهدة لندن بالقوة العسكرية لتحجيم مصر بعدما كانت تستعد لإرث الدولة العثمانية.
والشيء نفسه تكرّر في حرب القرم (1853 - 1856)، إذ ظلت الدولة العثمانية تتنفس سياسيًا بفضل التوازن الأوروبي. وحتى مع إطلاق وصف «رجل أوروبا المريض» عليها فإن الساسة الأوروبيين ظلوا على موقفهم حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى ودخول «الباب العالي» حليفًا لألمانيا. وهذا التورط في الحرب العالمية الأولى أنهى الدولة العثمانية عمليًا كإمبراطورية، وأعادها إلى الدولة التركية التي ولدت في عهد عثمان وأبنه أورخان في القرن الثالث عشر، وذلك بعدما سيطر مصطفى كمال «أتاتورك» على مقاليد الأمور وأوقف الغزو الأوروبي لبلاده وحماها من الاحتلال. ومن ثم ألغى «الخلافة» العثمانية وأعلن الجمهورية عام 1924.
حقيقة الأمر أن الدولة العثمانية في ثوب «المسألة الشرقية» تمثل في جوهرها معضلة سياسية قلما يجود التاريخ السياسي والعسكري الدولي بمثلها. فهذه الدولة لعبت دورها السياسي في توازن القوى الأوروبي وهي تحتضر سياسيًا على مدار ما يقرب من قرنين من الزمان أنهت نفسها بنفسها لسوء اختيارها حليفها في الحرب العالمية الأولى. إن الدول غالبًا ما تحيى بقوتها العسكرية وتماسكها السياسي أمام الأطماع الدولية خاصة في الحقبة الزمنية محل الدراسة، ولكن الدول الأخرى أبقت على الدولة العثمانية في المسرح الأوروبي (باستثناء روسيا) لوهنها وضعفها.
لقد صمد «رجل أوروبا المريض» أمام الخطر الداخلي والخارجي على حد سواء ليس لقوته بل لضعفه، وتقديري أن الدولة العثمانية تمثل الاستثناء الذي يثبت القاعدة السياسية وليس العكس.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.