منذ منحت جائزة نوبل للآداب لبوب ديلان، والجدال لم يتوقف حول قيمة الشعر المغنى، وهل هو أدب يستحق أن يكافأ أم أنه يدخل في حيز آخر؟
ويبقى الغناء في ثقافات كثيرة مصنفًا، في فئة الفنون الشعبية، التي قليلا ما تحب النخب أن تلتفت إليها بجدية، حتى وإن كان متكئا على قصائد لشعراء كبار. وهذا هو الحال في العربية، حيث يندر أن يكرّس باحثون أنفسهم لسبر غور عالم الغناء والتقاط كنوزه. لكن السنوات الثلاث الأخيرة صدر بالعربية كتابان مهمان أحدهما للأديب والصحافي اللبناني المعروف فارس يواكيم، صادر عن «دار رياض الريس»، ويحمل عنوان «حكايات الأغاني، رحلة القصيدة من الديوان إلى الأغنية»، يدرس الأغاني الشهيرة، التي هي في الأصل قصائد تم غناؤها، ولم تكتب لتلحن. وكتاب ثانٍ يأخذ منحى آخر، ويحلل مضمون 2800 أغنية عربية، أطربت الآذان منذ بداية القرن العشرين وحتى عام 2012 بينها العامي والفصيح، منها ما كتب ليغنى، وما تم غناؤه بعد أن كان قصائد شعرية في دواوين. وعنوان هذا الكتاب الشيق «هكذا تكلمت الأغاني» للدكتورة نجوة قصاب حسن، وصادر مع العدد 111 من مجلة «دبي الثقافية».
الكتابان معًا يعطيان فكرة، عما كان للغناء من دور في حياة العرب في المائة سنة الأخيرة، وكيف أن الشعر العامي كما الفصيح، ساهما حين اقترنا مع النغم، في تشكيل الوجدان الجمعي، والتعبير بصدق عن الذات في تحفظها، وبوحها برغباتها ومكبوتاتها، كما لا نراه ربما، بنفس الوضوح في الفنون الأخرى.
فارس يواكيم في كتابه يكشف عن مفاجآت. فمن انتبه مثلا أن فيروز غنت لأبي العتاهية، كما لأبي النواس، ومن يتذكر أن عبد الحليم حافظ غنى «الطلاسم» لإيليا أبي ماضي، في فيلم «الخطايا» لحسن الإمام، وذلك بعد أن غناها قبله محمد عبد الوهاب، أو أن ليلى مراد شدت لأبي العلاء المعري «غير مجد في ملتي واعتقادي». ويقول يواكيم في كتابه «على امتداد العصور كانت القصائد دعامة الغناء، وبعض القصائد كانت تغنى باللحن ذاته من جيل إلى جيل» ويعطي مثلا على ذلك قصيدة أبو النواس: «حامل الهوى تعب.. يستخفه الطرب» التي غناها يوسف المنيلاوي قي نهاية القرن التاسع عشر، ثم غنتها فيروز في القرن العشرين بتلحين مختلف قام به الأخوان رحباني. كما أن قصيدة «جاءت معذبتي في غيهب الغسق»، غنتها فيروز بلحن لمحمد محسن، كما غناها بلحن آخر، كل من صباح فخري ومحمد خيري.
رحلة القصائد مع الأغنيات محملة بالدلالات، إذ يبدو أن الأغنيات العامية كتبت كلماتها خصيصًا للغناء، بعكس الأغنيات الفصحى التي تم اختيارها غالبًا، بعد كتابة القصائد وربما شيوعها، وأن بعض الشعراء مثل محمود درويش ونزار قباني وحتى جبران خليل جبران كان لهم كبير الحظ في أن قصائدهم لفتت نظر الملحنين والمغنين، فيما هناك شعراء قصائدهم تستحق أن تُشدى ملحنة، لكن لم يلتفت أحد إليها، وهي تبقى بمثابة الصندوق المحفوظ الذي يستطيع المطربون والملحنون أن ينهلوا منه متى شاءوا ورغبوا، ولو بعد حين.
ويلفت يواكيم في مؤلّفه إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي أن ثمة قصائد تم غناؤها لم تضم بعد ذلك إلى الأعمال الكاملة لكتّابها، مثل قصيدة لأحمد شوقي أو أخرى لعمر أبو ريشة، وكذلك قصيدة لبولس سلامة غنتها فيروز.
ندرة الدراسات حول الأغاني، أو علاقة هذا بالشعر، يجعل البحث في الموضوع شيقًا بقدر ما هو صعب. ويكتشف يواكيم معلومات لا تخطر على بال مثل إن هناك من غنى شعرًا لعباس محمود العقاد، وخليل مطران والمناضل المغربي، مؤسس «حزب الاستقلال» علال الفاسي، وأن خمسة مطربين عرب غنوا قصيدة للشاعر اللبناني إلياس فرحات، في حين لم يلتفت الملحنون اللبنانيون لشعره.
والمعلومات في الكتابين تستحق الاهتمام، إذ إن الدكتورة قصاب حسن، تذهب بصرف النظر عن أصل كلمات الأغنيات، وهل هي قصائد أم لا؟ فصحي أم عامية؟ إلى تحليل مضمون 2800 أغنية من بلاد الشام، سمعها الناس على مدار قرن من الزمن، محاولة من خلالها، اكتشاف التوجهات العاطفية والفكرية والاجتماعية والقيمية التي عاشت في فلكها الشعوب خلال هذه الفترة. وتستخدم الباحثة البرمجة الحاسوبية لتحصي المفردات المستخدمة، وتقيس مدى تكرارها، كما تقوم بمسح للموضوعات التي تود التركيز عليها. والتحليل الحاسوبي أوصل د. قصاب حسن، إلى الكثير من الأرقام الدالة والمهمة. فمثلا، تبين أن الكثير من الأغاني تموه أو تغيب هوية المحبوب، بحيث يبقى بصيغة الغائب أو الجمع، ويحدث أيضًا أن تخاطب المحبوبة الأنثى بصيغة المذكر. وهذا لا شك متأت من الطبيعة المحافظة لهذه المجتمعات. ومن الأمثلة على ذلك، بعض أغنيات عبد الحليم حافظ مثل «أهواك» و«بحلم بيك» وبالإمكان إعطاء أمثلة شبيهة من أغنيات لفريد الأطرش أو محمد عبد الوهاب، لكن الأنثى المغنية لا يحدث أن تتغزل بأنثى. ويفهم من لجوء الرجال إلى هذا الخطاب، أن هناك رغبة في التمويه وإخفاء الحقيقة، واللجوء إلى الطرق المقنعة للاعتراف بمشاعر الحب والهيام. ومما تصل إليه د. قصاب حسن أن الحبيبة قد تنادى بالريم أو الغزال بدل اسمها، وأن 13.7 في المائة من الأغنيات تستعيض عن اسم المحبوبة بصفة من صفات الجمال مثل أغنية «جميل جمال ما لوش مثال»، أو «يا حليوة يا حليوة في القلب هواك غنيوة». وفي الأغنيات العربية حضور كثيف للطيور على أنواعها في 10.5 في المائة من العينة المدروسة، وكذلك هناك حضور واضح للزهور والنباتات. ولعل الفصل الذي يحمل مفاجآت هو ذلك الذي يدرس المفردات التي تدل على حالات شعورية، فمن الدال جدًا أن الأغاني التي عبرت عن السعادة والفرح لا تزيد عن 2.5 في المائة من العينة، وترتفع النسبة بشكل ملحوظ جدًا في تلك الأغنيات التي تم أداؤها بعد عام 2000. أما التي عبرت عن البكاء والحزن فنسبتها تصل إلى 6.7 في المائة. وفي الخلاصة، فإن الأغنيات التي تتحدث عن القلق والخوف والبكاء والعذاب والتوسل والانتظار والكره والرفض، تزيد عن تلك التي تعبر عن الفرح والسعادة والحبور والشوق والأمل بما نسبته 8.7 في المائة.
دراسة د. قصاب حسن، قد تشكل فاتحة لأبحاث حاسوبية أوسع على فحوى الأغنيات، ودلالاتها الاجتماعية والعاطفية وربما أيضًا الاقتصادية. أما الدارسة القيمة التي قدمها فارس يواكيم حول القصائد المغناة، فهي أرشيف فعلي من 450 صفحة، وهي ليست مجرد جردة وإنما متابعة تفصيلية أحيانًا، لرحلة القصيدة وحكايتها وهي تسافر عبر الزمن من الديوان إلى آذان الناس، إضافة إلى أن قراءة الكتاب متعة أدبية، تشعرك كم أن الصلة، وثيقة بين المغنين العرب الكبار وجهابذة الشعر قديمهم وحديثهم، وأن الموسيقى كانت تحن دائمًا، إلى الكلمة الطروب والشعر الفاتن.
حكايات الأغاني العربية ودلالات معانيها في المائة سنة الأخيرة
بعضها قصائد تعود إلى العصر العباسي
حكايات الأغاني العربية ودلالات معانيها في المائة سنة الأخيرة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة