يؤكد كثير من الباحثين، أهمية دراسة التراث، باعتباره عنصرًا أساسيًا لفهم طبيعة التطور وكيفية تشكل بنية المجتمع. من هنا، فالتراث مدخل مناسب لدراسة الماضي وفهم الحاضر واستشراف المستقبل.
بدأ الاهتمام بالتراث في السياق الثقافي (العربي)، منذ بواكير النهضة، مع ثلة من الباحثين، من أمثال رفاعة الطهطاوي، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، والكواكبي، إذ حرك هؤلاء التفكير في التراث، في محاولة للإجابة عن الأسئلة الملحة لعصر النهضة، من قبيل: كيف يمكن تحقيق التقدم واللحاق بالآخر (الغرب)؟ لقد وعى هؤلاء المفكرون، أهمية التراث في تطوير المجتمع العربي، فتزايد الاهتمام بالتراث، وتعددت زوايا دراسته ومقاربته.
لقد تجدد الوعي بأهمية التراث في عالمنا المعاصر، وارتبط بسياق عالمي موسوم بتحولات كبرى وأزمات ذات مستويات فكرية وسياسية واجتماعية ومالية وثقافية ومجالية وبيئية. هذه المستويات تتفاعل فيما بينها، لتعيد للبعد الثقافي أهميته، من خلال راهنية البحث عن المعنى، وعن سبل جديدة للعيش المشترك وبناء الحضارة. وقد سعى كثير من دول العالم، إلى إعادة الاعتبار للشأن الثقافي، باعتباره مدخلا رئيسا لتحقيق التنمية المستدامة، وإشاعة قيم العدالة والمساواة، وترسيخ الأمن والاستقرار في مواجهة أشكال الصراع المدمرة.
في هذا السياق إذن تجذر الوعي في كثير من البلدان النامية بقيمة الثقافة، كحاملة للمعنى والهوية، ما يستلزم تبني استراتيجية ثقافية، من ملامحها: احترام الهوية الثقافية والتنوع الثقافي، حماية وتثمين التراث المادي واللامادي، دعم الفنون الشعبية واللغات الوطنية، تشجيع المواطنين على المشاركة في الشأن الثقافي، اعتبار الثقافة عاملاً محركًا للإبداع والتنمية الاقتصادية وخلق الثروة.
هذه بعض ملامح يقتضي هذا السياق الجديد، الاعتراف بدور الثقافة في التنمية الوطنية والجهوية، ما يستلزم تشجيع الصناعة الثقافية، والاستثمار في مكونات الثقافة. وفي إطار هذا الاهتمام بالثقافة، يندرج اهتمام بلدان العالم، خصوصا النامية، بالتراث. ذلك أن هذه البلدان تعيش ظروفا وأوضاعا (الحروب، الفقر..)، تنعكس سلبا على الكنوز والآثار الإنسانية القيمة، التي تتعرض للتدمير والضياع والسرقة. لكن ما هو التراث؟
مفهوم التراث
يحيل مفهوم التراث في العربية، على الموروث من كتب الحضارة العربية الإسلامية. وشكَّل التراث، لعقود عدة، المعرفة التي خلفها عباقرة الإسلام، سواء كانوا مغاربة أم مشارقة، أي مجموع المعارف الإنسانية الانتقائية المتراكمة خلال قرون. ويقترح الموقع الرسمي لـ«اليونيسكو»، صورة تقريبية للتراث، فيعتبره «موروثًا (تركة) الماضي التي نستغلها اليوم ونحولها إلى الأجيال الثقافية. وتراثنا الثقافي والصناعي مصادر للحياة والإلهام لا بديل عنها».
من خلال هذه الصورة، يتضح أن التراث متصل بالماضي. فهو تركة وجب الحفاظ عليها وتناقلها بين الأجيال الحالية والمستقبلية. يهم هذا النقل كل ما له قيمة بالنسبة لجماعة بشرية، سواء كان ماديًا (كالمعالم الأثرية) أو لا ماديًا (العادات، التقاليد).
والتراث عنصر ملازم للثقافة، ينتجها وينتج عنها. وهو ذلك العنصر الذي يعطي للثقافة تجسيدًا وفاعلية من جهة، وثباتًا واستمرارية عبر الزمن من جهة أخرى.
والتراث أيضا، مجمل الرموز الحاملة للهوية، وهي رموز تستمد معانيها ودلالاتها وشحناتها العاطفية، من الثقافة. وبهذا التحديد يتموقع التراث بين الثقافة والهوية، إذ يستمد من الثقافة أشكاله ومعانيه، فتستمد منه الهوية حدودها.
وما يلاحظ في استعمال التراث أنه مفهوم عصي على التحديد، لدرجة يمكن معها القول، بطريقة مختزلة ومخلخلة، إن «التراث غير موجود»، وتصوُّره فعل مبنيّ. أما التراث باعتباره مفهومًا، فهو نتيجة لتأويل اجتماعي يحفز عبر مصالح متنافسة.
إن المواقف المسبقة للفاعلين وأدوارهم واختلاف منطق كل طرف، كلها عناصر تجعل من مفهوم التراث مفهوما انتقائيا، وذاتيا، وخاضعا للتطور الزمني. وهو مرتبط بقيم وتأويلات ذاتية وفاعلين مهتمين.
تصنيفات التراث
يلاحظ الدارس للكتابات المتصلة بالتراث، تنوع المصطلحات الموظفة للإحالة على الظاهرة التراثية. ومن هذه المصطلحات: المعلم الثقافي، المصدر الثقافي، التراث الثقافي.. كما يلاحظ تعدد التصنيفات المقترحة للتراث. ويعكس هذا التعدد، تنوع مواقع الباحثين ومواقفهم من التراث. ومن التصنيفات المطردة في هذا الإطار: التراث الطبيعي، ويدل على المعالم الطبيعية، كالتشكلات الفيزيائية، والبيولوجية الطبيعية، والتشكيلات الجيولوجية، ثم المواقع الطبيعية.
التراث الثقافي
يميز الباحثون في هذا التراث بين نوعين:
تراث مادي، وهو العقار (الأبنية، مواقع أركيولوجية، مآثر تاريخية..)، والأدوات (الأسلحة، الجواهر، الخزف، الفخار، الملابس، الأواني، الأبواب..). وتراث لا مادي، ويقصد به كل الخبرات والمهارات والمظاهر الثقافية الموروثة ذات القيمة التي تنتقل من جيل إلى جيل، وكل ما يعكس الشعور بالانتماء والهوية. ومن العناصر المكونة للتراث الثقافي اللامادي هذا: الموروث الشفهي (اللغات، الحكايات، الأشعار، الأمثال، الأغاني..)، الموسيقى وفنون العزف، العادات الاجتماعية والأعياد وطقوس التعبد، المعرفة وأساليب التعامل مع الطبيعة والعالم، الحرف والمنتجات التقليدية.
حين ندرك الروابط الحميمة بين التراث المادي واللامادي، سيتأكد لنا أن الفصل بينهما صعب، فالآلات الموسيقية التراثية مثلا توجد في نقطة تقاطع بين النوعية من التراث. فهي تراث مادي بالنظر إلى كونها ملموسة ومصنوعة من مواد محددة. وهي أيضًا، تراث لا مادي اعتبارًا لخبرات ومهارات صانعها.
مما سبق، يحق اعتبار التراث الثقافي، تشكيلة من القيم المادية واللامادية التي تستوعب الموضوعات والتقنيات، والخبرات، والمعارف، والمعتقدات، والعادات، التي خلفها لنا أسلافنا، وحافظنا عليها لنقلها إلى الأجيال المستقبلية. وكل هذه العناصر والمكونات، تتقاسم خاصية محددة، وهي كونها موارد غير قابلة للتجدد، فكل عنصر أو مظهر يهمل سيضيع إلى الأبد. من هنا وجب الحفاظ على التراث الثقافي وتثمينه.
دوافع الاهتمام بالتراث
تتعدد دوافع الاهتمام بالتراث في البلدان النامية، ومن هذه الدوافع، تطور الفكر الثقافي في الغرب. ومن مظاهر هذا التطور:
- إحياء الطرز المعمارية القديمة، الإيمان بخطية التاريخ، أي أن كل حدث أو أثر تاريخي، فقد لا يعوض، ومن هنا تنبع قيمة التراث.
- الثورات والحروب والتدمير باسم التحديث.
- عوامل التدمير الطبيعية والبشرية.
ويفسر الاهتمام بالرموز التراثية، باعتبارها دعامة، ومصدر اعتزاز لدى كل شعب، لأنها دليل أصالة وعراقة. لذا فالحرص على الحفاظ على التراث، ترجمة لوعي الأفراد والجماعات، يسهم بدوره، في ترسيخ الهوية الفردية والجماعية. كما أن تنامي الخطابات الداعية إلى الحفاظ على التراث، يستجيب لسياق يعرف تفاقم تيارات العولمة، وتعاظم أخطارها على الخصوصيات الثقافية والحضارية للأمم والشعوب. فالعولمة تهدد كثيرًا من الهويات الوطنية والمحلية، بالتلاشي، أو الذوبان في الهوية الغازية الغالبة، بينما التراث الإنساني باعتباره مكونا للهويات، معرض للمسخ والتشويه والتبخيس.
مما سبق، يتبين أن التراث جزء من ذاكرة الأفراد والأمم. وهو محدّد للهوية الوطنية، ومحافظ عليها في مواجهة تيارات العولمة التنميطية الإقصائية. إنه أداة لتحصين تلك الهوية، ومرجع للذاكرة وللروح لإيجاد توازن مع طبيعة الحياة.
التراث والتنمية
تشكل التنمية موضوعًا لاشتغال كثير من العلوم الاجتماعية والإنسانية، خصوصًا علمي الاجتماع والأنثروبولوجي، اللذين يعالجان قضايا التخلف، والفقر، والرواسب الثقافية، والصراعات الآيديولوجية والعرقية والإثنية، وتأثير ذلك على مسارات التنمية. وبالمجمل، تعرف التنمية كسيرورة ثقافية واجتماعية، لا يمكن فهم إشكالاتها من دون سبر أغوار البناء الاجتماعي والثقافي الذي يتأسس عبره المجتمع. والتنمية عمومًا هي التغيير الكمي والكيفي للمجتمع على المستويات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية. فهي كل متداخل منسجم، يهدف إلى تحسين شروط الحياة باتجاه تكريس الرفاه الاجتماعي.
ويرى بعض الدارسين، أن علاقة التراث بالتنمية ضعيفة. فالتراث - بالنسبة لهم - عامل ثانوي في تحقيق التنمية، لأن أثره (وأثر الثقافة عموما)، لا يظهر إلا بشكل بطيء على المدى المتوسط والبعيد. غير أن التحولات العميقة المتصلة بالعولمة، غيرت هذه النظرة، وأيقظت الوعي بخطورة العولمة على الهوية الفردية والجماعية. ومن هنا، بدأت تتبلور رؤى ومقاربات جديدة، تطمح إلى تجاوز جهود الحفاظ على التراث، إلى مستوى تثمينه واستثماره في مجال التنمية والحفاظ على الهوية الوطنية. ضمن هذا التوجه، ترسخ الشعور لدى فئات عريضة من المجتمع، بأهمية التراث، باعتباره يشكل مرجعية تاريخية وثقافية حاسمة في تركيز دعائم ومقومات الشخصية، وفي تقوية الشعور بالانتماء. فالتراث أداة مؤثرة في الصراع والتدافع. وهو عنصر ضامن للوحدة والاستقلال. كما أنه مجال متنوع (طبيعي، بشري، مادي ومعنوي)، يسهم في تحريك الطاقات المنتجة لأجل تنمية محلية جهوية ومحلية مندمجة ومستدامة.
في هذا السياق أيضًا، تعاظم الحديث عن استثمار التراث في المشروعات التنموية، أي «الصيانة المندمجة للتراث، باتخاذ تدابير وإجراءات تضمن استمراريته في محيطه الطبيعي والبشري الملائم، وتوظيفه عقلانيا للاستفادة من منافعه حاضرا ومستقبلا». ويبدو مفهوما التراث والتنمية اليوم، مفهومين متوافقين، إذ سيحظيان بالإجماع من طرف صناع القرار والمسؤولين جهويًا ومحليًا. وهكذا، سيغدو الحفاظ على التراث الثقافي (كملكية جماعية)، شأنا للناخبين، إذ إن هناك قناعات لدى فعاليات مدنية ورسمية، بأن المدينة - الجهة التي تثمن موروثاثها الثقافية، توفر إمكانيات لإعداد أفضل لمستقبلها. وقد ولّدت القناعات السالفة الذكر، مفهوم «المدينة الدائمة» كمقابل لـ«المدينة الوظيفية».
يتضح مما سبق، تلازم مفهومي التراث والتنمية، إذ يمثلان بعض القياسات التي تعكس إرادة لإدماج البعد التاريخي في برامج التنمية، أي مفصّلة الماضي والحاضر والمستقبل الخاص بالمجتمعات، في منطق تحويل وتضامن لأجيال متداخلة. ولأن التراث مورد غير قابل للتجدد، فالإحالة عليه بالحفاظ أو التثمين، تعد واحدة من الصيغ الشرعية المميزة للاستدامة على السلم الكوكبي. فالتراث مورد رمزي قيم، متصل بقوة بسؤال الذاكرة والهوية، وإرادات استعماله من طرف المنتخبين المحليين. لكنه أيضا، مورد اقتصادي تحت الزاوية السياحية بالخصوص، ذلك أن التراثية صيغة لتثمين الفضاءات والمجالات.
إن تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، رهن باستحضار الفضاءات والعناصر كافة التي تتفاعل بهدف تحقيق رخاء الإنسان، الذي يعد عنصرا بؤريا في كل مشروع تنموي. ومن المداخل الكفيلة بتثمين التراث الثقافي، إدماجه في استراتيجية تروم النهوض بالسياحة الثقافية.
* أستاذ باحث - المغرب