كبادوكيا.. منحوتة العصر الحجري

جولة بالمنطاد بين «مداخن العفاريت» و«موائد الشيطان» في أعماق التاريخ

سياحة المناطيد في كبادوكيا
سياحة المناطيد في كبادوكيا
TT

كبادوكيا.. منحوتة العصر الحجري

سياحة المناطيد في كبادوكيا
سياحة المناطيد في كبادوكيا

الأرض الساحرة، أو كبادوكيا، تلك المنطقة التي تشكلت من الأحجار البركانية واشتهرت بمداخن العفاريت ومنازلها تحت الأرض وكنائسها وأوديتها المبهرة، وأهمها وادي الحب ووادي إهلارا، وناطحات السحاب الطبيعية، والكهوف الصخرية، وبيوتها وفنادقها المنحوتة داخل المغارات هي واحدة من أهم نقاط الجذب السياحي في وسط تركيا.
وتقدم كبادوكيا نمطا سياحيا فريدا لزائريها؛ كونها تزخر بالكثير من التكوينات والمشاهد الجيولوجية والتاريخية والحضارية الفريدة ذات الشهرة العالمية.
تتميز كبادوكيا، التي تقع في محافظة نيفشهير، وسط تركيا، بشتائها الدافئ وصيفها البارد وتشكيلاتها الحجرية الرائعة التي تجعل من يزورها يشعر بأنه يعيش وسط مدينة من الأحجار مأهولة بالسكان منذ العصر الحجري.
* حدودها وتاريخها
يحد كبادوكيا من الشمال نهر الكزلرمك ومن الشرق الحصار الأخضر ومن الجنوب جبال حسن ومالاندز ومن الغرب مدينة أكسراي ومن الشمال الغربي مدينة كيرشهير، وتقع إلى الجنوب الغربي من المدينة الكبرى مدينة قيصري، التي تعد إحدى قلاع تركيا التجارية والصناعية.
و«كبادوكيا» هو اسم تاريخي لإقليم في آسيا الصغرى (تركيا الحديثة) يقع اليوم في منطقة نيفشهير، ويقول هيرودوت، إن الكبادوكيين سكنوا المنطقة الممتدة من جبال طوروس إلى حدود بحر اليوكسين أو البحر الأسود واستمر استخدام اسم قباذق للدلالة على كبادوكيا في مصادر غربية وفي التقليد المسيحي عبر التاريخ، ولا يزال هذا الاسم يستخدم على نطاق دولي واسع في مجال السياحة للدلالة على هذه المنطقة المتميزة بأعاجيبها الطبيعية.
بدأت الحياة تدب في كبادوكيا عندما لجأ إليها الهاربون من بطش الرومان، من مسيحيي شرق البحر المتوسط، فنحتوا بها مدنًا تحت الأرض وسراديب ومتاهات وبيوتا في أعالي الجبال الصخرية فأصبحت مثالا فريدا لتطويع الطبيعة بيد الإنسان.
وأهم معالم كبادوكيا هي الكنائس الصخرية والمدن تحت الأرض والقلاع الصخرية والوديان والمتاهات الصخرية. وتقع على بعد 276 كيلومترا من العاصمة أنقرة وتبعد عن إسطنبول بمسافة 730 كيلومترا. وأقرب مطار لها هو مطار مدينة قيصري الذي يبعد عن كبادوكيا مسافة 80 كيلومترا.
* بنيتها ومنازلها
تتميز كبادوكيا بتكويناتها من الحجارة البركانية ومنازلها التي تقع تحت الأرض والتي تعود لحضارات قديمة جدا.
ومن بين البلدات والوجهات المهمة في كبادوكيا أورغوب وجوريم ووادي إهلارا، وسِليمي، وأوتش حصار، وأوانوس، وزلفة، وجوزليورت. ومن بين المدن التي تقع تحت الأرض وتجذب الزائرين والسياح دير ينكويو وكايماكلي وغازي أمير وأوزكاناك.
ويوجد العديد من القصور التاريخية والبيوت الكهفية في أورغوب وجوريم وجوزليورت وأوتش حصار.
ويعود تاريخ إنشاء بيوت هذه المنطقة إلى عام 1900 ويتوزع البعض منها على قمم الصخور، وقد استخدمت في بنائها الأحجار نظرا لوفرتها، حيث تتميز كبادوكيا بالجبال البركانية.
استثمر سكان المنطقة العوامل الطبيعية بأفضل الطرق، فعند فوران البراكين تخرج صخور الصهر لتصبح مادة مناسبة للبناء لسهولة تشكلها في الحرارة الساخنة. وعندما تخرج هذه المواد وتلامس الهواء تتصلب وتصبح مادة قوية تفيد البناء وهذا مكن سكان هذه المنطقة من أن يصبحوا ماهرين ومتقنين في حرفة النحت المستخدم في البناء، وكذلك حرفة «المهارية»، وهي النحت في الخشب، وقد استخدمت في تصميم أبواب المنازل وأسوار الحدائق الخشبية التي تحيط بمنازل كبادوكيا.
* قرية ومتحف جوريم
تعتمد قرية جوريم على السياحة كأهم مورد للعيش وذلك لما فيها من آثار وأطلال تراثية رائعة، وهي منطقة سكنية يبلغ عدد سكانها نحو ألفي نسمة وهي من المناطق المسجّلة على لائحة التراث العالمي منذ سنة 1985.
أبرز ما يجذب السياح إلى هذه القرية هو متحف جوريم المفتوح وهو بناء قديم جدا وكنائسها المميزة والمنحوتة في الصخر إذ توجد فيها كنيسة «توكالي» الفخمة وكنيسة التفاحة فضلا عن أبراج الحمام.
وتآكلت صخور كبادوكيا بالقرب من جوريم لتصبح مئات من الأعمدة العجيبة ونحت الناس الذين استوطنوا قلب كبادوكيا لأنفسهم البيوت والكنائس والأديرة من رواسب الطوفة البركانية الخفيفة. وقد أصبحت جوريم مركزا رهبانيا ما بين عامي 300-1200م.
ترجع الفترة الاستيطانية الأولى لجوريم إلى العهد الروماني، فالكنائس المعروفة في جوريم هي يوسف كوج وأروتا خانة ودرمس قادر وبزير خانة، أما البيوت والكنائس المحفورة في الصخور فهي موجودة في وادي أوزن دير ووادي باغل دير ووادي زمي، وهي تستعرض تاريخ المنطقة للزائرين.
ويعتبر متحف جوريم المفتوح أحد أكثر المواقع جذبا للزائرين والسياح وكان مقر جماعة رهبانية في كبادوكيا وهو أحد أشهر المواقع في وسط تركيا.
ويحتوي المتحف على أكثر من 30 كنيسة منحوتة من الصخور والمزارات الصغيرة التي تحتوي على مرصوفات ممتازة من فنون تصويرات الفريسكو الجصية، والتي ترجع إلى فترة القرن التاسع والحادي عشر.
* مداخن العفاريت
ومن أجمل الظواهر الطبيعية في كبادوكيا المداخن الجبلية الطبيعية المعروفة بمداخن العفاريت التي تبهر زائريها.
وتشكلت الصخور الرسوبية في البحيرات والمجاري المائية ورواسب البرقعان التي انفجرت من البراكين القديمة قبل نحو 3 إلى 9 ملايين سنة مضت، خلال الفترة المتأخرة من الفترة الميوسينية والفترة البليوسينية تحت كبادوكيا.
و«مداخن العفاريت» هي مداخن جبلية طبيعية تمنح الشفاء والجمال لزائريها وتستقبل كل عام 2.5 مليون سائح ويعتقد أن تسميتها بهذا الاسم ترجع إلى معتقدات شعبية قديمة تقول إن الجن يعيشون في كهوف هذه المنطقة وصخورها وهي ناجمة عن تفاعل عوامل الطبيعة منذ ملايين السنين واحتكاكات الصخور البركانية بشكل عام بمياه الفيضانات والرياح الشديدة حيث أخذت أشكالا مخروطية على قممها كتل صخرية مع مرور الزمن.
ويعود تاريخ قرية جوريم إلى عهد الحيثيين بين عامي 1200 و1800 قبل الميلاد وتحتوي على ملاجئ وأنفاق وسط الجبال اضطر الناس إلى بنائها قديما خوفا من حدوث أي طارئ أو خطر وذلك بسبب موقعها الذي يتوسط الإمبراطوريتين الفارسية واليونانية والتي كانت تكثر فيها المنازعات والحروب.
وتحتضن كبادوكيا، أحد أكثر المناظر الطبيعية جمالا في العالم، وصنفتها اليونيسكو ضمن مواقع التراث العالمي.
وأكثر ما تتميز به هو ما يطلق عليه «موائد الشيطان»، وهي صخور عمودية حولتها عوامل التعرية، إلى شكل «فطر عملاق»، وتبدو شبيهة بنباتات «عش الغراب».
* وادي الحب
وتشتهر كبادوكيا أيضا بوادي الحب، وأطلق عليه هذا الاسم نظرا لعدد السياح الكبير الذين يتوافدون على هذا الوادي سنويا، حيث يتميز بالأعمدة الحجرية مدببة الرأس، بالإضافة إلى المناظر الطبيعية الخلابة المنتشرة بين الأعمدة المذهلة.
وأطلق على الوادي اسم وادي الحب نظرا لعدد السياح الكبير الذين يتوافدون عليه وهو يهدف أكثر من ذلك لمعرفة كيف يظهر الحب للطبيعة.
كما يمارس السياح أنشطة الترحال في كل من وادي إهلارا ووادي الدير (جوزليورت) وأورغوب وجوريم.
* جولة المنطاد
باستطاعة الزائر أن يتنقل في كبادوكيا على ظهور الجمال ضمن القوافل أو بوساطة المناطيد التي تشتهر بها المنطقة والتي تتيح رؤيةً قل نظيرها في العالم لمعالم كبادوكيا من أعلى.
ومن أهم الأنشطة التي يمكن القيام بها في مدينة كبادوكيا تجربة رحلة في المنطاد للتنقل خلال ساعتين إلى ثلاث ساعات بأجواء جميلة من قلب * سماء كبادوكيا.
وإلى جانب متحف جوريم المفتوح الذي يحتوي آثارا تعود إلى القرنين الخامس والسادس، هناك مزارات أخرى أهمها مدينة ديرينكيو التي تقع تحت الأرض والتي كانت تستخدم كملجأ أثناء الحروب.
وتأتي الأفواج السياحية إلى كبادوكيا لزيارة موقع جيفيزلي التاريخي، داخل قلعة أوتش حصار الأكثر زيارة بين آثار المنطقة، والمعروفة عالميًا بأول ناطحة سحاب طبيعية، في جولاتهم السياحية بالمنطقة.
* كبادوكيا في الشتاء
عندما يحل الشتاء تكتسح الثلوج الوديان الواقعة في كبادوكيا لتغطيها برداء أبيض في مشهد لا يمكن وصف روعته وجماله ليكتمل بهذا الجمال معنى اسم «الأرض الساحرة»، كبادوكيا.
عدما تهطل الثلوج تكتسي مداخن العفاريت، التي يصل ارتفاعها إلى 40 مترا تقريبا، بردائها الأبيض في بلدات جوريم، وأورجوب، وأوتش حصار، وزيلويه.
ويحلو للسياح التقاط الصور التذكارية أمام مداخن العفاريت وهي بحلتها البيضاء الناصعة في الشتاء. وتضيف الثلوج المتساقطة فوق معالم كبادوكيا الشهيرة، مثل «موائد الشيطان»، والكنائس الأثرية المنحوتة في الصخور، جمالا آخر للمدينة.
ويمكن أيضا للسائح أن يتجول في مدنها القابعة تحت الأرض، وتتضمن إسطبلات وأقبية. هذه المدن الموصولة بممرات ضيقة بناها السكان القدماء، ليتمكنوا من التحرك بحرية، بعيدًا عن طرقها المتعرجة.
كما أن زوار كبادوكيا يرونها أفضل النماذج المختارة من الفن المعماري السلجوقي والعثماني.
ومن المباني التي تستحق الزيارة نزل إجري منارة، وآلاي خان، وسلطان خاني، ومسجد تشقين باشا في أورغوب، ومسجدا صنغور بك وعلاء الدين في نعدة.
ومن أجل استكشاف هذه المنطقة الغامضة ولمشاهدة تناغم البشر والطبيعة، يجب على السائح زيارة «أورجوب»، و«أوتش حصار»، و«أفانوس»، و«كورامة»، و«جافوشين»، و«أورتا حصار».



سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)
TT

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)

«إن أعدنا لك المقاهي القديمة، فمن يُعِد لك الرفاق؟» بهذه العبارة التي تحمل في طياتها حنيناً عميقاً لماضٍ تليد، استهل محمود النامليتي، مالك أحد أقدم المقاهي الشعبية في قلب سوق المنامة، حديثه عن شغف البحرينيين بتراثهم العريق وارتباطهم العاطفي بجذورهم.

فور دخولك بوابة البحرين، والتجول في أزقة السوق العتيقة، حيث تمتزج رائحة القهوة بنكهة الذكريات، تبدو حكايات الأجداد حاضرة في كل زاوية، ويتأكد لك أن الموروث الثقافي ليس مجرد معلم من بين المعالم القديمة، بل روح متجددة تتوارثها الأجيال على مدى عقود.

«مقهى النامليتي» يُعدُّ أيقونة تاريخية ومعلماً شعبياً يُجسّد أصالة البحرين، حيث يقع في قلب سوق المنامة القديمة، نابضاً بروح الماضي وعراقة المكان، مالكه، محمود النامليتي، يحرص على الوجود يومياً، مرحباً بالزبائن بابتسامة دافئة وأسلوب يفيض بكرم الضيافة البحرينية التي تُدهش الزوار بحفاوتها وتميّزها.

مجموعة من الزوار قدموا من دولة الكويت حرصوا على زيارة مقهى النامليتي في سوق المنامة القديمة (الشرق الأوسط)

يؤكد النامليتي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سوق المنامة القديمة، الذي يمتد عمره لأكثر من 150 عاماً، يُعد شاهداً حيّاً على تاريخ البحرين وإرثها العريق، حيث تحتضن أزقته العديد من المقاهي الشعبية التي تروي حكايات الأجيال وتُبقي على جذور الهوية البحرينية متأصلة، ويُدلل على أهمية هذا الإرث بالمقولة الشعبية «اللي ما له أول ما له تالي».

عندما سألناه عن المقهى وبداياته، ارتسمت على وجهه ابتسامة وأجاب قائلاً: «مقهى النامليتي تأسس قبل نحو 85 عاماً، وخلال تلك المسيرة أُغلق وأُعيد فتحه 3 مرات تقريباً».

محمود النامليتي مالك المقهى يوجد باستمرار للترحيب بالزبائن بكل بشاشة (الشرق الأوسط)

وأضاف: «في الستينات، كان المقهى مركزاً ثقافياً واجتماعياً، تُوزع فيه المناهج الدراسية القادمة من العراق، والكويت، ومصر، وكان يشكل ملتقى للسكان من مختلف مناطق البلاد، كما أتذكر كيف كان الزبائن يشترون جريدة واحدة فقط، ويتناوبون على قراءتها واحداً تلو الآخر، لم تكن هناك إمكانية لأن يشتري كل شخص جريدة خاصة به، فكانوا يتشاركونها».

وتضم سوق المنامة القديمة، التي تعد واحدة من أقدم الأسواق في الخليج عدة مقاه ومطاعم وأسواق مخصصة قديمة مثل: مثل سوق الطووايش، والبهارات، والحلويات، والأغنام، والطيور، واللحوم، والذهب، والفضة، والساعات وغيرها.

وبينما كان صوت كوكب الشرق أم كلثوم يصدح في أرجاء المكان، استرسل النامليتي بقوله: «الناس تأتي إلى هنا لترتاح، واحتساء استكانة شاي، أو لتجربة أكلات شعبية مثل البليلة والخبيصة وغيرها، الزوار الذين يأتون إلى البحرين غالباً لا يبحثون عن الأماكن الحديثة، فهي موجودة في كل مكان، بل يتوقون لاكتشاف الأماكن الشعبية، تلك التي تحمل روح البلد، مثل المقاهي القديمة، والمطاعم البسيطة، والجلسات التراثية، والمحلات التقليدية».

جانب من السوق القديم (الشرق الاوسط)

في الماضي، كانت المقاهي الشعبية - كما يروي محمود النامليتي - تشكل متنفساً رئيسياً لأهل الخليج والبحرين على وجه الخصوص، في زمن خالٍ من السينما والتلفزيون والإنترنت والهواتف المحمولة. وأضاف: «كانت تلك المقاهي مركزاً للقاء الشعراء والمثقفين والأدباء، حيث يملأون المكان بحواراتهم ونقاشاتهم حول مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية».

عندما سألناه عن سر تمسكه بالمقهى العتيق، رغم اتجاه الكثيرين للتخلي عن مقاهي آبائهم لصالح محلات حديثة تواكب متطلبات العصر، أجاب بثقة: «تمسكنا بالمقهى هو حفاظ على ماضينا وماضي آبائنا وأجدادنا، ولإبراز هذه الجوانب للآخرين، الناس اليوم يشتاقون للمقاهي والمجالس القديمة، للسيارات الكلاسيكية، المباني التراثية، الأنتيك، وحتى الأشرطة القديمة، هذه الأشياء ليست مجرد ذكريات، بل هي هوية نحرص على إبقائها حية للأجيال المقبلة».

يحرص العديد من الزوار والدبلوماسيين على زيارة الأماكن التراثية والشعبية في البحرين (الشرق الأوسط)

اليوم، يشهد الإقبال على المقاهي الشعبية ازدياداً لافتاً من الشباب من الجنسين، كما يوضح محمود النامليتي، مشيراً إلى أن بعضهم يتخذ من هذه الأماكن العريقة موضوعاً لأبحاثهم الجامعية، مما يعكس اهتمامهم بالتراث وتوثيقه أكاديمياً.

وأضاف: «كما يحرص العديد من السفراء المعتمدين لدى المنامة على زيارة المقهى باستمرار، للتعرف عن قرب على تراث البحرين العريق وأسواقها الشعبية».