يقول شاعرنا الكبير محمد العلي: «الوجع: لا يساويه إلا الوجع»!. و«الإفلاس» أشدّ حالات الوجع، لأنه يضرب في الصميم وجدان الأفراد والدول، ينزلهم من حالة القدرة إلى الضعف، ومن الاستقلال للحاجة، ومن الأمان للخوف، ومن اليد العليا لليد السفلى، فهو لا يصيب الخزينة، ومحفظة الجيب، وادخار العائلة، وقوت يومها ومستودع خبزها فقط، بل يصيب شعورها بالعزة والكرامة والغنى عن الناس والثقة بالنفس والمستقبل..
الإفلاس ليس فقط حالة اقتصادية تتحكم بها آليات السوق وأحوال التجارة.. فإذا وقعت الواقعة، فهو حالة شعورية، تغرق صاحبها باليأس والانكسار والخيبة. تلك صدمة تشبه الصدمات الكبرى المزلزلة التي يتلقاها المرء، ربما فاقت عليها، فالمرض مهما كان مستعصيًا لا يكسر الإنسان كما يكسره الفقر.
أثناء الحملة الترويجية لكتابها «خيارات صعبة»، تخبرنا وزيرة الخارجية الأميركية السابقة والمرشحة الرئاسية الحالية هيلاري كلينتون، أنها عشية خروجها مع زوجها الرئيس الأسبق بيل كلينتون من البيت الأبيض يناير (كانون الثاني) 2001، كانا ليسا فقط يواجهان الإفلاس، بل كانا مثقلين بالديون.. وخلال مقابلة مع قناة «إيه بي سي» قالت: «لم يكن لدينا أي مال عندما توجهنا إلى هناك. كافحنا لجمع تكاليف الرهون العقارية للمنازل ومن أجل تعليم ابنتنا شيلسيا. تعرفون أن الأمر لم يكن سهلا».
هيلاري كانت تتحدث عن إنجازاتها، وكيف تمكنت على مدى 13 عاما، هي وزوجها من تسديد ديونهما الشخصية التي قدرتها بنحو 12 مليون دولار، وأنها جمعت كذلك أكثر من مائة مليون دولار من خلال ما قالت إنه بيع كتب وإلقاء خطب.. وإذا صدقت فهي كانت تَغْرِف من مغارة مملوءة بالذهب هي: السمعة والتجارب والخبرة والموقع الاجتماعي والأفكار.. وكلها كما قالت نقلتها من الفقر والإفلاس والديون إلى الثراء.. تلك المغارة منحتها أكثر من مائة مليون دولار، وما زالت سخية وتتدفق حتى تعيدها من جديد إلى البيت الأبيض.. فأين الإفلاس.؟
يفرق الفقهاء، بين الفقير بالقوة والفقير بالفعل، والفقير بالقوة هو من لا يملك المال الكافي لميزانيته السنوية، لكنه يمتلك صنعة أو مهارة أو حرفة تدر عليه دخلاً كافيًا.. و«فقر القدرة» هو أحد مقاييس مؤشر التنمية البشرية.
كيف تفلس أمة تمتلك كل هذه الثروات؟، يتساءل الخبير الاقتصادي السعودي الدكتور إحسان بوحليقة: هل نحن على شفا الإفلاس؟، ويجيب، مستشهدًا بكتاب «ثروة الأمم» الذي أصدره أبو عِلم الاقتصاد الحديث، الاسكوتلندي آدم سميث في عام 1776، أي قبل 340 عاما. والفكرة المحورية للكتاب أن النظام الاقتصادي يصلح نفسه بنفسه عندما يمتلك القدر الكافي من الحرية، وهذا ما يعبر عنه في أدبيات الاقتصاد التقليدية بــ«اليد الخفية».
في هذا الكتاب يتساءل آدم سميث عن ماهية ثروة البلدان، يقول الدكتور بوحليقة: «الثروة الحقيقية لا تكمن في الموارد البشرية أو الرأسمالية أو التقنية أو الطبيعية فقط، بل السر يكمن في جودة وكفاءة إدارة السياسة الاقتصادية»، يضيف: «عمليا، الدول لا تفلس بل تفقد القدرة على إدارة اقتصادها؛ فدول فقيرة انتقلت للغنى كما هو حال سنغافورة، ودول كانت لقرون أغنى دول الأرض ثم انتقلت للفقر بفعل سياسات لتعاود وتسترجع مكانتها بفعل سياسات كذلك كما هو الحال مع الصين».
الأسبوع الماضي كان حافلاً بالقلق، والقلق يصنع وعيًا، وبالعودة لشاعرنا محمد العلي، يقول: هل تعرّفت مفردة يسكن الشعر في بهوها الرحب مثل الوجع؟.
الإفلاس والوجع!
الإفلاس والوجع!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة