حماس في مهب المتغيرات المصرية وأخطائها الذاتية

اختفى حليفها الإخواني الكبير.. والبديل الإيراني يفرض شروطا معقدة

حماس في مهب المتغيرات المصرية وأخطائها الذاتية
TT

حماس في مهب المتغيرات المصرية وأخطائها الذاتية

حماس في مهب المتغيرات المصرية وأخطائها الذاتية

* ما رفضه مبارك من اقتطاع لأراض في سيناء قبله مرسي سرا ووجدت فيه حماس حلا مثاليا يقود إلى دويلة مستقلة تعيش في ظل رعاية إخوانية
* لم تكن المقاومة عند حماس سوى بقاء في السلطة وتفاهم مع إسرائيل على عدم إطلاق الصواريخ. ومع وصول مرسي إلى الرئاسة باتت حماس ترى الأمور بعيون الطرف المنتصر بلا حدود
* في ظل «الإخوان» ضمنت مصر وقف حماس إطلاق الصواريخ مما اعتبر تغيرا جوهريا في سياستها تجاه غزة واقترابا من مسؤوليتها عن شؤون القطاع كبديل لإسرائيل
* سهلت الأنفاق السرية التواصل الدائم بين الجماعات التكفيرية والسلفية الجهادية وحماس في قطاع غزة والتعاون على مستوى التدريب وتهريب الأسلحة والذخائر

لم تكن العلاقة بين مصر وحركة حماس في قطاع غزة، قبل سقوط مبارك أو بعده، ودية إلا نادرا. والاستثناء كان عهد الرئيس المعزول محمد مرسي، الذي استغرق عاما، منذ تنصيبه رئيسا في 30 يونيو (حزيران) 2012 حتى عزله في 3 يوليو (تموز) 2013. عام يحلو لمراقبين وصفه بعام حماس الذهبي. فأنفاق التهريب تعمل بكفاءة نادرة في تهريب كل السلع المصرية المدعومة، والمسروقات من السيارات الحديثة التي يملكها مصريون، إلى قطاع غزة. ومن الأنفاق، يأتي إلى مصر جهاديون تكفيريون، وأسلحة مختلفة الأشكال والأنواع، وخبرات في تصنيع المتفجرات عن بعد، وسيارات الدفع الرباعي المحملة بالأسلحة، وغيرها مما يدخل في باب تهديد الأمن القومي لأي دولة.
بينما كانت حكومة حماس التي تسيطر على غزة تحصل الأموال تحت صفة جمارك على المهربات من مصر، وأموال أخرى مقابل التصريح بحفر نفق وعمله وخدمته، مما كان يدر عليها ما يقرب من 400 مليون دولار سنويا - كانت مصر تتلقى التهديدات وتواجه الإرهاب والترويع، بل والتدخل في شؤونها الداخلية.
بالقطع، لدى حماس تفسير ودافع لبقاء هذه الأنفاق بخيرها وشرها، وحتى زيادة أعدادها؛ فهي النافذة الكبرى المتاحة لمواجهة الحصار الإسرائيلي، المتمثل في غلق المعابر الستة التي تربط القطاع بإسرائيل، التي يفترض القانون الدولي أنها دولة احتلال مسؤولة عن توفير أسباب الحياة للقطاع المحتل.
وكما هو معروف، فإن الأمور، خاصة ما يتعلق منها بإسرائيل، لا تسير أبدا وفق القانون الدولي، بل وفق الأهواء الدولية، والمتغيرات والمعادلات على الأرض. ساعدت على ذلك، رغبة تل أبيب، ومن خلفها واشنطن، في التخلص النهائي من عبء الاحتلال، من خلال إلقاء عبء توفير الاحتياجات المعيشية على مصر، في مرحلة أولى. ثم في مرحلة ثانية طرح تصور يقضي باقتطاع جزء من الأراضي المصرية في شمال سيناء الملاصقة للحدود الجنوبية لقطاع غزة، ومبادلته بجزء أقل من أراض تخضع لإسرائيل في صحراء النقب يضم إلى الأراضي المصرية، على أن يتحول القطاع بعد إلحاق الأراضي المصرية به، إلى دويلة فلسطين، وينتهي بذلك الصراع التاريخي!
وهنا، تتعدد التقارير والدراسات التي تشير إلى أن الرئيس الأسبق، حسني مبارك، رفض هذا الطرح الاستعماري بشدة وأغلق أي حديث حوله. لكن هذا الطرح، قبل بشكل سري، من قبل الرئيس الإخواني وجماعته، وبدعم أميركي كبير. ولما كانت حماس جزءا من جماعة الإخوان الكبرى، فالمرجح أنها وجدت في هذا التصور حلا مثاليا، أو لنقل مناسبا، للتحول إلى دويلة مستقلة تعيش في رعاية مصر الإخوانية.
الأنفاق.. معضلة أمنية وهدية إخوانية
وفي الطريق إلى تحقيق هذا التصور الذي يقضي تماما على كل الأبعاد الوطنية والقومية والإسلامية للقضية الفلسطينية، لم تجد حماس أفضل من الابتعاد عن الارتباط بإسرائيل، وفي الوقت نفسه، وضع مصر أمام أمر واقع، يتمثل في توظيف الأنفاق، غير القانونية، في بناء شبكة مصالح مع قسم من أهل شمال سيناء، والالتفاف على حصار إسرائيل الاقتصادي للقطاع، ومن ثم تحميل مصر مسؤولية توفير أساسيات الحياة للفلسطينيين في غزة (ولو بطريق غير مباشر)، وجعل قرار هدم الأنفاق، حتى لو أرادت الحكومة المصرية ذلك كليا أو جزئيا، غير قابل للتنفيذ عمليا.
من جانبها، أنهت مصر في عهد الرئيس المعزول، تحفظاتها على استمرار تلك الأنفاق. وتغاضت عن كل التهديدات المحتملة التي قد تجلبها للأمن القومي المصري. وبينما كان العدد التقريبي للأنفاق في نهاية حكم الرئيس الأسبق مبارك، ما بين 500 إلى 400 نفق، وصل العدد التقريبي في زمن حكم «الإخوان»، إلى أكثر من 1200 نفق، بعضها كان مجهزا بالحوائط المسلحة وتسمح بمرور سيارات النقل متوسطة الحجم وسيارات نقل المنتجات النفطية المصرية المدعومة.
والمعروف أن القوات المسلحة المصرية بعد أن قامت جماعة تكفيرية إرهابية بقتل 16 جنديا مصريا خلال إفطار رمضاني صادف 3 أغسطس (آب) 2012، تبين لها أن الفاعلين يستغلون الأنفاق مع قطاع غزة، لجلب الأسلحة والهروب بعيدا عن الأجهزة الأمنية المصرية. وتبين أيضا، أن هناك تعاونا وثيقا بين الجماعات الإرهابية العاملة في سيناء وجماعات مشابهة لها، جرى تحت حماية حركة حماس في القطاع ورعايتها. وهو التعاون الذي أدى إلى قتل الجنود المصريين في هجوم خاطف، من دون مراعاة لأي قيم دينية أو وطنية أو قومية.
وكان قرار القوات المسلحة آنذاك، هدم الأنفاق أو بعضها، للتدليل على قدرة الدولة المصرية على السيطرة على حدودها. لكن الرئيس مرسي طلب من القوات المسلحة المصرية، آنذاك، أن توقف تلك العملية تماما، بما في ذلك عدم مواجهة الجماعات الإرهابية، ووقف البحث عن قتلة الجنود المصريين، بل فضل أن يجري التواصل مع هذه الجماعات من خلال مبعوث رئاسي ينتمي إلى الجماعة الإسلامية التي كانت مسؤولة عن عنف عقد التسعينات، للتواصل مع قيادة هذه الجماعات المسلحة لتهدئة الوضع الأمني في سيناء، باعتبار أن الحكم القائم في مصر هو إسلامي يتوافق مع المرجعيات الحاكمة لتلك الجماعات. وهذا ما ساعد بالفعل، على بناء تفاهمات سياسية كبيرة بين جماعة الإخوان وهذه الجماعات، تطورت لاحقا، إلى نوع من التحالف في مواجهة الدولة المصرية ومؤسساتها، خاصة الأمنية. وكان من نتائج هذا التحالف البغيض، أن هدأت الأعمال الإرهابية لكي تتوافر لحكومة الرئيس مرسي فرصة استكمال الهيمنة على المؤسسات المصرية، وفي المقابل، تمتعت هذه الجماعات بحرية حركة كبيرة سواء في سيناء أو في التواصل والتعاون مع نظرائها من الجماعات الأخرى في قطاع غزة.
علاقة استراتيجية جديدة
وهكذا، تبلور أول ملامح علاقة استراتيجية جديدة بين مصر في ظل «الإخوان» وحركة حماس، ووراءها الجماعات الإسلامية المسلحة والتكفيرية والإرهابية العابرة للحدود، في الشهور الثلاثة الأولى من حكمهم. إذ تركت مصر الإخوانية لحركة حماس، الحبل على الغارب، فيما يتعلق بإنشاء المزيد من الأنفاق، وبأن تقوم أجنحة حماس المسلحة، خاصة كتائب عز الدين القسام، بنقل خبرات التدريب العسكري إلى الجماعات الإسلامية المصرية وغير المصرية التي تجمعت في سيناء. وفي السياق ذاته، اختفت تماما أي جهود مصرية لتحقيق مصالحة فلسطينية بين حكومة حماس في غزة والسلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله. كما اختفى أيضا الاهتمام المصري بملف المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية. وتقلصت إلى حد كبير الاتصالات المصرية الرسمية مع السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس.
في ظل هذه التطورات، أعيد طرح الأسئلة ذاتها التي طرحت من قبل، حول طبيعة حركة حماس كحركة مقاومة، بينما هي تمارس سلطة حكومية على قسم من الشعب الفلسطيني يعيش على جزء مهم من أرض فلسطينية، خاصة منذ الاقتتال مع حركة فتح وإنهاء وجودها في القطاع صيف 2007، مما جعل القطاع خاضعا تماما لسطوة حماس وحكومتها التي لم يعترف بها أبدا.
هذه الأسئلة، كانت قد طرحت بقوة بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، وفق إجراءات وآليات اتفاق أوسلو 1993 الخاص بالحكم الانتقالي والمرفوض تماما من الحركة، وقوامها هل يمكن الجمع بن السلطة الحكومية وما تعنيه من التزامات تجاه الشعب للبقاء والتطور، ومقاومة مسلحة تعمل سرا في غالب الأحوال، وذات هدف أصيل يتمثل في مواجهة الاحتلال وتحرير الأرض، ومن ثم بناء الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة والمترابطة جغرافيا؟!
تناقضات السلطة والمقاومة
ورغم التناقض الجوهري بين التزامات الحكومة والسلطة التي تتطلب الانفتاح على العالم وتأمين الاحتياجات المعيشية للمواطنين وتطوير حياتهم، والتزامات المقاومة التي تتطلب الانخراط في أعمال عسكرية وشبه عسكرية، وبناء ظهير مجتمعي يحمي تلك الأعمال، ويتحمل التضحيات، ويمدها بالقدرات المادية والبشرية، فقد رأت حماس في نفسها القدرة على الجمع بين هذين الالتزامين، على الأقل من خلال التمسك بقدراتها العسكرية التي يمكن أن تستخدم بين الحين والآخر، في توجيه ضربات صاروخية ضد إسرائيل، التي عادة ما ترد بعمليات عسكرية كبيرة تخلف دمارا وشهداء كثيرين. وكذلك الانخراط في أعمال الدعاية ضد السلطة الوطنية ورئيسها ورفض منهج المفاوضات، مع تحمل نتائج ذلك دوليا. والنظر في الوقت ذاته، إلى فصل القطاع تماما عن الضفة الغربية والسلطة الفلسطينية، والسيطرة عليه بقوة، على أنه خطوة نحو تحرير فلسطين، مع تجاهل التداعيات الخطيرة لهذا النهج على القضية الفلسطينية كقضية قومية تجمع بين تحرير الأرض والشعب. وقد أتاح ذلك لإسرائيل، فرصة ذهبية للتنصل من كل التزاماتها؛ سواء ما يتعلق منها باتفاق أوسلو أو التفاهمات الأخرى التي تلته، واستمرت كل حكوماتها في محاصرة القطاع، وبناء المستوطنات في الضفة، وبناء جدار عازل التهم مساحات واسعة من الضفة وقسمها إلى كانتونات صغيرة غير مترابطة، والضرب بعرض الحائط كل الجهود الدولية للدخول في عملية تفاوض جادة تنهي الصراع، مستندة في ذلك إلى التشرذم الفلسطيني وعدم وجود قيادة تستطيع اتخاذ قرارات كبرى يؤيدها غالبية الفلسطينيين.
نتائج كارثية
لم تهتم حماس، سواء قيادتها السياسية التي كانت موجودة في دمشق أو حكومة الأمر الواقع في غزة، كثيرا بالنتائج الكارثية للتشرذم الفلسطيني. وتعاملت مع جهود مصر في سنوات حكم مبارك الأخيرة، لتحقيق مصالحة مع فتح، باعتبارها فرصا لإضاعة الوقت، والحصول، من ورائها، على اعتراف دولي بأنها سلطة حكومية متكاملة الأركان، وعلى بعض تسهيلات من مصر لمرور الأفراد والبضائع والتغاضي عن أنفاق التهريب.
ورغم وضوح أن نهج الجمع بين المتناقضات لا يؤدي إلى نتائج كبرى على الأرض، بل على العكس يحمل في طياته عناصر الفشل الجسيم، فقد ساعد حماس على الاستمرار في هذا النهج ارتباطها العضوي مع دول وقوى إقليمية شكلت ما اعتبرته جبهة الممانعة والمقاومة، أي ممانعة السياسات الأميركية ومقاومة القوة الإسرائيلية، وهي سوريا التي استقرت فيها قيادة حماس السياسية لفترة طويلة، وإيران التي قدمت الأموال والأسلحة بكثافة، وحزب الله الذي قدم الخبرات القتالية. وفي فترة المد التركي الأردوغاني، نالت حماس في غزة الكثير من التأييد الدعائي وبعض المعونات.
ظنت حماس ومؤيدوها الإقليميون أن مجرد استمرار هذه الصيغة هو عين النجاح، رغم أنها صيغة تضمنت فعليا وقفا كاملا وصارما للصواريخ الفلسطينية تجاه الأراضي الإسرائيلية، لا سيما بعد وقف العدوان الإسرائيلي على غزة المعروف بـ«الرصاص المصبوب» نهاية يناير (كانون الثاني) 2009، بعد تدخلات مصرية كبيرة لدى إسرائيل، وضغوط مارستها السعودية على الولايات المتحدة.
ومن المتناقضات الكبرى أن حماس عدت الوقف المتبادل للأعمال العسكرية مع إسرائيل، وتعهدها بالسيطرة على كل الفصائل الفلسطينية المسلحة العاملة في القطاع، وقيام الولايات المتحدة كجزء من التفاهم الكلي بما يلزم لمنع وصول الأسلحة إلى القطاع خاصة من البحر - انتصارا كبيرا، بل ودليلا على حيوية النهج المقاوم الذي تتبعه! وتناست حماس ومؤيدوها أن عملية «الرصاص المصبوب» خلفت خسائر رهيبة، كتدمير أكثر من 1500 موقع ومئات الشهداء وآلاف المصابين وتشريد ما يقرب من 40 ألف أسرة فلسطينية.
الأكثر من ذلك، فإن التفاهمات الخاصة بوقف إطلاق النار وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع، لم تتضمن أي تغييرات في طريقة عمل المعابر التي تربط بين القطاع وإسرائيل، وكذلك معبر رفح الذي أصرت مصر الإخوانية على استمرار الترتيبات التي كان معمولا بها إبان وجود السلطة الفلسطينية قبل صيف 2007 في القطاع، كأساس لعمل المعبر لعبور الأفراد وعدم السماح لتحويله إلى معبر للسلع، كما أرادت حكومة حماس.
لقد جسدت هذه التفاهمات والخسائر المادية والبشرية فشلا جسيما لنهج حكومة وحركة حماس، ومع ذلك لم تحدث أي مراجعات، بل جرى التركيز على أن مجرد استمرار حماس كحكومة في غزة، هو دليل الانتصار الناصع.
الربيع العربي وتداعياته
حين جاء الربيع العربي وما حمله من تغييرات جذرية خاصة في مصر، بدا الأمر مبشرا وحاملا لخير كثير، فقد جرى التخلص من نظام مبارك، وافتقدت السلطة الفلسطينية الداعم الأكبر لها، وصعد نجم الإخوان المسلمين مصحوبا بحركة شعبية إسلامية ومدنية أرادت أن تغير كل شيء، باعتباره من تراث حكم الرئيس المعزول. بدا الأمر في أيامه الأولى كأنه يصب في مصلحة حماس جملة وتفصيلا، إلى أن مر الربيع العربي على سوريا، أخذ يتحول تدريجيا إلى دماء غزيرة للسوريين ومعارك حربية بين النظام والمعارضة التي باتت مسلحة، وإلى أفق سياسي مسدود. وجاء زمن رد الجميل ودفع الثمن. واتخذت حماس قرارها بالتخلي عن دعم دمشق ورئيسها بشار، وتجاهلت العلاقات الاستراتيجية والمالية والتسليحية مع إيران وحزب الله، وقررت الدخول بقوة في محور جديد بدا مبشرا، تقوده مصر ما بعد مبارك، وتدعم الأمر نهائيا مع وصول «الإخوان» إلى سدة الرئاسة المصرية. بعبارة أخرى، فضلت حماس تحالفات جماعة الإخوان الدولية التي نجحت في مصر وتقاتل في سوريا، وتنشط بقوة في عدد آخر من الدول العربية.
في ظل هذه التغيرات الإقليمية الجذرية، التي لم تتوقف بعد، لم تكن المقاومة في عرف حماس سوى البقاء في السلطة والحرص على التفاهم مع إسرائيل الخاص بمنع إطلاق الصواريخ. ومع وصول الرئيس الإخواني مرسي إلى رئاسة مصر، تدعمت ثقة حماس، وباتت ترى الأمور بعيون أخرى؛ عيون الطرف المنتصر بلا حدود.
المفارقة هنا، أن حماس، التي تعاملت مع هذه التغيرات باعتبارها انتصارا تاريخيا، واستندت إلى وحدة المرجعية الفكرية مع النظام المصري الإخواني الجديد، كانت تخسر كل يوم تعاطف الشعب المصري. ويكمن السبب الرئيس فيما عرف بدور حماس في الهجوم على عدد من السجون المصرية يومي 28 و29 يناير 2011، وما ترتب عليه من خروج قيادات جماعة الإخوان التي كانت في تلك السجون آنذاك، وآلاف عدة من السجناء الخطرين، ومقتل عدد من ضباط الشرطة والجنود. وهو الدور الذي ثبت في تحقيقات واحدة من المحاكمات الجنائية الشهيرة، التي استمرت قرابة العام، وهي محكمة جنايات مستأنف الإسماعيلية، التي طلبت الهيئة الخاصة بها قبل ما يقرب من شهرين من نهاية حكم الرئيس المعزول مرسي، من النائب العام تحريك دعوى جنائية، بحق من ثبت أنهم اتصلوا ونسقوا من جماعة الإخوان المسلمين مع حركة حماس، لاقتحام عدد من السجون المصرية لتهريب عناصر مصرية وعربية منها. وهو القرار الذي فهم كثيرون أنه يتيح محاكمة الرئيس مرسي نفسه بتهمة الخيانة، فضلا عن الهروب من السجن. وبالفعل، هناك محاكمة لعدد من قيادات الجماعة متهمة بالاتصال بالخارج والإضرار بأمن الوطن.
وبينما ينظر المصريون إلى حركة حماس باعتبارها شريكا في جريمة جنائية، وأنها وراء بعض عمليات القتل التي حدثت بعد ثورة 25 يناير، ظلت حماس تنفي دعائيا دون تقديم الدليل، وهو نفي لم يغير شيئا من القناعات الشعبية التي أخذت في الانتشار، وشكلت أحد أسباب خروج ملايين المصريين في 30 يونيو مطالبين بعزل مرسي وإنهاء حكم «الإخوان».
العدوان الإسرائيلي وتفاهم نوفمبر 2012
أدت ثقة حماس بتحالفاتها الاستراتيجية الجديدة، إلى التخفف من تفاهمات فبراير (شباط) 2009، خاصة منع إطلاق الصواريخ على إسرائيل. ومن هنا، تكررت حوادث إطلاق الصواريخ من القطاع، رغم أنها لم تكن تحقق أي نتائج ذات معنى. في الوقت نفسه، سعت إسرائيل إلى اختبار رد الفعل المصري في ظل الرئيس الجديد، واستعادة الردع تجاه حماس، إضافة إلى أجواء الانتخابات الإسرائيلية ورغبة نتنياهو في تحقيق انتصار عسكري يساعده في العودة إلى رئاسة الحكومة مرة أخرى، مما شكل بيئة داعمة لشن عدوان جديد على غزة، الأمر الذي حدث بالفعل في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) 2012. وهذا ما عد اختبارا لجماعة الإخوان ورئيسها مرسي وتحالفها مع حماس.
حرص الرئيس مرسي آنذاك على التعامل مع العدوان الإسرائيلي باعتباره مسؤولا عن القطاع، وقام بسحب السفير المصري، واتصل مرارا بالرئيس أوباما، وبعد ما يقرب من أسبوع من العدوان الإسرائيلي تبلورت ملامح تفاهم انتهى إلى النتائج السابقة ذاتها، أي الوقف المتبادل لإطلاق النار والصواريخ، من دون أي تغيير في قضية المعابر، مع خسائر بشرية ومادية في القطاع.
لكن الأمر المهم هنا، هو أن مصر في ظل «الإخوان» أصبحت الضامن لحماس في وقف إطلاق الصواريخ، وهو ما عد تغيرا جوهريا في سياسة مصر تجاه القطاع، وحماس تحديدا، ويعني اقترابا أكثر لفكرة مسؤولية مصر عن شؤون القطاع كبديل لإسرائيل في التزاماتها القانونية والإنسانية كقوة احتلال. ومع اتضاح الحقائق لاحقا، تبين أن هذا الدور المصري الجديد لم يأت من فراغ، بل كان جزءا من التزامات إخوانية تجاه الولايات المتحدة بالتوصل إلى حل تاريخي يتضمن تغييرا في حدود مصر وخريطة قطاع غزة، وبناء دويلة تحت اسم فلسطين، مع تخفيف القيود عن حكومة حماس. وفي الآن نفسه، فتح الرئيس مرسي المجال بلا حدود أمام حماس لإنشاء المزيد من الأنفاق السرية، رغم تحفظات وتحذيرات واعتراضات الأجهزة الأمنية المسؤولة عن هذا النهج.
المصريون لا يفرطون في الأرض
من المهم هنا، تأكيد أن المصريين لديهم حساسية فائقة تجاه أي أفكار تمس الحدود المصرية من أي جهة كانت. لذا تنامى في مصر شعور بالدهشة الشديدة والغضب الجارف تجاه ما قيل عن قبول الرئيس المعزول وجماعة الإخوان التنازل عن جزء من أرض سيناء، مقابل إرضاء الأميركيين والإسرائيليين عن حكم «الإخوان»، ومنحه صك البقاء والاستمرار. وظهر غضب مصري شديد من نتائج الانفلات الأمني الذي تعانيه سيناء منذ فترة طويلة، وازداد عمقا وكثافة في فترة حكم «الإخوان»؛ فرغم قصرها الزمني، كان الثمن كبيرا، وتمثل في تحول سيناء، لا سيما منطقتي الوسط والشمال، إلى مناطق يرتع فيها التكفيريون والإرهابيون والقاعديون والسلفيون المسلحون، وكلهم ضد الدولة المصرية ومؤسساتها لا سيما الأمنية والدفاعية، وهذا ما تشهد عليه عمليات الاعتداء المتواصلة على الجنود المصريين وآلياتهم العسكرية ومعسكراتهم، إضافة إلى عصابات تهريب السلع والمخدرات والأسلحة والأفراد، سواء مع نظرائهم في القطاع أو مع المافيات الإسرائيلية.
وللتاريخ والحق، فإن جزءا كبيرا من حالة الانفلات الأمني في شمال سيناء، تعود إلى قلة أعداد القوات المصرية فيما يعرف بالمنطقة (ج) القريبة من الحدود مع إسرائيل، حيث تحظر معاهدة السلام لعام 1979 على القوات المصرية الوجود فيها إلا في شكل حرس حدود بأعداد محدودة وتسليح شخصي، إضافة إلى قوات شرطة. الأمر الذي ساعد على غياب قبضة الدولة عن مناطق كبيرة في وسط سيناء وشمالها، ومن ثم تحولت هذه المناطق، إلى جنة ذهبية لكل مهرب وخارج على القانون، ولكل تكفيري وإسلامي مسلح عنيف. وكما هو معروف، فإن ثورة 25 يناير 2011 أدت إلى انكسار جهاز الشرطة المصري، مما جعل الفراغ الأمني مسألة شائعة في أماكن كثيرة. وكانت سيناء أبرز تلك الأماكن وأكثرها معاناة من هذا الفراغ الذي استمر حتى نهاية حكم الرئيس المعزول محمد مرسي.
من جانب آخر، أسهم الحكم الإخواني في زيادة الطين بلة، نتيجة سعي جماعة الإخوان إلى بناء تحالفات قوية مع الجماعات الإسلامية بكل توجهاتها، وذلك على حساب مؤسسات الدولة المصرية ذاتها. وكانت قرارات العفو التي اتخذها الرئيس مرسي لكل عناصر الجماعات الإسلامية، بمن فيهم المتورطون المباشرون في عمليات إرهابية وقتل واستحلال دماء وأموال للمسلمين والأقباط في عقد التسعينات من القرن الماضي، الباب الواسع لخروج مئات من الإسلاميين ذوي الآيديولوجيات العنيفة، الذين وجدوا في شمال سيناء المأوى المثالي للبقاء وإعادة التنظيم والتجمع والاتصال بنظرائهم داخل غزة وخارجها، وهنا لعبت الأنفاق السرية مع القطاع الدور الأكبر في تسهيل التواصل الدائم وبناء تحالفات بين هؤلاء والجماعات ذات التوجه التكفيري والسلفي الجهادي في قطاع غزة، ونسج علاقات تكاملية في التدريب وتهريب الأسلحة والذخائر بين الجهاديين والتكفيريين المصريين و«كتائب القسام» التابعة لحماس.
وأسهمت وحدة الفكر والانتماء الآيديولوجي في تقوية هذه العلاقات ذات الطبيعة العسكرية، التي تصور الرئيس مرسي، في لحظة معينة، أن هذه التحالفات العضوية المسلحة، ستكون السند لحكمه في مواجهة مؤسسات الدولة المصرية، خاصة الأمنية. وهذا ما عبر عنه صراحة في آخر خطابين له، نهاية يونيو الماضي، حين قال بأن البديل لحكمه هو العنف والفوضى وسفك الدماء، وكذلك تصريح القيادي الإخواني محمد البلتاجي الشهير في منطقة «رابعة العدوية»، حين كانت خاضعة لسيطرة ميليشيات الجماعة، يوم إعلان عزل مرسي، بأن العنف في سيناء، الذي بدأ في اليوم ذاته بعد فترة سكون طالت طوال فترة حكم «الإخوان»، لن يتوقف إلا بعودة مرسي إلى كرسي الرئاسة.
تحولات حماس مرة أخرى
جاء عزل مرسي ونهاية حكم «الإخوان» لمصر، بمثابة كابوس ثقيل بالنسبة لحماس. فقد اختفى الحليف الكبير، وفشلت الخطط الخاصة بتغيير طبيعة القضية الفلسطينية، وأصبحت حماس وحيدة في مهب الريح. وبحكم قسوة الصدمة، تصورت حماس أنها عبر المواقف الدعائية الفجة ضد السلطة السياسية الجديدة في مصر، يمكنها أن تغير واقع الحال. لكن حماس، فشلت مرة أخرى في إدراك طبيعة التحول السياسي والشعبي في مصر، بما في ذلك عدم إدراكها معنى الإجراءات الأمنية والعسكرية التي تقررت فعلا، من أجل السيطرة الكاملة على الحدود مع غزة، وإغلاق الأنفاق تماما، وأبرزها دخول آليات عسكرية وأعداد كبيرة من الجنود وطائرات هليكوبتر، رغم القيود التي تضمنتها معاهدة السلام مع الجار الشمالي.
كان رد فعل حماس غريبا ويعبر عن غياب الرؤية. فقد هددت الجيش المصري، وبثت دعايات سوداء ضده، لم تبث إسرائيل مثلها، ولوحت بتحركات عسكرية نحو الحدود مع مصر، وأنكرت التضحيات المصرية التاريخية للقضية الفلسطينية، ورفضت المصالحة مع السلطة الوطنية. كما رفضت أي جهد يبذل من أجل استعادة المفاوضات. وأخيرا، قررت إعادة فتح قنوات الاتصال مع إيران وحزب الله، لعل ذلك يعيد الأموال والأسلحة الإيرانية إلى سابق عهدها.
لكن الرد الإيراني الأولي لم يحقق المطلوب. فقد طلبت طهران اعتذار حماس عن تقاعسها في دعم نظام بشار الأسد، كشرط لاستعادة العلاقة معها. كما طالبتها بإعلان وقوفها ضد ثورة الشعب السوري. الغريب أن تحرك حماس جاء في ظل دعاية تقول إنها ما زالت في معسكر المقاومة الذي لم يعد موجودا أصلا.



معارك الظل في سوريا... محاربة «داعش» وإعادة بناء الدولة

سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
TT

معارك الظل في سوريا... محاربة «داعش» وإعادة بناء الدولة

سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)
سوريون يحتفلون في الساحات العامة بسقوط نظام الأسد 8 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)

عند مداخل دمشق المتفرعة من جهة أوتوستراد المزة، وقبيل الوصول إلى ساحة الأمويين يتوزع شبان بمظهر شبه عسكري على جانبي الطريق يبيعون أعلاماً ورايات احتفال بـ«يوم التحرير»، يقابلهم في الشوارع الأضيق والنواصي المؤدية إلى أحشاء المدينة نساء بأثواب طويلة وحجاب يغطي نصف الوجه أحياناً، يجرجرن طفلاً او اثنين، ويحملن أرغفة خبز للبيع. تكدس النسوة الأرغفة فوق بعضها بعضاً وتدفع بها إلى المارة ونوافذ السيارات بلا غطاء أو كيس يحميها من الأدخنة العابقة برائحة المازوت والأتربة المتطايرة من أحزمة البؤس والدمار المطبقة على العاصمة.

منذ بعض الوقت تحول بيع الخبز بهذه الطريقة «مهنة»، نسائية إلى حد بعيد، انتعشت أكثر مع ازدياد الفقر والعوز؛ فتذهب النساء للانتظار في طوابير الأفران لشراء حصة من الخبز يعدن لبيعها مقابل مبلغ إضافي صغير، ويعاودن الاصطفاف في الطوابير، وهكذا دواليك حتى ساعات متقدمة من الليل. المشهد لا يقتصر على دمشق ومحيطها، بل يتكرر على امتداد المدن والمناطق السورية التي زرتها من حمص وإدلب وحلب، وكأن المشهد النسائي هذا أصبح جزءاً من نسيج الأزمة المستمر وأحد مقومات الصمود اليومي للسوريين.

مشهد لمدينة دمشق (الشرق الأوسط)

دمار مديد

ولئن كانت النساء بوجوههن المنهكة وأيديهن المخشوشنة خير شاهد على نكبة عصفت بالبلاد لنحو 15 عاماً، فإن الدمار المديد الذي لا يحدّه نظر، يشهد هو الآخر على هول ما كان. أحياء وضواحٍ كاملة سويت بالأرض تطوّق دمشق وتكاد تخنقها بأتربتها وبقايا الردم فيها، كما وتسود الحواضر الكبرى وأريافها، حيث الركام واللون الرمادي الأغبر يمتد على مساحات شاسعة من البلاد. فأن تقود سيارتك لأكثر من 350 كلم عبر الأراضي السورية ولا ترى شجرة أو حيّاً أو بيتاً ناجياً، يعني أنك تعاين عملياً ما خلفته لأكثر من عقد من الزمن، آلة قتل وتدمير وانتقام أقرب ما يكون إلى الثأر الشخصي. فحجم الخراب وشكله لا يعكسان مجرد معارك بين أطراف متنازعة وتفوق عسكري لجهة على أخرى، وإنما يكشف عن نية واضحة بتصفية الناس وأرزاقهم، ودفن أي حلم أو بصيص أمل لديهم بالعودة إلى الديار. فما لم يقضِ عليه القصف بشكل مباشر، حُرق ونُهب وتصحّر عن عمد. لكن العودة تتم وإن ببطء شديد ودفع ذاتي.

وحدها فقاعات قليلة نجت في دمشق وأسواقها، أو خارجها من المناطق والمدن، وازدهر بعضها، لحسابات طائفية أو مصالح سياسية أو تجارية تتعلق بشكل أساسي بتصنيع الكبتاغون وترويجه.

دمار من جرَّاء المعارك بين قوات الأسد وفصائل المعارضة السابقة في مخيم اليرموك بضواحي دمشق (إ.ب.أ)

دمشق... الواجهة البراقة

كانت المدينة على موعد مع احتفالات استثنائية بالذكرى السنوية الأولى لهروب بشار الأسد، والاستعدادات تسير على قدم وساق. منصات ومكبرات للصوت وتنظيم للسير ولافتات تشدد على الوحدة الوطنية «شعب واحد... وطن واحد» وأن «الحقبة السوداء انتهت». برنامج الحفل يصل إلى الهواتف النقالة عبر رسائل قصيرة تشجع على المشاركة وحضور الفعاليات «للاحتفال بالحرية والأمل... وإكمال الحكاية». لكن أي حكاية؟ سؤال يتردّد في الشوارع ذاتها التي تُباع فيها الأرغفة على الأسفلت وتشهد احتفالات النصر.

فهنا، تكثر الحكايات وتتشعب حتى تكاد تتناقض كمثل فقاعات الأمكنة التي تتجاور ولا تلتقي. ثمة انقسام عمودي حاد في وجهات النظر وتراشق يشبه إلى حد بعيد مرحلة 2011 حين انقسم السوريون إلى حد القطيعة بين مؤيد ومعارض، مقابل إصرار رسمي واضح على تصدير صورة مصقولة عن المرحلة.

بهو فندق على الطراز الدمشقي القديم في منطقة باب توما (الشرق الأوسط)

معركة الأمن الصامتة

خلف الواجهة الاحتفالية، تُدار معركة أخرى أقل صخباً وأكثر تعقيداً. «يشكل (داعش) والمهاجرون (المقاتلون الأجانب) تحديداً التحدي الأبرز بالنسبة لنا» يقول مصدر أمني سوري رفيع مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، لافتاً إلى أن الاعتقال و«التحييد» يتمّان بشكل دوري. أما كيف يتم ذلك (وهو مصطلح شائع في تركيا يستخدم ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني)، فتتقاطع المعلومات مع مصدر آخر يفيد بأن «العمل الأمني يجري بدقة وحرفية وإن لوائح المنتمين إلى تنظيمات متطرفة تحت مظلة عريضة هي (داعش)، موجودة لدى الأجهزة الأمنية وهي تقوم بتعقبها». وأضاف: «نعرفهم واحداً واحداً ونقوم برصدهم ووضعهم تحت المراقبة. كما أن النظام السابق ترك آلية عمل وتعقب دقيقة جداً نعتمد عليها حتى الآن إلى درجة كبيرة».

رجال أمن سوريون في ساحة سعد الله الجابري في حلب ليلة الاحتفال بسقوط نظام الأسد في 7 ديسمبر 2025 (الشرق الأوسط)

التقيت المصدرين قبل أيام قليلة على حادثة تدمر الأخيرة، لكنها حين وقعت، لم تبدُ خارج السياق العام للقاءات وما كشفت عنه المعلومات المتقاطعة. ذاك أن المسؤولين والأشخاص في مواقع أمنية دقيقة بدوا مدركين مسبقاً لهذا الاحتمال بصفته واحداً من المخاطر الأمنية المتعددة، لا سيما بعد انضمام سوريا رسمياً إلى تحالف «محاربة الإرهاب».

ولخّص مصدر هذه المخاطر بثلاثة أنواع من المواجهات «أولاً المواجهة مع (داعش) ومتفرعاته، وهي تجري بحذر شديد؛ لأنها تهدد الرئيس أحمد الشرع بشكل شخصي، وثانياً المواجهة مع (قسد) وهي تهدد الدولة الناشئة وهويتها على المدى البعيد، وثالثاً مواجهة باردة وأقل حدة مع إسرائيل بسبب أحداث السويداء».

وفي رواية شبه رسمية، لم يستبعد المصدر الأمني أن يشكل المفرج عنهم من مخيم الهول «قنابل موقوتة» يتم استغلالها لزعزعة الأمن داخلياً وتلبية رغبات المتطرفين الرافضين التحول الحاصل في شكل السلطة من جهة، ولإطلاق رسالة للخارج مفادها أن سحب ملف «محاربة الإرهاب» من يد «قسد» لن يجدي؛ إذ يمكن أن «يفتح الباب أمام قطعان من الذئاب المنفردة» من جهة ثانية.

هل تكفي المقاربة الأمنية؟

تحدي الدولة ليس أمنياً فقط، وهذه المقاربة الصرفة لا تحظى بإجماع داخل دوائر السلطة نفسها. فبعكس من يرى في «داعش» والتطرف «عقدة تقنية» يمكن حلها بمقاربة أحادية، يرى مسؤول مقرب من «الهيئة السياسية» أن «المشكلة الفعلية تكمن في استيعاب تلك الكتلة البشرية الهائلة التي نشأت خارج أي سياق اجتماعي طبيعي لسنوات عدّة، خارج منظومة التعليم أو الأسرة أو أي شكل ناظم للحياة».

طلاب يحضرون الفصول الدراسية داخل مدرسة معر شمارين الابتدائية وتبدو جدرانها مليئة بثقوب الرصاص من القتال بين القوات الموالية للرئيس السابق بشار الأسد والمعارضة بقرية معر شمارين في ريف إدلب بسوريا 19 أكتوبر 2025 (أ.ب)

وأضاف: «التحدي الكبير هو في استيعاب هؤلاء ودمجهم ضمن مفهوم الدولة وإعادة تأهيلهم لهذا الغرض». وقال: «كما تم استقطاب هؤلاء المراهقين إلى طيف معيّن من التشدد، يجب اليوم العمل على نقلهم إلى مكان وسطي. فإذا كان الرئيس نفسه يقول إننا اليوم نغادر الحالة الفصائلية وننتقل إلى مفهوم الدولة، فكيف يكون هذا الانتقال على مستوى القاعدة؟ هل بشكل فردي وأمني فحسب أم مجتمعي أيضاً؟».

وفي السياق، ذهب أحدهم لتفسير عبارة «أطيعوني ما أطعت الله بكم» التي أطلقها الشرع من الجامع الأموي ليلة الاحتفال الكبير, وأثارت غضب الشرائح المدنية والعلمانية المعارضة، إنها رسالة لشريحة أخرى هي التي تضعها الدولة اليوم نصب أعينها وتسعى لاحتواء غضبها عبر دعوة «دينية» صريحة لـ«إطاعة الحاكم وعدم الخروج عنه».

صورة نشرتها وزارة الداخلية السورية لجانب من عملية ضد «داعش» في ريف إدلب الاثنين 1 ديسمبر 2025 (الداخلية السورية)

ولئن يبدو الكلام أسهل من الفعل، إلا أن الواقع المعاش أصعب بأشواط.

فإذا كان الأمن مضبوطاً إلى حد بعيد في المدن الرئيسية كدمشق وحلب عبر الانتشار الأمني الكثيف وبـ«استخدام تقنيات حديثة منها المسيَّرات»، وذلك في فترة حساسة شهدت تجمعات هائلة تزامناً مع الاحتفالات بالذكرى السنوية الأولى لسقوط النظام السابق، فإن المساحات الشاسعة في الأرياف، حيث الدمار الهائل والفقر المدقع والبطالة المستشرية، متروكة لحالها إلى حد بعيد. وبينما تتوزع حواجز الأمن العام على الطرقات الرئيسية بين المحافظات، فإن الحواضر الجانبية وأزقة البلدات متروكة لحالها. ولعل الاستثناء الذي تمتعت به «إدلب» المدينة لفترة من الزمن، وكثر الحديث عنه من خدمات ورعاية وإدارة، لم يسحب منها فقط بعد التحرير وإنما جاء هذا الانفتاح على بقية المناطق السورية ليضعها أمام استحقاقات الحياة الفعلية، لتدرك المدينة وريفها المهمل والمدمّر أن الوضع كان أقرب إلى «إدارة أزمة»، لا يزال إرثها حاضراً حتى في اللغة اليومية، كأن يتخاطب العسكريون فيما بينهم ومع المدنيين العابرين على الحواجز بتسمية «شيخ» و«استعن بالله» للقول امض في سبيلك.

ملصق لدائرة الهجرة والجوازات السورية عند المعبر الحدودي مع لبنان في جديدة يابوس (الشرق الأوسط)

وهناك بين ريفي إدلب وحلب على سبيل المثال قرى ومدن صغيرة معروفة بتوجه الأهالي فيها وانتمائهم، وليست كلها على ذاك الاعتدال وتلك الوسطية التي تعتلي منصات دمشق. توجهات تجعل السائقين يسلكون طرقاً أطول لقطع المسافات، لكن «أقل خطورة» بظنهم.

وفي ذلك الشريط يشكل الشبان، لا سيما الأصغر سناً، وقود الفصائل المسلحة التي لم يبق منها في الميدان في السنوات الأخيرة إلا «هيئة تحرير الشام» بشكل أساسي، وانضم الآلاف منهم بعد سقوط النظام السابق إلى الأمن العام أو الجيش وليس لهم اليوم مورد رزق آخر. فحتى منازل أهلهم المدمرة أو أرزاقهم المنهوبة لا يملكون ثمن ترميمها، ويجد كثيرون منهم في المنامة والمأكل في الثكنات العسكرية عوضاً عن سوء حالهم خارجها.

نسيج هويات مقاتلة

والحال، إن تلك هويات تبلورت في سنوات التسلح، وتحديداً ما بعد 2013، ولكن جذورها الاجتماعية تعود إلى ما قبل ذلك بزمن. فإذا كان اليوم يطلق على كل من هو مرتبط بالسلطة الجديدة وصف «إدلبي» نسبة إلى إدلب معقل حكم «هيئة تحرير الشام» خلال الأعوام التسعة الأخيرة، وهو وصف يحمل تعالياً في دمشق وحلب، فإن فهم التباينات الاجتماعية والاقتصادية بين بلدات تلك الأرياف نفسها يعين على فهم الخيارات السياسية والعسكرية اللاحقة لأبنائها. فالبلدات المعروفة تقليدياً برابطة العائلة كوحدة اجتماعية متعاضدة، وامتلاك أراضٍ زراعية ثم الاعتماد على الهجرة في منتصف الثمانينات، آثرت تعليم الأبناء والبنات وتوجيههم نحو المهن الحرة والوظيفة مع الحفاظ على سلوك ديني اجتماعي تقليدي يوصف بـ«التدين الفطري»، وهم ممن اختبروا التيارات القومية والعروبية قبيل صعود «البعث» بقبضته الأسدية.

صورة ملتقطة يوم 28 نوفمبر 2024 في إدلب تظهِر مقاتلين من الفصائل السورية المسلحة خلال المعركة (د.ب.أ)

يقابل هذا النموذج بلدات صغيرة تقوم على العائلات الفرعية التي اعتمدت على العمل الزراعي الموسمي وسلك الشرطة والأمن في النظام السابق، وفرحت لانضمام أبنائها إلى «جبهة النصرة» حين بدأت بالاستقطاب؛ لما شكّله ذلك من انتظام في مسلك عسكري معارض لنظام الأسد، ولكنه أيضاً ذو بعد ديني واضح كان ممنوعاً اعتناقه. وإلى هذا، تأتي مناطق شاسعة لجهة البادية تحكمها القبيلة والعشيرة ونظام «الفزعة» الذي يعلو ويخبو حسب الظروف والمصلحة.

وهؤلاء كلهم، وإن تشاركوا في كونهم من العرب السنة، تباينوا في سلوكياتهم وانحيازاتهم واصطفافاتهم؛ ما انعكس لاحقاً في قدرة الفصائل المتشددة والأكثر تشدداً على اختراقهم وتجنيدهم مقابل من بقي عصياً عليها، فعملت على تسليط الطرف على المتن.

إدلب ومفاتيح دمشق

وإذ يقول الأمنيون اليوم إنهم يعرفون المتشددين «واحداً واحداً»، فلأنهم يعتمدون أيضاً على معرفة الجهاز الأمني في «الهيئة» بالفصائل المتشددة والمنتسبين إليها في تلك البلدات ممن حاربتهم خلال السنوات الأخيرة كـ«جند الأقصى» و«حراس الدين» الموالي لـ«القاعدة»، كما ويعتمدون كثيراً على المخبرين. ولا تزال إدلب إلى حد بعيد أشبه بـ«المعقل الآمن» الذي يملك مفاتيح دمشق ومفاصلها ولا يزال يعمل بوتيرته السابقة. يكفي مثلاً أن المحاكم والسجلات الإدارية والمدنية لا تزال تخضع لـ«المحاكم الشرعية» التي حكمتها منذ منتصف 2013، بعكس بقية المناطق السورية ولا سيما العاصمة، حيث تصب المعاملات كافة.

عملية أمنية في مدينة تدمر عقب الهجوم الإرهابي على وفد سوري - أميركي مشترك (الداخلية السورية)

ويميّز محدثي بين أنواع من التجنيد قد تعتمدها «داعش» أو المجموعات المتفرعة منها لضرب الأمن بالاعتماد على تلك البنى الاجتماعية المختلفة؛ التجنيد الآيديولوجي، وهو الأسرع والأكثر فاعلية، خصوصاً بين الأصغر سناً الذين قطعوا شوطاً بتبني الأفكار المتطرفة ولم يستوعبوا بعد التحولات الجذرية التي شهدتها سوريا في عام واحد. والتجنيد بالمال وعنصر «الانتقام» بالاعتماد على حالة الفقر المستشرية بين من فقدوا مصدر دخلهم وسلطاتهم المعنوية، ومن ثم التجنيد ضمن بيئة «المهاجرين» أو المقاتلين الأجانب الغاضبين على ما حل بهم من تخلٍ ولم يعد لديهم عملياً ما يخسرونه.

الدولة الناشئة ونموذج «الصحوات»

حين عاد الرئيس السوري أحمد الشرع من زيارته الأخيرة إلى واشنطن كان محملاً بمهمة عسيرة؛ «مواجهة وتفكيك الشبكات الإرهابية» من بقايا تنظيم «داعش» و«الحرس الثوري» الإيراني و«حزب الله» و«حماس»، حسب ما قال حرفياً المبعوث الأميركي إلى سوريا توم براك. وفي حين تولت إسرائيل ضرب «حزب الله» في لبنان و«حماس» في غزة، بقي على سوريا مواجهة ذيولهما لديها بينما الأصعب يبقى مقارعة «داعش» ومتفرعاته ممن كانوا حتى أمس قريب «رفاق سلاح» لـ«هيئة تحرير الشام». وفي حين يترقب كثيرون شكل هذه المواجهة وسبل ذلك التفكيك على الساحة السورية، سيما في غياب جيش متماسك ذي عقيدة قتالية واضحة، فإن واشنطن من جهتها سبق واختبرت صيغة مشابهة من المواجهة السنية - السنية في عراق ما بعد صدّام، تحت مسمّى «الصحوات».

الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة يلوّحان للسوريين خلال عرض عسكري في دمشق (وزارة الدفاع السورية)

وقام نموذج الصحوات بشكل أساسي على من وصفهم مصدر عراقي مطلع بـ«تحالف المتضررين» من تنظيم «القاعدة» وبالاعتماد على حيّز جغرافي محدد هو محافظة الأنبار، ذات الانتماء العربي السني والتدين الاجتماعي - التقليدي. وعليه، فإن نموذجاً مشابهاً قد يقوم اليوم في سوريا على تحالف متضررين من «داعش» في الشمال والشمال الشرقي وبقيادة رسمية هي الدولة الناشئة المطلوب منها محاربة التطرف.

وأوضح المصدر العراقي الذي واكب من كثب مرحلة تأسيس الصحوات واندثارها لاحقاً مع حكومة نوري المالكي، إن العشائر في منطقة الرمادي (تحديداً البوريشة والبوعلوان والبوفهد، وبدرجة أقل الدليم) كانت عماد تلك الحرب؛ لما ألحقته «القاعدة» من ضرر بتجارتهم ومصالحهم ونسيجهم الاجتماعي.

وإذ كان بعضهم أُرغم على المبايعة في مرحلة ما، فإن التصادم لم يتوقف يوماً، ومثال عليه مقتلة قبيلة البونمر التي أعدم التنظيم منها نحو ألفي رجل. يقابل ذلك المثال في الحالة السورية قبيلة الشعيطات التي وقفت في وجه «داعش» ورفضت مبايعته؛ فارتكب فيها إحدى أكبر المجازر وقتل نحو 1800 من شبانها دفعة واحدة.

وفي تقاطع آخر يشبه تحديات المرحلة الدقيقة التي تمر بها سوريا، حيث التوازن الهش بين تحديات الأمن وبناء الدولة المرجوة، كان يطلب من كل من يريد الانضواء تحت لواء الصحوات «إعلان البراءة من (القاعدة) والانخراط في قوات الأمن ضمن الصحوات». وتم ذلك بتنسيق مع القوات الأميركية على أمل «تحويل تلك الكتلة السكانية (سنية عشائرية) رافعةً سياسية من ضمن مجموعة روافع سياسية أخرى».

شعارات في دمشق مع اقتراب ذكرى سقوط الأسد (د.ب.أ)

من السلاح إلى السياسة

ويلفت المصدر العراقي إلى نقطة أساسية في تحول مسار الصحوات من دورها الأمني إلى السياسي، فيقول: «على الرغم من القيمة الأمنية الكبيرة لتلك الصحوات في مرحلة ما، وما أنجزته على الأرض، فإنها لم تنجح في الانتقال من الدور الأمني/ العسكري إلى العمل السياسي. فعندما انخرط قادتهم في السياسة والانتخابات لم يحققوا تمثيلاً فعلياً ولم يخترقوا القواعد الشعبية».

وذلك تحديداً هو بيت القصيد في الحالة السورية، أي «التحول الجمعي من الحالة العسكرية الفصائلية في حيز جغرافي محدد، إلى حالة الدولة بمفهومها السياسي والإداري الأوسع والأشمل، والعسكري لجهة (احتكار العنف) ضمن مؤسسة جيش وطني واحد».

وبين امرأة تبيع الخبز على ناصية شارع، وشاب يتراقص في الساحات، وأجهزة تعمل على تثبيت الأمن وشكل الدولة، تبدو سوريا اليوم كبلد بفقاعات كثيرة. واجهة براقة تُعدّ للاحتفال كبطاقة بريد منمقة، وعمق اجتماعي وأمني هشّ لم تُحسم معاركه بعد.


«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

TT

«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

يطلب مسؤول أمني رفيع في الحكومة العراقية من سائق السيارة أن يسرع قليلاً. عليه اللحاق بطائرة تعيده من دمشق إلى بغداد. واحدة من الرسائل تتدفق إلى هاتفه تقول: «الفصائل السورية في طريقها إلى العاصمة». في مساء يوم السبت السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان المسؤول قد أنهى مهمة روتينية شمال شرقي سوريا، لتنسيق أمن الحدود، لكن البلاد الآن على وشك أن تكون بيد نظام جديد، يشع من أنقاض.

على أسوار دمشق، كانت سيارة المسؤول العراقي تنتظر «ترتيبات استثنائية» مع السلطات الجديدة في سوريا. ونشأت بين الجانبين «اتصالات من عدم».

يقول مسؤول سوري سابق في «إدارة العمليات العسكرية» إنها «المرة الأولى التي تواصلت فيها (هيئة تحرير الشام) مع مسؤول في الحكومة العراقية». ويقول عنصر أمن عراقي كان حاضراً في الترتيبات إن «الأمر تم بسلاسة غير متوقعة حينها، ودخلنا دمشق» رفقة عناصر من «الهيئة» صباح الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. ثم وصلت رسالة مثل الصاعقة: «هرب (بشار) الأسد».

مطار دمشق بعد سقوط نظام الأسد (أرشيفية-أ.ف.ب)

كان مطار العاصمة السورية مسرح أشباح. حتى ضباط «لواء النقل الجوي» الذين يعرفهم المسؤول العراقي اختفوا. لا أحد يسأل عن تذكرة أو جواز سفر. الممر الخاص بالدبلوماسيين مشرع للرياح. غادر الرجل على متن رحلة استثنائية إلى بغداد.

خلال النهار، تحلق الطائرة وعلى متنها المسؤول الأمني مع حقيبة أسئلة عن سوريا الجديدة. في مسار الرحلة ذاتها، لكن على الأرض، تغادر ميليشيات عراقية كانت تتمركز في سوريا منذ عام 2011. العجلات التي تحركت من ريف دمشق نحو بلدة البوكمال، قرب الحدود العراقية، قطعت رحلة أخيرة باتجاه واحد لمئات المسلحين، تاركين خلفهم خمسة عشر عاماً من «محور المقاومة» ينهار الآن مثل جبل من رمال.

تكشف شهادات خاصة جمعتها «الشرق الأوسط» من شخصيات عراقية ضالعة في الملف السوري قبل هروب الأسد كيف انسحبت ميليشيات من سوريا دون تنسيق، أو ترتيبات مسبقة، وما دار في الكواليس حول رؤيتها لما حدث، وأظهرت لاحقاً أن طهران وموسكو والأسد كانوا قد اتخذوا قرارات عدم القتال في سوريا في أوقات متباعدة، ولم يشاركوا المعلومات المطلوبة مع حلفاء عراقيين إلا في وقت متأخر.

كما تسلط الشهادات الضوء على ردود فعل مجموعات شيعية في أعقاب انهيار نظام الأسد، وصلت إلى المطالبة بتقوية نفوذ الفصائل المسلحة في العملية السياسية العراقية، وتعزيز ما بات يعرف بـ«الحاكمية الشيعية» في بغداد، حتى «تستوعب صدمة أولئك الذين تركوا سوريا».

الرئيس السوري بشار الأسد يصافح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في دمشق (أرشيفية)

«ليست مناورة... تم خداعنا»

في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعد ثلاثة أيام من بدء «ردع العدوان»، أجرى رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني مكالمة مع بشار الأسد. يومها كانت فصائل المعارضة السورية قد سيطرت على ريف حلب. وقال السوداني للأسد إن «أمن سوريا يرتبط بالأمن القومي للعراق». في اليوم التالي حاصرت المعارضة حماة. ولم يتصل السوداني بالأسد مرة أخرى.

في نينوى، المحافظة الشمالية القريبة من الحدود مع سوريا كان قادة فصائل شيعية يحاولون إرسال الدعم إلى سوريا، لأنه «مع تحرك الفصائل السورية كان عدد المسلحين الموالين لإيران أقل بكثير عما كانوا قبل سنوات». يقول مسؤول فصائلي في نينوى أيضاً إنهم «أخبروا المقاتلين أن عليكم حماية الشيعة والمراقد في سوريا، وكثيرون تحمسوا».

ويقول كاظم الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء» التي انخرطت في الميدان السوري منذ عام 2013، إن فصيله انسحب من هناك أواخر 2023. ويضيف: «كانت مهمتنا قد انتهت».

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي كانت تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

حتى عام 2018، ازدحمت سوريا بأكثر من 150 ألف مقاتل من «الحرس الثوري» الإيراني، وعناصر «حزب الله» اللبناني، وميليشيات عراقية، وفق تقديرات أمنية عراقية وسورية. بدا أن الجيش التابع للنظام السوري السابق أقل حجماً من كل الحشود الأجنبية. وبحلول ديسمبر 2023 حدث شيء ما، وسمح «الحرس الثوري» الإيراني بمغادرة مجموعات شيعية بعد مشاورات مع الأسد. قيل على نطاق واسع إن «صفقة إقليمية قادت إلى هذا التحول الميداني».

مع انسحاب جزء من الميليشيات الإيرانية وحلفائها من سوريا عام 2023، كان نظام بشار الأسد يحاول استعادة مقعده في الجامعة العربية. وتطلب ذلك منه الكثير من الوقت حتى يمهد لاندماج شبه مستحيل مع العالم العربي، لم ينجح في النهاية.

ومع بدء عمليات «ردع العدوان» في نوفمبر 2024، تقلص عدد الجماعات الإيرانية في سوريا إلى بضعة آلاف، لكن عودة الأسد لم تكتمل.

مع تحرك فصائل المعارضة نحو دمشق، كان الشعور السائد بأن الجماعات الشيعية تتحرك لسد نقص لم تنتبه إليه. في الثاني من ديسمبر 2024، تسلل العشرات من المسلحين ليلاً عبر طريق عسكري غير رسمي إلى الأراضي السورية، وأوقف طيران أميركي طريقهم بقصف أرتال قرب البوكمال. بعد ذلك، كان واضحاً أن الذين تحمسوا لدخول سوريا تراجعوا عن الفكرة.

في صباح اليوم التالي سيطرت قوات المعارضة السورية على 14 بلدة في حماة، وباتت تتفرغ لمعركة حمص. يومها أعلنت كتائب «حزب الله» العراقية أن «الوقت مبكر لاتخاذ قرار إرسال الدعم العسكري إلى سوريا».

ويقول مسؤول في فصيل شيعي مسلح إنه سأل مرؤوسيه في بغداد عن «عمليات ردع العدوان» في أيامها الأولى. قالوا له: «اطمئن... قد تسقط سوريا (بيد المعارضة)، لكن دمشق باقية (يقصد بيد الأسد)». ويضيف: «بعد أسبوع، لم نستوعب ما حدث».

قبل وصول المعارضة السورية إلى حمص، كانت المجموعات الشيعية ترجح أن الأمر سيتوقف هناك. يقول قيادي في فصيل شيعي إن «تقارير استخبارية اطلع عليها مسؤولون في جهاز الأمن الوطني العراقي، وقيادة الحشد الشعبي، وقادة فصائل، أفادت بأن الروس والإيرانيين سيوقفون زحف المعارضة، وأن مدينة حمص ستكون النقطة الفاصلة».

لم يستخدم الروس تفوقهم الجوي إلا بشكل محدود. ومع تحرك فصائل المعارضة من حماة باتجاه حمص في 6 ديسمبر 2024، كانت طائرات يُعتقد أنها روسية ضربت جسر «الرستن» الرابط بين المدينتين بقوة تدميرية لا تمنع عبور الأرتال.

لاحقاً، أظهرت لقطات مصورة من الجو أن الروس احتفظوا بطائرات سوخوي المزودة بالصواريخ في قاعدة حميميم دون استخدامها، وعبرت فصائل المعارضة الجسر إلى حمص التي أضحت محررة بالكامل بحلول فجر 7 ديسمبر 2024.

لقطة من فيديو لقناة «سوريا» تظهر طائرات حربية روسية رابضة في قاعدة حميميم باللاذقية خلال عمليات «ردع العدوان«

الآن، بات كثيرون من «محور المقاومة» أكثر قناعة بأن الزحف السريع للفصائل ليس مجرد مناورة. يقول القيادي الشيعي إنهم في تلك اللحظة فهموا أن «الإيرانيين شاركوا معنا مواقف متضاربة (...) ربما تم خداعهم».

لقد بقي السؤال عن أدوار طهران وموسكو غامضاً. لم تمتلك فصائل شيعية أجوبة حاسمة في الأشهر القليلة التي تلت هروب الأسد. اليوم، يعتقد الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء»، أن «الموقف الروسي والإيراني لم يتغير إلا بعد أن تراجع نظام الأسد، وانهارت القوى الماسكة للأرض، وتحولت المعركة إلى مواجهة مع شعب»، وفق تعبيره.

لكن مصادر من فصائل كانت نشطة في سوريا منذ عام 2013 تحدّثت عن «قرار اتخذته إيران مبكراً بعدم خوض معركة في سوريا بسبب حسابات إقليمية أشد تعقيداً». تقول المصادر إن «إيران لم تكن متأكدة من نتائج لصالحها في حال واجهت زحف المعارضة، لأنها اكتشفت متأخرة أن موسكو باتت تتصرف لوحدها في سوريا».

في النهاية، بدا أن أقطاب التحالف بين موسكو وطهران والأسد ينفصلون عن بعضهم، ويتخذون قرارات ميدانية متباعدة، سمحت بتقدم سريع للمعارضة، وهروب أسرع للأسد. لكن الأكيد من وجهة نظر القيادي الشيعي أن «الجماعات العراقية لم تكن في صلب نقاشات أفضت إلى ما حدث في النهاية».

في تلك اللحظة، كان أكثر من عشرة فصائل عراقية قد أمضت أكثر من عشر سنوات في الجبهة السورية، تورط خلالها آلاف المسلحين في بحر من الدماء.

و«تدور الدوائر»

في السادسة فجراً، يوم 8 ديسمبر 2024، كتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي رسالة عبر «إكس» قال فيها: على الباغي تدور الدوائر. ثم طغت أجواء الصدمة على القوى السياسية الشيعية في بغداد.

يومان بعد التحرير، تكون جميع الفصائل قد غادرت الأراضي السورية، والأسد في موسكو. في 12 ديسمبر 2024، ظهر نوري المالكي وهو زعيم «ائتلاف دولة القانون» وكان حليفاً قوياً للأسد لسنوات، ليصرح بأن «الهدف مما حدث في دمشق هو تحريك الشارع في بغداد». وانفجر الرأي العام بالأسئلة عما حدث.

حاول المجتمع السياسي الشيعي في بغداد استيعاب الصدمة، ونشطت في الكواليس نقاشات عن «مستقبل الشيعة في العراق»، طغى عليها ارتباك شديد، وفق شهادات أشخاص شاركوا في اجتماعات خاصة عقدت في الأسابيع التي تلت هروب الأسد.

وتحدث هؤلاء أن صناع قرار شيعة لم يجدوا أجوبة عما حدث في سوريا، ودور إيران فيه، وواجه كثيرون صعوبات في الإجابة عن سؤال كيف سيتغير العراق والمنطقة بعد الأسد؟.

يقول أحد المشاركين في جلسة خاصة عقدت في يناير (كانون الثاني) 2025 إن الأزمة في سوريا لا تتعلق بهروب الأسد، وانكسار «محور المقاومة»، بل إنها بالنسبة لـ«العراقيين الشيعة تتعلق بإعادة تعريف دورهم بعد سقوط تحالفات وتوازنات قديمة».

جانب من أحد اجتماعات قوى «الإطار التنسيقي» (وكالة الأنباء العراقية)

وظهرت أعراض جانبية لهذه النقاشات الصعبة على الجماعات الشيعية. وروّج كثيرون من بيئة «المقاومة» لمشروع «الفيدرالية الشيعية» التي تمتد من سامراء إلى البصرة، على بحر من نفط. سرعان ما اضمحلت الفكرة مثل رماد بارد.

وتصاعد حديث جاد عن «الحاكمية الشيعية». يقول قيادي في فصيل مسلح إن «القوى الشيعية كانت تركز خلال الأشهر الماضية على تقوية الوضع الداخلي، وتعزيز حضورها في الحياة السياسية، وهذا ما يفسر المشاركة الفاعلة في الانتخابات التي أجريت في 11 نوفمبر 2025، وفوز فصائل مسلحة بمقاعد في مجلس النواب الجديد».

يبدو أن جميع الذين قاتلوا في سوريا فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد. لقد حصلت حركة «عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي على 28 مقعداً داخل البرلمان، وفازت منظمة «بدر» بزعامة هادي العامري بـ18 مقعداً، وحصلت كتلة «حقوق»، التابعة لـ«كتائب حزب الله»، على ستة مقاعد، بينما حصلت قائمة تابعة لـ«كتائب الإمام علي» على ثلاثة مقاعد، وحصل تحالف «خدمات» بزعامة شبل الزيدي على تسعة مقاعد.

ويطرح هؤلاء اليوم مشروعاً انتقالياً يقوم على أدوار شيعية جديدة، يتقدمه طموح متنامٍ لدى قادة مثل قيس الخزعلي لصياغة مظلة تحمي الجماعات الشيعية من التفكك عبر حضورٍ أثقل في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية معاً.

وفي مارس (آذار) 2025، سئل الخزعلي عن سوريا الجديدة. وقال إن «الدولة العراقية من واجباتها ومن مصلحتها أن تتعامل معها ما دامت تلك الدول والحكومات تمثل دولها».

ويقول قيادي شيعي إن لحظة هروب بشار الأسد لم تكن حدثاً في سوريا بقدر ما كانت زلزالاً في الوعي الشيعي داخل العراق؛ إذ دفعت الجميع إلى إعادة التفكير في شكل التحالفات التي حكمت الإقليم لأعوام طويلة. لكن خلف هذا التحول تبرز أسئلة معلّقة، وشكوك حول «مستقبل النظرية الإيرانية ذاتها» بعدما بدأت تتعرّض لاختلال كبير بعد أربعة عقود من النفوذ المتواصل في المنطقة. يقول القيادي إن «الجواب لم ينضج بعد».


سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

مع مرور عام على إطاحة نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تتابع أوساط سياسية وبحثية أميركية تطورات السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ويشير هؤلاء إلى مساعي دمشق لتوطيد العلاقات بالمجتمع الدولي، في وقت تواجه فيه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

وثمة إجماع بين أوساط أميركية معنية بالملف السوري على أن سقوط الأسد فتح نافذة تاريخية لإعادة بناء البلاد، لكن النجاح يعتمد على ترسيخ نموذج مستقر.

ويرى الخبراء أن الشرع «حقق تقدماً مذهلاً في عام واحد؛ من إنهاء الحرب، إلى الانخراط الدولي، لكنه يحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتجنب احتمالات الفوضى».

ويقول ستيفن كوك، الزميل الأول في «مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» بـ«مجلس العلاقات الخارجية»، إن «لقاء الشرع مع الرئيس (الأميركي) دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يمكن أن يكون منطلقاً لبدء عمل جاد وواعد في سوريا»، مشيراً إلى أن «رفع واشنطن العقوبات يتزامن مع إظهار دمشق مساعيَ جادة للقيام بإصلاحات سياسية؛ أهمها في (التعامل مع الأقليات ومكافحة التطرف)»، لكنه يحذر بأن «الحكم في بلد مفلس وممزق سياسياً يظل سؤالاً مفتوحاً».

ويشير كوك، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الانتخابات البرلمانية المحدودة التي جرت في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (التي غطت 119 مقعداً من 210)، كانت «خطوة رمزية مهمة»، لكنها لم تشمل مناطق الدروز والكرد؛ مما قد يعكس «هشاشة الانتقال»، داعياً إلى توسيع الممارسة لتجفيف منابع الانقسام.

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر بدمشق حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في سوريا يوم 6 أغسطس 2025 (رويترز)

تغيير الشرق الأوسط

يشيد آرون زيلين، الخبير في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بجهود الشرع في مكافحة «داعش»، ويقول إن لديه فرصة لإحداث تأثير إيجابي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه نصح الحكومة السورية الجديدة بالتركيز على تفكيك فصائل مسلحة في البلاد.

وعدّ زيلين تصريحات الشرع الإصلاحية بشأن بناء مؤسسات الدولة علامة إيجابية على توجهات حكومته، رغم قلقه من أن الاقتصاد المدمَّر يهدد الاستقرار في سوريا، لا سيما مع التقديرات التي تفيد بأن تكلفة إعادة إعمار البلاد قد تصل إلى 216 مليار دولار.

بدوره، يقول إدوارد جيريجان، مدير «مركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية» بجامعة هارفارد، إن الشرع يواجه «اختباراً لإعادة التوحيد» في بلاد متعددة الطوائف والإثنيات، ويوصي بـ«تعزيز الثقة الداخلية» عبر إصلاحات أمنية موحدة.

ويبدي المحلل الأميركي سيث فرانتزمان تفاؤلاً كبيراً بمستقبل سوريا، عادّاً الشرع «رجلاً مثيراً للإعجاب ومغيراً للعبة»، ويصف التحول في سوريا في أقل من عام بـ«الجنون المطلق»؛ بالتحول من دولة منبوذة إلى دولة بفرص واعدة ومدعومة من الغرب ولاعبين وازنين في الخليج العربي والمنطقة.

ورأى الشرع، في تصريح أمام «منتدى الدوحة» يوم 6 ديسمبر 2025، أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، بعدما تحولت من منطقة مصدرة للأزمات إلى نموذج للاستقرار، مشيراً إلى أن البلاد «تحتاج الآن إلى بناء مؤسسات مستقرة؛ وهو ما يضمن استمرارية عادلة لبناء الدولة».

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي خلال توقيع اتفاق دمج «قسد» في الجيش السوري بدمشق يوم 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

صراعات داخلية

ويقول فرانتزمان إن زيارة الشرع التاريخية إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2025 تعدّ «محوراً مهماً لإعادة بناء سوريا المحطمة»، بالتزامن مع رفع الشرع من قائمة العقوبات الأميركية، وتجديد تعليق «قانون قيصر».

ويشيد معظم التحليلات بالشرع لتحقيقه تقدماً ملموساً في الاستقرار الداخلي، لكن التحذيرات تتعلق بالصراعات الداخلية التي قد تذكي أعمال عنف أو فوضى. أما خارجياً؛ فتشيد تقارير أميركية بحرص الشرع على توجيه بلاده نحو الغرب، وانضمامها إلى «التحالف الدولي ضد (داعش)»، حيث يشيد مركز «بروكينغز» بعلاقات الرئيس السوري بتركيا والولايات المتحدة، بوصفها مفتاحاً للاستقرار، محذراً من السماح بعودة نفوذ روسيا وإيران.

وكان الشرع قد أقر، خلال حضوره مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، بالرياض، في 29 أكتوبر 2025، بأن هناك مخاطر استراتيجية ارتبطت بالفترة السابقة تسببت في خلق حالة من الاضطراب والقلق لبعض دول العالم.