من التاريخ: مراد الأول.. محوّل الدولة العثمانية إلى إمبراطورية

من التاريخ: مراد الأول.. محوّل الدولة العثمانية إلى إمبراطورية
TT

من التاريخ: مراد الأول.. محوّل الدولة العثمانية إلى إمبراطورية

من التاريخ: مراد الأول.. محوّل الدولة العثمانية إلى إمبراطورية

كما أوضحنا من قبل، تنسب الدولة العثمانية إلى زعيمها عثمان بن أُرطُغرُل الذي هاجرت قبيلته التركية في أواخر القرن الثالث عشر إلى آسيا الصغرى (هضبة الأناضول). ويومذاك، انضمت لقوات السلطان السلجوقي علاء الدين خلال إحدى حروبه ضد التتار، فمنح السلطان هذه القبيلة أرضًا لتعيش فيها. ومن ثم، أخذت تتوسع تدريجيًا، خصوصا خلال حكم عثمان، إلى أن أصبحت دولة متوسطة الحجم، واتخذت مدينة بورصة عاصمة لها. وبعد وفاة عثمان، خلفه ابنه السلطان أورخان بن عثمان، فعزّز التوسع، وسيطر على بعض المناطق الأوروبية المحدودة مع مرور الوقت، وساعده على ذلك تنظيمه الجيد لجيشه، بما جعله جيشًا نظاميًا منضبطًا، وإصلاحه وتوسعه في الأسس الإدارية التي وضعها والده لإدارة دولته، فغدا للعثمانيين دولة قوية تنظيميًا وعسكريًا.
ولكن، على الرغم من إنجازات عثمان وأورخان، فإن كثيرين يعتبرون السلطان مراد الأول المؤسس الفعلي لـ«الإمبراطورية العثمانية»؛ ذلك أن مراد ابن أورخان، وحفيد عثمان، حوّل الدولة من مجرد دولة قوية تسيطر على الأناضول إلى إمبراطورية كبيرة تلعب الدور المحوري في شرق أوروبا بنهاية حكمه.
لقد ورث مراد الحكم من أبيه أورخان عام 1362، عندما كان في السادسة والثلاثين من عمره، وورث مع عرشه دولة منظمة قوية، غير أن حدودها كانت أضيق مما كان يحلم به هذا السلطان الشاب. وبالتالي، كرّس حكمه، الذي بلغ 27 سنة، لتحويل الدولة إلى إمبراطورية مترامية الأطراف، وفتح شرق أوروبا، ليس فقط للحكم العثماني، بل للاستيطان العثماني أيضًا.
واقع الأمر أن مراد تولى الحكم في دولة وضع والده لها الأساس الصلب لتوسعها ونموها التدريجي. وكما سبقت الإشارة، تمتعت الدولة البازغة بجيش منضبط قوي يعتمد في أساسه على ألوية الإنكشارية الشهيرة. وكلمة «إنكشارية» Janissaries مشتقة من كلمتي: «يني» و«شيري»، أي: «الجيش الجديد». وقد قامت على أساس من «ضريبة الذكور» التي كانت تفرض على المسيحيين في الأراضي المستولى عليها، إذ كان يؤخذ أفضل طفل في الأسرة المسيحية، ويُدخل في الإسلام، ويجري تدريبه روحيًا وجسديًا وعلميًا بمرور الوقت، ليصبح عسكريًا مثاليًا مضمون الولاء في الجيش العثماني. وبعدما كان عثمان يستخدم الإنكشارية حرسًا خاصًا له، طوّر مراد هذا الهدف، فجعلهم نواة مدرّبة وقوة نخبوية داخل جيشه، فتحوّلت هذه القوة مع الوقت إلى تشكيل عظيم يبث الرعب في نفوس الأعداء كلما واجههم.
وامتدت تركة السلطان مراد إلى أوروبا منذ حكم أورخان عام 1337، عندما وقعت الإمبراطورية البيزنطية في مأزق سياسي، لانقلاب قوة إسبانية على الإمبراطور البيزنطي، بعدما كانت تسانده، فصار في حالة يرثى لها. وحينذاك، طلب العون الفوري من السلطان الذي استغل الفرصة مباشرة للتدخل في الشؤون البيزنطية، ونشر بعض القوات في الأراضي الأوروبية الخاضعة لها، بحجة مساندة الإمبراطور، تمهيدًا لمزيد من التوسع.
ومع اضطراب أحوال الدولة البيزنطية، فُتح المجال على مصراعيه للعثمانيين من أجل زيادة رؤوس الجسر الحربية لهم في أوروبا، خصوصا عندما وقعت الحرب الأهلية في القسطنطينية (عاصمة تلك الدولة)، فدخلت الدولة العثمانية طرفًا أساسيًا فيها لحساب أحد الأمراء، وانتهت التسوية السياسية بزواج سياسي لابنة الإمبراطور الجديد من الأمير مراد.
اعتلى مراد السلطنة عام 1359، وكانت منطقة البلقان في شرق أوروبا ممهدة للتوسع العثماني، وهو أمر لم يتأخر السلطان الشاب في استغلاله، إذ وجه جيوشه بعد سنة فقط للاستيلاء على ممالك المنطقة لتوسيع رقعة دولته على حسابها. والحقيقة أن أوضاع البلقان، بصفة عامة، كانت مضطربة. فلقد كانت الدويلات الأوروبية الشرقية في نزاعات شبه دائمة، إما لأسباب تتعلق بتقسيم الأراضي ورسم الحدود، أو التنافس بين الأسر الحاكمة، أو نتيجة للاختلافات المذهبية التي عمّقت الفرقة بين الأقاليم المنتمية مذهبيًا لأوروبا الغربية الكاثوليكية وتلك الأرثوذكسية المرتبطة بالكنيسة البيزنطية قبل استقلالها نتيجة الانشقاق الكبير بين كنيستي القسطنطينية (بيزنطة) وروما، عام 1054، حول قضية العقيدة والإيمان المرتبطة بالتثليث.
وعلى الفور، تحركت القوات العثمانية نحو «تراكيا» Thrace والبلقان، ودانت أجزاء كبيرة من الروملّي (بلغاريا الحالية) لتلك القوات المتدفقة، وتبعتها شمال اليونان وغيرها من المناطق المجاورة. وطبق مراد الأول سياسة حكيمة للغاية في صدامه العسكري للموازنة بين التوسعين الشرقي والغربي، ولم يقدم في أي وقت من الأوقات على فتح جبهتين له في آن واحد. فكان يستولى على مناطق في الغرب، وينتظر لبعض الوقت قبل أن يتوسع شرقًا. وحقًا، استطاع لاحقًا تركيز جهده الحربي على مدينة أدرنة المهمة (إلى الغرب من القسطنطينية / إسطنبول) في أوروبا، ففرض الحصار البري الكامل عليها إلى أن استسلمت له بالتفاوض والدبلوماسية، ولم يلبث أن جعلها العاصمة الجديدة للإمبراطورية العثمانية، وذلك بعدما دفعت الجزية، وشاركت أيضًا بقوة لها ضمن تشكيلات الجيش العثماني في فتوحاته التالية.
وعلى الرغم من المقاومة الشرسة التي واجهتها القوات العثمانية المتدفقة إلى أوروبا، استطاع مراد التغلب على المقاومين تدريجيًا، ولا سيما بعد أن فشلت مبادرة البابا أوربان الخامس في روما لتوحيد القوى الأوروبية بغية مواجهة المسلمين، بفعل انعدام الثقة التي واجهت هذه الدويلات والإمارات الأوروبية وقياداتها السياسية، وهذا ما أتاح لمراد ضم أجزاء من صربيا ومعظم منطقة البلقان، وقيادة التوسع شمالاً. وكفلت عبقرية هذا الرجل له القدرة على هضم هذه الأراضي الجديدة، كونه أدرك منذ البداية ضرورة استحداث نظم جديدة لإدارة هذه المناطق بشكل يضمن ولاءها، ويمنع الثورات الداخلية عليه. وعليه، وجّه باتباع سياسة تنظيمية كفلت الحرية الكاملة للعقيدة، بما في ذلك حرية البطريركية الأرثوذكسية، كي يضمن ولاء الرعايا الجدد، ولكن في الوقت نفسه نظم الأراضي بشكل جعل المزارعين والفلاحين أفضل حالاً مما كانوا عليه إبان خضوعهم للإقطاع الأوروبي قبل الفتح العثماني. وهكذا، ساد الرضى الشعبي المجتمعات العثمانية الجديدة مقارنة بالأنظمة السابقة. وأيضًا، فتح مراد المجال أمام التصعيد السياسي والاجتماعي لغير المسلمين في هذه المناطق، فسمح لبعض المسيحيين الأوروبيين بتولي مناصب قيادية في البلاط العثماني، وسمح أيضًا بانخراط الجيوش المهزومة داخل كتائب الجيش العثماني تحت قياداتها التقليدية، وهو ما كفل له قوة وطمأنينة ساعدته على مزيد من التوسع.
من ناحية أخرى، كان مراد الأول حصيفًا حكيمًا للغاية في استخدام قوته العسكرية، وتلميذًا نجيبًا لمبدأ «اقتصادات القوة»، وتمكن أن يكسب ولاء كثير من إمارات شرق أوروبا من خلال التعاون معهم، وضمها لإمبراطوريته بالتبعية عبر الجزية والولاء، مستخدمًا الوسائل الدبلوماسية لا القوة العسكرية. وهذا ما جعله يركز قواته نحو الأهداف التي تحتاج لكثافة عددية، إلى جانب اتباع سياسة استيطانية مُمنهَجة لنشر الوجود العثماني الفعلي في هذه الأراضي، إلى جانب السكان الأصليين، حتى يضمن ولاء العرقيات المختلفة له؛ وهي السياسية التي كفلت له السيطرة على هذه الأراضي الجديدة.
وواصل مراد الأول حملاته في البلقان حتى وقع الصدام بينه وبين الصرب الذين كانوا يمثلون قوة عسكرية شديدة البأس تاريخيًا. وعام 1389، خاضت القوات العثمانية معركتها الفاصلة ضدهم، وهي «معركة كوسوفو»، التي كانت واقعة حربية شديدة العنف سيحصل المنتصر فيها على صربيا بالكامل، بما فيها إقليم كوسوفو. وبعد معارك كرّ وفرّ، حقّقت القوات العثمانية نصرًا كبيرًا على الجيش الصربي. ولكن، خلال المعركة، هرب ميلوش، زوج ابنة القائد الصربي، واستسلم للعثمانيين بمكر، وطلب لقاء السلطان مراد. وبينما كان ينحني أمام مراد، عاجله بضربتين من خنجره في صدره أودتا بحياة هذا السلطان العظيم.. ولكن ليس قبل أن يصدر مراد آخر حكم له بإعدام ميلوش.
أسلم السلطان مراد الروح هناك، وجرى دفنه في محيط مدينة بريشتينا الشهيرة، عاصمة كوسوفو. وما زال قبره هناك مزارًا إلى يومنا هذا. ومن ثم، تولى الحكم خلفًا له ابنه بايزيد الأول، ولكن ليس قبل أن يقتل أخاه خليل لضمان عدم منافسته على الحكم، وهي الآفة التي اتسم بها السلاطين العثمانيون عبر تاريخهم.
بناءً على ما رأيناه، يستحق مراد الأول لقب «مؤسس الإمبراطورية العثمانية»، كونه نقلها من دولة متوسطة إلى إمبراطورية كبيرة. ولعل أعظم ما في هذا الرجل تلك المعادلة السياسية التي اتبعها خلال حكمه للموازنة بين الفتوحات العسكرية والقدرة على هضم الأراضي تباعًا دون عناء كبير. ومن ثم، فتحه المجال للتوطن العثماني في هذه الأراضي، وهو ما كفل له سياسة توسعية ثابتة ودولة مركزية قوية بدأت تلعب دورها في السياسة الأوروبية، وكادت خلال القرون التالية أن تجتاح غرب أوروبا، لولا الظروف السياسية والعسكرية المعاكسة التي لم تسمح لها بذلك.



رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
TT

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)

لم يكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية في لبنان بعد أكثر من سنتين على الشغور ليحصل راهناً لولا المتغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. إذ إن «الثنائي الشيعي»، المتمثل في حركة «أمل» و«حزب الله»، تمسّك بمرشحه رئيس تيار «المرَدة»، سليمان فرنجية، طوال الفترة الماضية، بينما امتنع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، وزعيم «أمل»، عن الدعوة لأي جلسة انتخاب لعام كامل رابطاً أي جلسة جديدة بحوار وتفاهم مسبق. غير أن الوضع تغيّر، عندما ترك «الثنائي» تشدده الرئاسي جانباً بعد الحرب القاسية التي شنتها إسرائيل على «حزب الله»، وأدت لتقليص قدراته العسكرية إلى حد كبير، كما حيدّت قادته الأساسيين وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله. ثم أتى سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الحليف الأساسي لـ«حزب الله» وإيران ليقطع «طريق طهران - بيروت» التي كانت الطريق الوحيدة لإمداد الحزب برّاً بالسلاح والعتاد، ليؤكد أن النفوذ الإيراني في المنطقة اندحر... ما اضطر حلفاء طهران في بيروت إلى إعادة حساباتهم السياسية. ولعل أول ما خلُصت إليه حساباتهم الجديدة، التعاون لانتخاب قائد الجيش، المدعوم دولياً، رئيساً للبلاد.

لدى مراجعة تاريخ لبنان المستقل، يتبيّن أن التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية ليس أمراً طارئاً على الحياة السياسية في البلاد، بل هو طبع كل المسار التاريخي للاستحقاقات الرئاسية اللبنانية.

ويشير جورج غانم، الكاتب السياسي الذي واكب عن كثب الأحداث اللبنانية، إلى أن «الخارج، منذ أيام بشارة الخوري، الرئيس الأول بعد استقلال لبنان عام 1943، كانت له الكلمة الأساسية في اختيار الرؤساء في لبنان وفرضهم. ويضيف: «الانتخابات لا تحصل بتوافقات داخلية... بل يبصم مجلس النواب على قرارات خارجية».

ويشرح أن الخوري انتُخب في مرحلة كان فيها التنافس البريطاني الفرنسي في أوجه، وكان البريطانيون يحاولون جاهدين وضع حد لنفوذ باريس في المشرق. ولذا، تعاونوا مع «الكتلة الوطنية» في سوريا والحكم الهاشمي في العراق والحكم في مصر ومع «الكتلة الدستورية» في لبنان، عندما كانت المنافسة على الرئاسة الأولى محتدمة بين إميل إده المدعوم فرنسياً، وبشارة الخوري المدعوم بريطانياً ومن حلفائهم العرب، وبما أن فرنسا كانت دولة محتلة وخسرت الحرب، نجح المرشح الرئاسي اللبناني الذي يريده البريطانيون الذين سيطروا يومذاك على منطقة الشرق الأوسط.

انتخاب كميل شمعون

ويلفت غانم، الذي حاورته «الشرق الأوسط»، إلى أنه بعد هزيمة الجيوش العربية في «حرب فلسطين» عام 1948، برز تنافس أميركي - بريطاني للسيطرة على المنطقة، فبدأت تسقط أنظمة سواء في مصر أو سوريا، وتبلور محور مصري - سعودي في وجه محور أردني - عراقي مدعوم بريطانياً. وفي ظل الاضطرابات التي كانت تشهدها المنطقة وإصرار الخوري على الحياد في التعامل مع سياسة الأحلاف، سقط الخوري، وانتُخب كميل شمعون بدعم بريطاني - عربي، وتحديداً أردني - عراقي. ومن ثَمَّ، إثر انكفاء بريطانيا بعد «حرب السويس» عام 1956، دخلت الولايات المتحدة في منافسة شرسة مع الاتحاد السوفياتي. وفي تلك الفترة كانت الموجة الناصرية كاسحة ما جعل شمعون يواجه بثورة كبيرة انتهت بتفاهم مصري - أميركي على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً.

من فؤاد شهاب... إلى سليمان فرنجية

الواقع أن شهاب انتُخب عام 1958 بتوافق مصري - أميركي نشأ بعد انكفاء البريطانيين ونضوج التنافس الأميركي - السوفياتي وصولاً إلى عام 1964. عند هذه المحطة حين انتُخب شارل حلو، المحسوب أساساً على «الشهابيين»، رئيساً، في المناخ نفسه، ولكن هذه المرة برضىً فاتيكاني - فرنسي مع نفوذ مستمر أميركي - مصري.

ويضيف غانم: «بعد حرب 1967 انكفأت (الناصرية) وضعُفت (الشهابية) وانتشر العمل الفدائي الفلسطيني... وتلقائياً قوِيَ الحلف المسيحي في لبنان المدعوم غربياً، وفي ظل حضور فاقع لإسرائيل في المنطقة. وبعد اكتساح «الحلف الثلاثي» الماروني اليميني السواد الأعظم من المناطق المسيحية في الانتخابات، جاء انتخاب سليمان فرنجية عام 1970، بفارق صوت واحد، تعبيراً عن هذا المناخ وعن ميزان القوى الجديد في المنطقة».

الاجتياح الإسرائيلي و«اتفاق 71 أيار

ويتابع جورج غانم سرده ليقول: «انتخاب إلياس سركيس رئيساً عام 1976 جاء بتفاهم سوري - أميركي حين كان النفوذ والدور السوريين يومذاك في أوجه... وقد دخلت حينها قوات الردع السورية والعربية إلى لبنان». أما انتخاب بشير الجميل عام 1982 فأتى بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وفي ظل دعم أميركي وأطلسي مطلق. وانسحب هذا المناخ على انتخاب أمين الجميل مع فارق وحيد هو أن المسلمين المعتدلين في لبنان الذين لم يؤيدوا بشير، أيدوا انتخاب شقيقه أمين.

لاحقاً، عام 1984، حصلت «انتفاضة 6 شباط» الإسلامية، فتراجعت إسرائيل وألغي «اتفاق 17 أيار» الذي فرضته تل أبيب بالقوة. وهكذا، بحلول عام 1988 لم يكن ميزان القوى المرتبك يسمح بانتخاب رئيس للبنان، فكانت النتيجة الشغور الرئاسي الذي استمر لمدة سنتين تخللتهما «حرب التحرير» والحرب بين الجيش و«القوات اللبنانية»... وانتهى بتوقيع «اتفاق الوفاق الوطني في الطائف» عام 1989، وهو اتفاق عربي - دولي أنتج انتخاب رينيه معوض، ثم مباشرة بعد اغتياله، انتخاب إلياس الهراوي. وظل لبنان يعيش في ظل هيمنة سورية، شهدت انتخاب العماد إميل لحود عام 1998 وتمديد ولايته حتى عام 2007.

ميشال سليمان وميشال عون

ويتابع جورج غانم السرد فيشير إلى أنه «في عام 2004، وبعد اجتياح العراق قامت معادلة جديدة في المنطقة، فتمدّدت إيران إلى العراق وازداد نفوذ (حزب الله) في لبنان، وخصوصاً بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005»، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. ومع انتهاء ولاية إميل لحود الثانية، لم يتمكن اللبنانيون من انتخاب رئيس حتى عام 2008 حين كان هناك صعود قطري - تركي في المنطقة. وهكذا، جاء «اتفاق الدوحة» الذي أوصل العماد ميشال سليمان إلى سدة الرئاسة بموافقة سعودية - مصرية بعد «أحداث 7 مايو/ أيار» التي كرّست نفوذ «حزب الله».

وأردف: «لكن اتفاق الدوحة سقط عام 2011 بعدما اندلعت الأزمة السورية، فضرب الشلل عهد الرئيس سليمان، وقد سلّم قصر بعبدا للفراغ عام 2014. وفي ظل التوازن السلبي الذي كان قائماً حينذاك، عاش لبنان فراغاً رئاسياً ثانياً طال لسنتين ونصف السنة في أعقاب تمسك (حزب الله) بمرشحه العماد ميشال عون. ولم تتغير التوازنات إلا بعد وصول الجيش الروسي إلى سوريا عام 2015، و(تفاهم معراب) بين عون ورئيس حزب (القوات اللبنانية) سمير جعجع، وأيضاً تفاهم عون مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري. وكانت هذه التفاهمات قد تزامنت مع حياد أميركي بعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران وعشية انتهاء ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما... ما أدى إلى انتخاب عون رئيساً عام 2016».

غانم يلفت هنا إلى أنه «مع انطلاق عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بدأ التشدد تجاه إيران والتصعيد ضد (حزب الله)، ولذا بدأ عهد عون يخبو... حتى بدأ يحتضر مع أحداث 17 أكتوبر 2019». ثم يضيف: «ومع انتهاء ولاية عون ترسّخ توازن سلبي بين (حزب الله) وحلفائه من جهة، والقوى المناوئة له من جهة أخرى، الأمر الذي منع انتخاب رئيس خلال العامين الماضيين. لكن هذا التوازن انكسر بالأمس لصالح خصوم إيران السياسيين، وهكذا أمكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً جديداً للبلاد».

جوزيف عون

البرلمان اللبناني انتخب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً في التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي بـ99 صوتاً من أصل 128 بعد سنتين وشهرين وعشرة أيام من الفراغ الرئاسي. وحمل «خطاب القسم» الذي ألقاه الرئيس المنتخب عون مضامين لافتة، أبرزها: تأكيده «التزام لبنان الحياد الإيجابي»، وتجاهله عبارة «المقاومة»، خلافاً للخطابات التي طبعت العهود السابقة. كذلك كان لافتاً تأكيده العمل على «تثبيت حق الدولة في احتكار حمل السلاح». ولقد تعهد عون الذي لاقى انتخابه ترحيباً دولياً وعربياً، أن تبدأ مع انتخابه «مرحلة جديدة من تاريخ لبنان»، والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان.

خشّان: كل رؤساء لبنان يأتون بقرار خارجي ويكتفي البرلمان بالتصديق عليهم

دولة ناعمة

الدكتور هلال خشّان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، رأى في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنه ليس خافياً على أحد أن «كل الرؤساء في لبنان يأتون بقرار خارجي، ويكتفي البرلمان اللبناني بالتصديق على هذا القرار بعملية انتخابهم»، ويضيف أن «لبنان عبارة عن دولة ناعمة تعتمد على الخارج، وهي مكوّنة من مجموعة طوائف تحتمي بدول عربية وغربية».

وتابع خشّان أن «مفهوم الدولة ركيك وضعيف في لبنان، والقسم الأكبر من اللبنانيين لا يشعرون بالانتماء للبلد. والمستغرب هنا انتخاب رئيس من دون تدخلات خارجية وليس العكس... لأنه واقع قائم منذ الاستقلال». ويشرح: «فرنسا كانت للموازنة الأم الحنون، والسُّنّة كانوا يرون مرجعيتهم جمال عبد الناصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم المملكة العربية السعودية. أما الشيعة فمرجعيتهم الأساسية إيران».

هزيمة «حزب الله»

وفق خشّان، «هزيمة (حزب الله) العسكرية نتج عنها هزيمة سياسية، وخصوصاً بعد سقوط نظام الأسد وفصل لبنان عن إيران جغرافياً، أضف إلى ذلك أن الحزب يتوق إلى إعادة إعمار مناطقه المدمّرة، ويدرك أنه لا يستطيع ذلك دون مساعدة خارجية... لقد استدارت البوصلة اللبنانية 180 درجة نحو أميركا ودول الخليج، كما سيكون هناك دور أساسي تلعبه سوريا، تحت قيادتها الجديدة، في المرحلة المقبلة».

وهنا تجدر الإشارة، إلى أن لبنان شهد منذ 17 سبتمبر (أيلول) الماضي تطوّرات وأحداثاً استثنائية قلبت المشهد فيه رأساً على عقب. وبدأ كل شيء حين فجّرت إسرائيل أجهزة «البيجر» بعناصر وقياديي «حزب الله» ما أدى إلى قتل وإصابة المئات منهم. ثم عادت وفجّرت أجهزة اللاسلكي في اليوم التالي ممهِّدة لحربها الواسعة. ويوم 23 سبتمبر باشرت إسرائيل حملة جوية واسعة على جنوب لبنان، تزامنت مع سلسلة عمليات اغتيال خلال الأيام التي تلت وطالت قياديي ومسؤولي «حزب الله» وتركزت في الضاحية الجنوبية لبيروت. وبدأت الاغتيالات الأكبر في 27 سبتمبر مع اغتيال حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، وتلاه اغتيال رئيس المجلس التنفيذي للحزب، هاشم صفي الدين، في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. كما أنه في يوم 1 أكتوبر بدأت تل أبيب عملياتها العسكرية البرّية جنوباً قبل أن تطلق يوم 30 من الشهر نفسه حملة جوية مكثفة على منطقة البقاع (شرقي لبنان).

وتواصلت الحرب التدميرية على لبنان نحو 65 يوماً، وانتهت بالإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ولقد سمح هذا الاتفاق للجيش الإسرائيلي بمواصلة احتلال قرى وبلدات لبنانية حدودية على أن ينسحب منها مع انتهاء مهلة 60 يوماً.

ولكن، خارج لبنان، تواصلت الصفعات التي تلقاها المحور الذي تقوده إيران مع بدء فصائل المعارضة السورية هجوماً من إدلب فحلب في 28 أكتوبر انتهى في ديسمبر (كانون الأول) بإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

وعلى الرغم من إعلان أمين عام «حزب الله» الحالي، الشيخ نعيم قاسم، أن حزبه سيساند النظام في سوريا، فإنه صُدم بسرعة انهيار دفاعات الجيش السوري، ما أدى إلى سحب عناصره مباشرة إلى الداخل اللبناني، وترك كل القواعد التي كانت له منذ انخراطه في الحرب السورية في عام 2012.

وأخيراً، في منتصف ديسمبر، أعلن قاسم صراحة أن «حزب الله» فقد طرق الإمداد الخاصة به في سوريا... أي آخر انقطاع طريق بيروت - دمشق.