من التاريخ: مراد الأول.. محوّل الدولة العثمانية إلى إمبراطورية

من التاريخ: مراد الأول.. محوّل الدولة العثمانية إلى إمبراطورية
TT
20

من التاريخ: مراد الأول.. محوّل الدولة العثمانية إلى إمبراطورية

من التاريخ: مراد الأول.. محوّل الدولة العثمانية إلى إمبراطورية

كما أوضحنا من قبل، تنسب الدولة العثمانية إلى زعيمها عثمان بن أُرطُغرُل الذي هاجرت قبيلته التركية في أواخر القرن الثالث عشر إلى آسيا الصغرى (هضبة الأناضول). ويومذاك، انضمت لقوات السلطان السلجوقي علاء الدين خلال إحدى حروبه ضد التتار، فمنح السلطان هذه القبيلة أرضًا لتعيش فيها. ومن ثم، أخذت تتوسع تدريجيًا، خصوصا خلال حكم عثمان، إلى أن أصبحت دولة متوسطة الحجم، واتخذت مدينة بورصة عاصمة لها. وبعد وفاة عثمان، خلفه ابنه السلطان أورخان بن عثمان، فعزّز التوسع، وسيطر على بعض المناطق الأوروبية المحدودة مع مرور الوقت، وساعده على ذلك تنظيمه الجيد لجيشه، بما جعله جيشًا نظاميًا منضبطًا، وإصلاحه وتوسعه في الأسس الإدارية التي وضعها والده لإدارة دولته، فغدا للعثمانيين دولة قوية تنظيميًا وعسكريًا.
ولكن، على الرغم من إنجازات عثمان وأورخان، فإن كثيرين يعتبرون السلطان مراد الأول المؤسس الفعلي لـ«الإمبراطورية العثمانية»؛ ذلك أن مراد ابن أورخان، وحفيد عثمان، حوّل الدولة من مجرد دولة قوية تسيطر على الأناضول إلى إمبراطورية كبيرة تلعب الدور المحوري في شرق أوروبا بنهاية حكمه.
لقد ورث مراد الحكم من أبيه أورخان عام 1362، عندما كان في السادسة والثلاثين من عمره، وورث مع عرشه دولة منظمة قوية، غير أن حدودها كانت أضيق مما كان يحلم به هذا السلطان الشاب. وبالتالي، كرّس حكمه، الذي بلغ 27 سنة، لتحويل الدولة إلى إمبراطورية مترامية الأطراف، وفتح شرق أوروبا، ليس فقط للحكم العثماني، بل للاستيطان العثماني أيضًا.
واقع الأمر أن مراد تولى الحكم في دولة وضع والده لها الأساس الصلب لتوسعها ونموها التدريجي. وكما سبقت الإشارة، تمتعت الدولة البازغة بجيش منضبط قوي يعتمد في أساسه على ألوية الإنكشارية الشهيرة. وكلمة «إنكشارية» Janissaries مشتقة من كلمتي: «يني» و«شيري»، أي: «الجيش الجديد». وقد قامت على أساس من «ضريبة الذكور» التي كانت تفرض على المسيحيين في الأراضي المستولى عليها، إذ كان يؤخذ أفضل طفل في الأسرة المسيحية، ويُدخل في الإسلام، ويجري تدريبه روحيًا وجسديًا وعلميًا بمرور الوقت، ليصبح عسكريًا مثاليًا مضمون الولاء في الجيش العثماني. وبعدما كان عثمان يستخدم الإنكشارية حرسًا خاصًا له، طوّر مراد هذا الهدف، فجعلهم نواة مدرّبة وقوة نخبوية داخل جيشه، فتحوّلت هذه القوة مع الوقت إلى تشكيل عظيم يبث الرعب في نفوس الأعداء كلما واجههم.
وامتدت تركة السلطان مراد إلى أوروبا منذ حكم أورخان عام 1337، عندما وقعت الإمبراطورية البيزنطية في مأزق سياسي، لانقلاب قوة إسبانية على الإمبراطور البيزنطي، بعدما كانت تسانده، فصار في حالة يرثى لها. وحينذاك، طلب العون الفوري من السلطان الذي استغل الفرصة مباشرة للتدخل في الشؤون البيزنطية، ونشر بعض القوات في الأراضي الأوروبية الخاضعة لها، بحجة مساندة الإمبراطور، تمهيدًا لمزيد من التوسع.
ومع اضطراب أحوال الدولة البيزنطية، فُتح المجال على مصراعيه للعثمانيين من أجل زيادة رؤوس الجسر الحربية لهم في أوروبا، خصوصا عندما وقعت الحرب الأهلية في القسطنطينية (عاصمة تلك الدولة)، فدخلت الدولة العثمانية طرفًا أساسيًا فيها لحساب أحد الأمراء، وانتهت التسوية السياسية بزواج سياسي لابنة الإمبراطور الجديد من الأمير مراد.
اعتلى مراد السلطنة عام 1359، وكانت منطقة البلقان في شرق أوروبا ممهدة للتوسع العثماني، وهو أمر لم يتأخر السلطان الشاب في استغلاله، إذ وجه جيوشه بعد سنة فقط للاستيلاء على ممالك المنطقة لتوسيع رقعة دولته على حسابها. والحقيقة أن أوضاع البلقان، بصفة عامة، كانت مضطربة. فلقد كانت الدويلات الأوروبية الشرقية في نزاعات شبه دائمة، إما لأسباب تتعلق بتقسيم الأراضي ورسم الحدود، أو التنافس بين الأسر الحاكمة، أو نتيجة للاختلافات المذهبية التي عمّقت الفرقة بين الأقاليم المنتمية مذهبيًا لأوروبا الغربية الكاثوليكية وتلك الأرثوذكسية المرتبطة بالكنيسة البيزنطية قبل استقلالها نتيجة الانشقاق الكبير بين كنيستي القسطنطينية (بيزنطة) وروما، عام 1054، حول قضية العقيدة والإيمان المرتبطة بالتثليث.
وعلى الفور، تحركت القوات العثمانية نحو «تراكيا» Thrace والبلقان، ودانت أجزاء كبيرة من الروملّي (بلغاريا الحالية) لتلك القوات المتدفقة، وتبعتها شمال اليونان وغيرها من المناطق المجاورة. وطبق مراد الأول سياسة حكيمة للغاية في صدامه العسكري للموازنة بين التوسعين الشرقي والغربي، ولم يقدم في أي وقت من الأوقات على فتح جبهتين له في آن واحد. فكان يستولى على مناطق في الغرب، وينتظر لبعض الوقت قبل أن يتوسع شرقًا. وحقًا، استطاع لاحقًا تركيز جهده الحربي على مدينة أدرنة المهمة (إلى الغرب من القسطنطينية / إسطنبول) في أوروبا، ففرض الحصار البري الكامل عليها إلى أن استسلمت له بالتفاوض والدبلوماسية، ولم يلبث أن جعلها العاصمة الجديدة للإمبراطورية العثمانية، وذلك بعدما دفعت الجزية، وشاركت أيضًا بقوة لها ضمن تشكيلات الجيش العثماني في فتوحاته التالية.
وعلى الرغم من المقاومة الشرسة التي واجهتها القوات العثمانية المتدفقة إلى أوروبا، استطاع مراد التغلب على المقاومين تدريجيًا، ولا سيما بعد أن فشلت مبادرة البابا أوربان الخامس في روما لتوحيد القوى الأوروبية بغية مواجهة المسلمين، بفعل انعدام الثقة التي واجهت هذه الدويلات والإمارات الأوروبية وقياداتها السياسية، وهذا ما أتاح لمراد ضم أجزاء من صربيا ومعظم منطقة البلقان، وقيادة التوسع شمالاً. وكفلت عبقرية هذا الرجل له القدرة على هضم هذه الأراضي الجديدة، كونه أدرك منذ البداية ضرورة استحداث نظم جديدة لإدارة هذه المناطق بشكل يضمن ولاءها، ويمنع الثورات الداخلية عليه. وعليه، وجّه باتباع سياسة تنظيمية كفلت الحرية الكاملة للعقيدة، بما في ذلك حرية البطريركية الأرثوذكسية، كي يضمن ولاء الرعايا الجدد، ولكن في الوقت نفسه نظم الأراضي بشكل جعل المزارعين والفلاحين أفضل حالاً مما كانوا عليه إبان خضوعهم للإقطاع الأوروبي قبل الفتح العثماني. وهكذا، ساد الرضى الشعبي المجتمعات العثمانية الجديدة مقارنة بالأنظمة السابقة. وأيضًا، فتح مراد المجال أمام التصعيد السياسي والاجتماعي لغير المسلمين في هذه المناطق، فسمح لبعض المسيحيين الأوروبيين بتولي مناصب قيادية في البلاط العثماني، وسمح أيضًا بانخراط الجيوش المهزومة داخل كتائب الجيش العثماني تحت قياداتها التقليدية، وهو ما كفل له قوة وطمأنينة ساعدته على مزيد من التوسع.
من ناحية أخرى، كان مراد الأول حصيفًا حكيمًا للغاية في استخدام قوته العسكرية، وتلميذًا نجيبًا لمبدأ «اقتصادات القوة»، وتمكن أن يكسب ولاء كثير من إمارات شرق أوروبا من خلال التعاون معهم، وضمها لإمبراطوريته بالتبعية عبر الجزية والولاء، مستخدمًا الوسائل الدبلوماسية لا القوة العسكرية. وهذا ما جعله يركز قواته نحو الأهداف التي تحتاج لكثافة عددية، إلى جانب اتباع سياسة استيطانية مُمنهَجة لنشر الوجود العثماني الفعلي في هذه الأراضي، إلى جانب السكان الأصليين، حتى يضمن ولاء العرقيات المختلفة له؛ وهي السياسية التي كفلت له السيطرة على هذه الأراضي الجديدة.
وواصل مراد الأول حملاته في البلقان حتى وقع الصدام بينه وبين الصرب الذين كانوا يمثلون قوة عسكرية شديدة البأس تاريخيًا. وعام 1389، خاضت القوات العثمانية معركتها الفاصلة ضدهم، وهي «معركة كوسوفو»، التي كانت واقعة حربية شديدة العنف سيحصل المنتصر فيها على صربيا بالكامل، بما فيها إقليم كوسوفو. وبعد معارك كرّ وفرّ، حقّقت القوات العثمانية نصرًا كبيرًا على الجيش الصربي. ولكن، خلال المعركة، هرب ميلوش، زوج ابنة القائد الصربي، واستسلم للعثمانيين بمكر، وطلب لقاء السلطان مراد. وبينما كان ينحني أمام مراد، عاجله بضربتين من خنجره في صدره أودتا بحياة هذا السلطان العظيم.. ولكن ليس قبل أن يصدر مراد آخر حكم له بإعدام ميلوش.
أسلم السلطان مراد الروح هناك، وجرى دفنه في محيط مدينة بريشتينا الشهيرة، عاصمة كوسوفو. وما زال قبره هناك مزارًا إلى يومنا هذا. ومن ثم، تولى الحكم خلفًا له ابنه بايزيد الأول، ولكن ليس قبل أن يقتل أخاه خليل لضمان عدم منافسته على الحكم، وهي الآفة التي اتسم بها السلاطين العثمانيون عبر تاريخهم.
بناءً على ما رأيناه، يستحق مراد الأول لقب «مؤسس الإمبراطورية العثمانية»، كونه نقلها من دولة متوسطة إلى إمبراطورية كبيرة. ولعل أعظم ما في هذا الرجل تلك المعادلة السياسية التي اتبعها خلال حكمه للموازنة بين الفتوحات العسكرية والقدرة على هضم الأراضي تباعًا دون عناء كبير. ومن ثم، فتحه المجال للتوطن العثماني في هذه الأراضي، وهو ما كفل له سياسة توسعية ثابتة ودولة مركزية قوية بدأت تلعب دورها في السياسة الأوروبية، وكادت خلال القرون التالية أن تجتاح غرب أوروبا، لولا الظروف السياسية والعسكرية المعاكسة التي لم تسمح لها بذلك.



حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
TT
20

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

ثمة فوارق جوهرية بين استراتيجيات الولايات المتحدة والصين في الرسائل السياسية-الاقتصادية المتبادلة بين البلدين العملاقين. فواشنطن، من خلال تصعيد الرسوم بسرعة وبشدة، تظهر قوتها الاقتصادية وتستخدم التصعيد أداة ضغط سياسي واقتصادي، معتمدة على واقع الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عالمية. بالمقابل، اختارت بكين نهجاً تدريجياً وأكثر تحفظاً، في البداية، ربما لتفادي التصعيد المباشر مع واشنطن ولتجنب الدخول في حرب تجارية شاملة قد تؤثر على الاقتصاد العالمي.

ولكن، مع مرور الوقت، رفع الجانب الصيني ردوده تدريجياً لتصل إلى مستوى قريب من حجم إجراءات الجانب الأميركي، ما يشير إلى رد بالمثل لكن محسوب، مع إظهار حرص على التوازن وتحاشي الانجرار نحو تصعيد كامل.

التفاوت الزمني

أيضاً، يكشف الفارق بين تواريخ التصعيد بين الطرفين عن مدى تفاعل كل طرف مع الآخر وردّه على تحركاته. فالتفاوت الزمني بين التصعيدات يعكس استراتيجية قائمة على مراقبة مستمرة وحسابات دقيقة من الجانبين، حيث يعكس كل تصعيد رد فعل مدروسا، وليس ردة فعل عشوائية. وبالتالي، كل طرف يراقب الآخر ويأخذ في اعتباره تحرّكاته قبل اتخاذ قراراته، ما يعكس تنسيقاً ضمنياً بين القرارات المتخذة.

«التحكم» و«الهيبة»

من خلال هذا التصعيد المتبادل، يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكأنه يبعث برسالة واضحة مضمونها «نحن نتحكّم بالسوق العالمي، وسنضغط بقوة».

إنه موقف يعكس صورة قوة الولايات المتحدة كداعم رئيس في الاقتصاد العالمي، ويؤكد أنها مستعدة للمضي بالضغط على الصين إلى أن تمتثل الأخيرة لمطالبها. وفي الجهة المقابلة، تسعى بكين من خلال الردّ المتدرّج إلى إرسال رسالة معاكسة مضمونها «نحن نرد بالمثل لكن بحكمة وتدرّج، ولسنا منفعلين». وهذا الموقف يعكس «توازناً» حذراً في الردود الصينية، ويعزّز من صورتها كدولة قوية اقتصادياً تستطيع اتخاذ قرارات مدروسة... بعيداً عن الانفعال وردود الفعل العاطفية.

أسلوب الرئيس الصيني ... و«الكتاب الأبيض»

في هذا السياق، يعود موقف الرئيس الصيني شي جينبينغ ليشكّل الإطار العام لفهم هذا السلوك؛ فالرئيس شدد مراراً على أن التعاون هو الخيار الصحيح الوحيد بين البلدين، وأن الصين لا تسعى إلى الهيمنة أو المواجهة، بل إلى حوار قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. غير أن هذا الانفتاح الصيني لا يعني قبولاً بالضغط أو الإملاءات، كما يوضح «الكتاب الأبيض» الصيني، الذي أكد أن بكين «لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات الترهيب الاقتصادي»، وإن كانت في الوقت ذاته تفضل استخدام أدوات محسوبة ومدروسة.

في التاسع من أبريل (نيسان) 2025، أصدر مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني «الكتاب الأبيض» الذي حمل عنوان «موقف الصين بشأن بعض القضايا المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة».

لم يكن الكتاب مجرّد وثيقة حكومية عابرة، بل جاء مرافعةً استراتيجيةً شاملة، مدعومة بالأرقام والحقائق، وتكشف عن موقف بكين من العلاقة الاقتصادية الأكثر حساسية في عالم اليوم: علاقتها مع واشنطن.

ما قدّمته الصين في هذا الكتاب ليس دفاعاً بقدر ما هو دعوة إلى «الفهم الواقعي». ذلك أن العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة - وفق بكين - ليست «لعبة صفرية»، بل منظومة تكامل معقّدة، قائمة على المنفعة المتبادلة والنتائج المُربحة للطرفين. وترى جهات قريبة من بكين أن هذا المنطلق يغيب عن بعض دوائر صنع القرار في العاصمة الأميركية، التي ما زالت تعاني من تبعات «ذهول ما بعد الهيمنة»، وتُصرّ على قراءة الحاضر بعدسات الماضي الإمبراطوري.

من التعاون إلى التوتر... أرقام لا تكذب

تبدأ القيادة الصينية في «كتابها الأبيض» بتشخيص للعلاقات الاقتصادية الثنائية، فتشير إلى أن هذه العلاقة «لم تُبْنَ في فراغ، بل هي نتاج تطور طبيعي استجابت فيه قوانين السوق والمنطق الاقتصادي لحاجات كل من البلدين».

فمنذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1979، ارتفع حجم التجارة الثنائية من أقل من 2.5 مليار دولار أميركي إلى نحو 688.3 مليار دولار في عام 2024.

هذا النمو المذهل ما كان ليتحقّق لولا التكامل العميق في الموارد، ورأس المال، والتكنولوجيا، واليد العاملة، والأسواق بين البلدين. إذ أصبحت الصين سوقاً رئيسة للمنتجات الزراعية الأميركية مثل فول الصويا إلى القطن ووصولاً للغاز والأجهزة الطبية. وفي المقابل، استفاد المستهلك الأميركي من المنتجات الصينية ذات الجودة العالية والتكلفة المعقولة، ما خفّض تكاليف المعيشة ورفع مستوى القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والدنيا.

من الزاوية الصينية، لم يكن الفائض التجاري هدفاً مقصوداً، بل نتيجة طبيعية لتركيبة الاقتصاد العالمي، وللخيار الأميركي بالتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية والاعتماد على الاستيراد من الصين في قطاعات التصنيع. ثم إن تقييم هذا الفائض باستخدام منهجية «القيمة المضافة» يغيّر الصورة جذرياً، إذ إن القيمة التي تحصل عليها الصين من العديد من صادراتها لا تمثل سوى جزء بسيط من القيمة النهائية للسلع.

واشنطن والتناقض البنيوي: عن العجز والتضليل

على الرغم من هذه الحقائق، تصرّ بعض الجهات السياسية والاقتصادية - اليمينية، بالذات - في واشنطن على تصوير العلاقات الاقتصادية مع الصين على أنها سبب رئيس للعجز التجاري الأميركي، مُتناسية العوامل البنيوية التي تعاني منها منظومتها الصناعية، بما في ذلك ارتفاع التكاليف الداخلية، ونقل الصناعات إلى الخارج، والتركيز على قطاع الخدمات على حساب الصناعة التحويلية.

الإحصاءات التي أوردها «الكتاب الأبيض» تشير إلى أن الولايات المتحدة تحقق فوائض كبيرة في تجارة الخدمات مع الصين بلغت 26.57 مليار دولار في عام 2023، كما أن الشركات الأميركية في الصين تحقق أرباحاً ضخمة، إذ بلغ حجم مبيعاتها في السوق الصينية عام 2022 نحو 490.52 مليار دولار أميركي، بفارق يزيد على 400 مليار دولار عن مبيعات الشركات الصينية في الولايات المتحدة.

بلغة الأرقام، يتّضح أن المكاسب المتبادلة أكثر توازناً مما يحاول بعض الساسة الأميركيين تصويره. وإذا ما جرى احتساب المبيعات والخدمات وتدفقات الاستثمار بشكل مشترك، فإن العلاقات الصينية ـ الأميركية تبدو بعيدة كل البعد عن «الرواية الأحادية» التي تتكلّم عن «استغلال» أو «سرقة» اقتصادية.

الحرب التجارية ... سلاح ذو حدّين

في الحقيقة، لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي، وفرضت منذ عام 2018 رسوماً جمركية أحادية الجانب على مئات المليارات من الدولارات من السلع الصينية. ومع أن هذه الإجراءات فُرضت تحت شعار «حماية الصناعة الوطنية»، فإن الواقع أثبت عكس ذلك.

وحقاً، تفيد دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي إلى أن أكثر من 90 % من تكاليف هذه الرسوم انتقلت فعلياً إلى المستهلكين الأميركيين. كذلك فإن هذه الإجراءات لم تساهم في تقليص العجز التجاري الإجمالي، ولم تُعِد الحيوية للصناعة الأميركية. بل على العكس، أدّت إلى ارتفاع أسعار السلع، وتباطؤ النمو، وإضعاف القدرة الشرائية للمواطن الأميركي.

بل، من المفارقات أن هذه الحرب التجارية تزامنت مع احتجاجات في الداخل الأميركي، لا سيما من القطاعات الزراعية والصناعية المتضرّرة، التي خسرت أسواقها في الصين بسبب سياسات التصعيد. ولقد أظهرت بيانات السوق تراجع التوقعات بشأن النمو الاقتصادي الأميركي على خلفية هذه السياسات.

الصين: لا صدام ... ولا تهديد

من جهة ثانية، جاء في «الكتاب الأبيض» أيضاً أن «الصين لا تسعى إلى حرب تجارية، لكنها في ذات الوقت لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما تعتبره ترهيباً اقتصادياً». وبالنسبة لبكين، فإن التعاون هو الخيار الأول، لكن الرد بالمثل خيار دائم إذا اقتضت الحاجة.

وهنا تؤكد بكين أن الحل الأمثل هو «الحوار المتكافئ، واحترام المصالح الأساسية لكل طرف»، لا سيما أن العالم لم يعُد ساحة للابتزاز، بل غدا شبكة معقدة من المصالح. وعليه فالانفصال القسري لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر للطرفين، وربما للنظام الاقتصادي الدولي بأسره.

ووفق جهات مقرّبة من بكين، فبين أكثر ما يلفت النظر في الموقف الصيني، ليس فقط إصرار بكين على «الحقائق الاقتصادية»، بل أيضاً محاولتها معالجة جذور الخلل في نظرة واشنطن للصين.

وحسب هذه الجهات، فإن نسبة عالية من الساسة الأميركيين ووسائل الإعلام التابعة لهم، لا تزال تنظر إلى الصين من خلال «عدسة الحرب الباردة»، فإما أن تكون الصين «شريكاً طيعاً» أو «عدواً مطلوباً تحجيمه». لكن الحقيقة التي تتجاهلها هذه الرؤية هي أن الصين المعاصرة ليست دولة تُدار وفق نص مكتوب في واشنطن، بل أمة عمرها خمسة آلاف سنة، سلكت طريقاً تنموياً خاصاً بها، قائماً على الواقعية، والإصلاح التدريجي، والتفاعل العميق مع العولمة. وهذا بالضبط ما عبّر عنه بوضوح كبير الدبلوماسيين الصينيين يانغ جيه تشي خلال قمة ألاسكا الشهيرة حين قال: «واشنطن لا تملك المؤهلات اللازمة للتكلّم إلى الصين من موقع قوة».

الهيمنة تُفقد البوصلة

أخيراً، يقول مقربّون من بكين إنه من خلال تتبع سياسات واشنطن، يظهر أن الأزمة الأعمق ليست في التجارة أو التوازن الاقتصادي، بل في نمط التفكير السائد في واشنطن. وحسب هؤلاء «هناك تيار سياسي أميركي لا يستطيع تقبّل فكرة عالم متعدّد الأقطاب، قارئاً في صعود الصين تهديداً لامتيازات استمرت لعقود، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية».

بالتالي - والكلام لا يزال للمقربين من بكين - «هذا النمط من التفكير جعل بعض السياسيين في واشنطن كمن يحاول قيادة قطار فائق السرعة بمحرك عربة تجرها الخيول. فهم يصرّون على استخدام معايير القرن التاسع عشر لفهم تفاعلات القرن الحادي والعشرين، ويحاولون لعب أدوار متناقضة في الوقت نفسه: الحكم واللاعب والمُشرّع». لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي على الصين