تسعى مصر لتقنين «الصحافة الرقمية» أو المواقع الإخبارية على الإنترنت، من خلال وضع شروط ورسوم مالية قبل إطلاقها على الشبكة العنكبوتية، والتعامل معها بعد ذلك كمؤسسات احترافية يدير الأمور فيها صحافيون أعضاء في «نقابة الصحافيين»، التي ظلت لسنوات طويلة «نقابة للصحافة الورقية». وقال يحيى قلاش، نقيب الصحافيين المصريين، لـ«الشرق الأوسط»، إن النقابة لن تظل «نقابة للصحافة الورقية فقط»، وأضاف أن «الواقع أصبح يحتم علينا أن نجاري تطور الزمن وأن نتعامل مع الصحافة الإلكترونية كجزء من نسيج العمل الصحافي المؤسسي».
وبعد إجازة استمرت نحو شهرين، يستعد البرلمان لاستئناف جلساته في غضون أسبوع. وبدأ الجدل بين مشرعين وإعلاميين، حول المشروع الذي يحمل اسم «تنظيم الصحافة والإعلام». خرجت بيانات علنية وتسريبات من تحت الطاولة أيضًا. يبدو أنها طريقة لجس نبض معارضين محتملين.
وأحالت الحكومة المشروع إلى مجلس الدولة، وهو جهة تراقب سلامة صياغة القوانين ويأخذ في الاعتبار ما يحال إليه من مقترحات بهذا الشأن. ومن المقرر أن يعيده «المجلس» للسلطة التنفيذية بتعديلات جديدة، وسط لغط عن مصير بنود قدمتها نقابة الصحافيين لـ«تلطيف بعض المواد». وتخشى مواقع إخبارية من قيود على الحريات ومن إجبارها على سداد مبالغ مالية تفوق قدرتها. لكن وزير الإعلام المصري الأسبق، أسامة هيكل، قال لـ«الشرق الأوسط» إن مشروع القانون يستهدف التنظيم وليس التقييد. ويشغل هيكل حاليًا رئاسة لجنة معنية بالإعلام في البرلمان. كما كان رئيسًا لتحرير صحيفة «الوفد» الليبرالية المعارضة.
ومثلما زاد عدد الصحف الورقية الصادرة عن مؤسسات مستقلة منذ «ثورة 2011»، أصبحت توجد أيضًا عدة مئات من المواقع الإخبارية الخاصة التي تمكنت من إيجاد موضع قدم لها في الوسط الإعلامي والصحافي في دولة يبلغ عدد مستخدمي الإنترنت فيها نحو 30.8 مليون مستخدم، بنسبة نحو 33 في المائة من عدد السكان، وفقًا لموقع «internet livestats» الذي يرصد عدد مستخدمي الإنترنت في العالم.
واشترط مشروع القانون الجديد ألا يقل رأسمال الشركة المدفوع عن 500 ألف جنيه (السعر الرسمي للدولار يبلغ نحو 8.85 جنيها)، لإصدار موقع إلكتروني إخباري. وقال خالد البلشي، رئيس تحرير موقع «البداية» الإلكتروني: «تقدمنا، في نقابة الصحافيين، باقتراح لتخفيض هذا المبلغ إلى 150 ألف جنيه أو 200 ألف جنيه». ويتولى البلشي موقع رئيس لجنة الحريات في النقابة. وأوضح أنه يخشى أن تكون «روح الحريات» في مشروع القانون أقل مما كانت عليه في السابق.
كما اشترط التشريع الجديد على الصحف الخاصة التي يصدرها الأشخاص الاعتباريون أن تتخذ شكل تعاونيات أو شركات مملوكة للمصريين وحدهم، ولا يقل رأسمال الشركة المدفوع عن ثلاثة ملايين جنيه إذا كانت الصحيفة (ورقية) يومية، ونصف مليون جنيه إذا كانت صحيفة إلكترونية.
وقال رئيس تحرير «البداية» إنه لا يعرف إن كان قد تم الأخذ باقتراح تخفيض المبلغ أم لا، أثناء عرض مشروع القانون في مجلس الدولة.. لكن في كل الأحوال سيوفق أوضاع صحيفته الإلكترونية، مثل كثير من المواقع المشابهة الأخرى، لتتماشى مع القانون. وتوجد هواجس بشأن احتمال تسرب مواد في القانون المقترح في نسخته الحكومية، تعطي للسلطة التنفيذية هيمنة، من خلال طبيعة تشكيل الهيئات التي ستكون مختصة بعالم الصحافة والإعلام، وهي «المجلس الأعلى للصحافة» و«الهيئة الوطنية للصحافة» و«الهيئة الوطنية للإعلام».
البلشي يرى أنه يمكن التغاضي عن مسألة تخفيض مبلغ التأسيس، قائلا إنه في نهاية المطاف: «أنا أرى أن هذا كلام يمكن أن أتجاوزه رغم كل شيء، أضف إلى ذلك أن القانون يعطيني فرصة لتقنين الأوضاع لمدة سنة». وحركت عدة تسريبات الجدل، قبل الأوان، حول أحقية رئيس السلطة التنفيذية في تعيين أعضاء في الهيئات الثلاث التي ستتولى الإشراف على الإعلام والصحافة.
ومن بين ما خرج من تحت الطاولة القول بإمكانية إخراج المواد الخاصة بتلك الهيئات، من مشروع القانون المقترح، ووضعها في قانون منفصل، لتخفيف حدة أي معارضة متوقعة لمشروع القانون الأصلي عند عرضه على البرلمان.
ويضم البرلمان 12 نائبًا على الأقل قادمين من خلفيات لها علاقة بالعمل في الصحافة والتلفزيون، لكن معظمهم يؤيد عادة التوجهات الحكومية. ودعا عدد من كبار الصحافيين، نواب الكتل البرلمانية والحكومة إلى عقد لجان استماع ومناقشة لطرد الشائعات التي تتسرب بشأن بنود مفصلية في المشروع المقترح، إلا أن الحكومة لم تعلق «انتظارا لما ستنتهي إليه مراجعة مجلس الدولة».
وجاء التشريع الجديد تطبيقًا للدستور الذي وافق عليه المصريون بعد سنة من «ثورة 2013» ضد حكم جماعة الإخوان. ففي عام 2014 جرى إلغاء منصب «وزير الإعلام»، لأول مرة منذ عام 1952، مما ترك هذا الجسم «دون رأس مركزي» رغم تضخمه، خاصة مع تزايد المواقع الإخبارية الإنترنتية، وذلك انتظارًا لصدور القانون الذي يضع الإعلام الرقمي ضمن أولوياته، ويحاول وضع أسلوب عصري لإدارة الإعلام والصحافة بعيدًا عن التدخل المباشر من الحكومة.
ويُلزم مشروع القانون الدولة بضمان حرية الصحافة والإعلام والطباعة والنشر الورقي والمسموع والمرئي والإلكتروني. ويحظر «الحبس الاحتياطي» في الجرائم التي تقع بواسطة الصحافيين أو الإعلاميين المتعلقة بممارسة عملهم. كما يعاقب بالحبس والغرامة المالية، أو كليهما.. «كل من تعدى على صحافي أو إعلامي بسبب أو أثناء عمله».
ووجه الرئيس عبد الفتاح السيسي، بضرورة الانتهاء من إصدار المشروع في عدة مناسبات. وكان يفترض مناقشته وإقراره في البرلمان قبل أشهر، لكن محاولات لاسترضاء أطراف متباينة التوجهات أدت، على ما يبدو، إلى تأجيل الأمر إلى الدورة البرلمانية الجديدة.
وصحب ذلك مخاوف من ملاك مواقع إلكترونية بشأن القدرة مستقبلا على العمل دون قيود. وقال أسامة هيكل، رئيس لجنة الثقافة والإعلام في البرلمان: «نأمل أن يتم الانتهاء من مشروع القانون في الدورة المقبلة»، مشيرًا إلى أن المشروع يستهدف تنظيم المواقع الإلكترونية الإخبارية وليس تقييدها، و«من الطبيعي أنه ستكون هناك فترة انتقالية لتقنين اﻷوضاع. نحن في انتظار إحالة مشروع القانون إلينا من الحكومة بعد مراجعته في مجلس الدولة».
ويشغل عضوية نقابة الصحافيين المصريين التي تتخذ لها شعار «قلعة الحريات»، نحو 8500 عضو، ممن يعملون في الصحف الورقية. بينما يعمل في مئات المواقع الإلكترونية الإخبارية الخاصة أعداد غير معروفة وغير مسجلة في نقابة الصحافيين، مما يعرض محرريها ومندوبيها ومراسليها للمؤاخذات القانونية بسبب عدم حملهم بطاقات النقابة. وحاولت تجمعات لصحافيي مواقع إخبارية إلكترونية، غالبيتهم من الأجيال الجديدة، تأسيس نقابات موازية في الأعوام الخمس الأخيرة، لكنها ظلت بلا فاعلية أمام الثقل الذي تمثله النقابة الأم التي تأسست على يد كبار الصحافيين قبل 75 عامًا.
ودخل الإنترنت إلى مصر على نطاق محدود عام 1992، وتوسعت الخدمة بعد ذلك بخمس سنوات لتدخل بيوت المواطنين لكن بقدرة تحميل متواضعة لم تزد وقتها عن 256 كيلوبايت في الثانية. وظهرت الثورة الإنترنتية الحقيقية بعد عام 2004، بوصول عدد الداخلين على الشبكة إلى نحو 8.7 مليون في مصر، وذلك حينما توسعت الحكومة في مبادرة الإنترنت المجانية وزيادة سرعته، مما دفع الكثير من الصحف الورقية القائمة بالفعل لإنشاء مواقع لها، لكن الأمور كانت تتغير في جهة أخرى.
فقد بدأت صفحات المدونين المعارضين الذين يعبرون عن أنفسهم، في مزاحمة عالم الصحافة المنضبطة، خاصة بعد أن ضاعفت الحكومة سرعة التحميل على الشبكة العنكبوتية مجددًا، حيث وصلت حينها إلى 24 ميغا في الثانية. وبحلول عام 2010 كان عدد الداخلين على الإنترنت قد ارتفع إلى نحو 17.7 مليون، إلا أنه لوحظ تراجع عالم المدونين، في مقابل امتلاء الإنترنت بمواقع إخبارية بدأت تتزايد بعد ثورة 2011 على حساب مؤسسات صحافية ورقية عريقة، حيث وصل عدد مستخدمي الإنترنت في تلك السنة إلى 21.4 مليون مستخدم. ومنذ ذلك الوقت حتى اليوم زاد عليهم أكثر من 9 ملايين مستخدم جديد، وبالتزامن مع هذا تشكل جيل من الصحافيين الإلكترونيين الشبان، ممن وجدوا أنفسهم دون حماية قانونية وخارج منظومة الصحافة التقليدية.
وقال قلاش، الذي جرى انتخابه نقيبًا للصحافيين العام الماضي ولديه خبرة طويلة في العمل النقابي، وقضايا الحريات وتطوير مهنة الصحافة: «نحاول أن نجعل الصحافة الإلكترونية ذات طابع مؤسسي، وخاضعة لعلاقات عمل منظمة». وأضاف: «نحن لن نظل نقابة الصحافة المكتوبة، ولن نكون فلكلورًا، وفي النهاية النقابة تستوعب أي تطور. المستقبل يسير في هذا الاتجاه. نحن نريد للصحافة الإلكترونية أن تكون جزءًا من نسيج العمل الصحافي الذي يراعي حدًا أدنى من علاقات العمل».
وعلى عكس من يستكثرون مبلغ تأسيس صحيفة إلكترونية في مشروع القانون الجديد، يرى قلاش أن المبلغ أقل من ثمن شقة تصلح كمقر للموقع والعاملين فيه.. «هناك بعض الناس استكثروا الـ500 ألف جنيه، ونحن من وجهة نظرنا نرى أنه حتى لو أردت أن تشتري شقة بهذا المبلغ، فلن تجد. فكرة أن يقوم شخص مع اثنين من أصدقائه بإدارة صفحة أو موقع على الإنترنت للتعبير عن أنفسهم.. فهذه ليست مؤسسة صحافية. يوجد فرق بين حرية التعبير والاحتراف. نحن نتحدث عن الاحتراف. يكون للموقع مقر وهيئة تحرير نقابية تتطلب مرتبات».
ومن بين المخاوف التي بثها معارضون للحكومة، القول بأن مشروع القانون الجديد سوف يعاقب من لا يلتزمون بنصوصه، من أصحاب المواقع الشخصية على الإنترنت، بما فيها صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. ولا تتضمن صياغة مشروع القانون أي شيء من هذا الأمر. وقال قلاش: «من حق أي شخص أن ينشئ صفحات. لا تستطيع أن تطارد ملايين البشر على مواقع التواصل الاجتماعي. ومن حق المؤسسات أيضًا أن تفعل ذلك كنوع من الدعاية والترويج والإعلان عن نفسها.. نحن نعرف كل هذا، لكن الصحافة الإلكترونية المحترفة، لا بد أن يتوفر لها الحد الأدنى من التنظيم ومن علاقات العمل.. وهذا ما نسعى إليه».
وعن تقديره لعدد المواقع الإنترنتية الإخبارية في مصر، أوضح أن عددها «كبير جدًا»، نتيجة لأنه لا توجد شروط لها. كما أصبح هناك نقابات كل منها تقول إنها نقابة للصحافة الإلكترونية.. «بينما يتم فيها استغلال شباب صغير السن يسعى للعمل في هذا المجال، لكنه يخضع للابتزاز من مثل هذه النقابات، بزعم أنها قادرة على إصدار بطاقات صحافية لهم تعطيهم الحق في العمل الصحافي، وهذا في رأيي خطر.. وخطر على المهنة نفسها».
مصر تقنن الصحافة الرقمية
شروط إدارية ورسوم مالية لإطلاقها كمؤسسات احترافية على الإنترنت
مصر تقنن الصحافة الرقمية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة