عبد العزيز بن ماضي.. عاش تأسيس السعودية وذروة التحول الكبير فيها

من الشخصيات التي صارت رموزًا للوطن

عبد العزيز بن ماضي (في الإطار) - استقر في العقود الخمسة الأخيرة من حياته بمدينة الخبر ومات فيها
عبد العزيز بن ماضي (في الإطار) - استقر في العقود الخمسة الأخيرة من حياته بمدينة الخبر ومات فيها
TT

عبد العزيز بن ماضي.. عاش تأسيس السعودية وذروة التحول الكبير فيها

عبد العزيز بن ماضي (في الإطار) - استقر في العقود الخمسة الأخيرة من حياته بمدينة الخبر ومات فيها
عبد العزيز بن ماضي (في الإطار) - استقر في العقود الخمسة الأخيرة من حياته بمدينة الخبر ومات فيها

تُؤخذ حياة عبد العزيز بن ماضي (1912 - 1998) وسيرته نموذجًا لعدد من رجالات أسرته، ممن لحق بهم أو عاصرهم، إذا ذُكرت أسماؤُهم يطرب المجلس لذكرهم مثلما يعبق التاريخ بشخصيّاتهم. لم تعُد أعلامهم تنتمي حصرًا إلى مُدنهم وأقاليمهم، بل صاروا رموزًا للوطن، وشهدت لهم بقاع كثيرة فيه؛ من جازان وعسير جنوبًا، إلى ضبا شمالاً، والقطيف والخُبر شرقًا، ولا يزال في أسرتهم رجال ونساء أمجاد وأكفياء متفوّقون في مختلف التخصصات العلمية والهندسية، سيماهم تظهر في سلوكهم وأعمالهم؛ وتتجلّى بالوطنية والإخلاص والنزاهة وصلة الرحم.
وفي التاريخ المعاصر للسعودية وشبه الجزيرة العربية، ذكر يتردد لأمثلة من هذه الأسرة؛ كجدهم الأول محمد بن ماضي (المعروف براعي المنقيّة) المعاصر للشاعرين الشعبّيين المشهورين رميزان التميمي وحميدان الشويعر (نهاية القرن السابع عشر حتّى منتصف القرن الثامن عشر) في عهد الدولة السعودية الأولى، ثم مشاري بن ماضي والشاعر تركي بن ماضي (الجد) المتزامنين مع عهد الإمام تركي بن عبد الله مؤسس الدولة السعودية الثانية.
وفي العهد الحديث، عبد العزيز بن جاسر بن ماضي وابناه محمد وعبد العزيز (شخصية هذا المقال)، وتركي بن محمد وأخواه عبد الله وحمد الماضي، وابنه محمد بن حمد الماضي (أبو حمد عميد أسرة الماضي الآن) الذي عمل في ديوان الملك عبد العزيز.
ومن يقرأ في المذكرات المطبوعة لأحد رجالات هذه الأسرة، وهو تركي بن ماضي، يدرك أهمية المسؤوليّات التي قام بها ضمن الوفود المرسلة إلى اليمن بين عامي 1924 و1933 إبّان النزاع القديم مع السعودية، الذي هدأ باتفاقية الطائف المعروفة (1934)، ثم لحقتها جولات لتسوية القضايا الحدودية، وكان تركي بن ماضي يكتب تلك المذكرات تباعًا ويحفظها مخطوطةً، ثم اكتشفها ابنه الدكتور فهد الماضي ضمن مقتنيات والده وعمل على نشرها بتشجيع من الأمير (الملك) سلمان أمير منطقة الرياض آنذاك ورئيس دارة الملك عبد العزيز، وصدرت عام 1997، وقد عُين عام 1933 أميرًا (حاكمًا إداريًا) على بلاد غامد وزهران (منطقة الباحة)، ثم على منطقة نجران (1937)، فمنطقة عسير (1951)، وتوفّي مستشفيًا في لبنان عام 1965 ودفن في مكة المكرمة.
أما شخصيّة المقال (الذي سمّي باسم أبيه المتوفّى قُبيل الولادة كعادة بعض الأُسر) فمخضرم، تزامنت ولادته مع دخول إقليمي الأحساء والقطيف في حكم السلطان عبد العزيز (1912)، وعاش تأسيس المملكة العربية السعودية وذروة التحوّل الكبير فيها؛ من العوز إلى اكتشاف النفط، ومن الخوف إلى الأمن والاستقرار، ومن الجهل إلى المعارف، ومن الافتراق إلى التجمع والوحدة، ومن بيوت الشّعر والطين إلى ناطحات السحاب، ومن بريد الجمّالة إلى البريد الإلكتروني، وأدرك بوعيه الكامل عهود خمسة ملوك، وتنقّل في المسؤوليّات في مناطق عدة كان في آخرها أميرًا لمدينة الخُبر على ساحل الخليج العربي حتى عام 1955.
أجريتُ معه (يناير/ كانون الثاني 1977) لقاءً تلفزيونيًّا توثيقيًّا مطوّلاً لا يزال محفوظًا، لكنه مُتاح عبر قناة «يوتيوب»، تناول فيه منبع أسرته وسيَر رموزها، ونشأة مدينتهم روضة سدير «الداخلة» والبلدات المحيطة بها، والأسر التي استوطنتها أو خرجت منها، والنزاعات التي كانت تحدث بينها قبل توحيد أقاليم نجد، وتحدث فيه عن جغرافية إقليم سدير وعلاقته بالوادي المعروف، وسبب تسمية الإقليم وأبعاده ومدنه وقراه وروضاته وواحاته، والأساطير المنسوجة عنه والأشعار العاميّة الموروثة حوله، وروى بعضًا من نظمه، كما عرّج على سيرة أخيه الأكبر محمد بن عبد العزيز بن ماضي الذي رافق الملك عبد العزيز عن قُرب، وشارك في بعض غزواته منذ دخول الأحساء والقطيف في حكمه (1912).
وأورد شيئًا من ذكرياته الشخصيّة مع الملك فيصل؛ حيث جالسه سنوات عدة، والمسامرات التي كانت تتم مع بعض الشعراء من حوله (مثل عبد الله بن لويحان والأميرين فهد بن سعد بن عبد الرحمن وعبد الله الفيصل)، وتطرّق إلى بعض المسؤوليّات التي كُلّف بها، والمغازي التي شهدها شخصيًّا، كتلك التي وقعت في منطقة عسير بقيادة عبد العزيز بن مساعد بن جلوي، وعدّد أسماء الشعراء المعاصرين في إقليم سدير (ومنهم ابن جعيثن وابن لعبون وابن صالح وابن هويدي وسليمان بن مشاري بن علي والمعجل)، وتحدّث عن عادات أهل سدير وتقاليدهم، وغيرها من الذكريات التي لا يتّسع المقام لذكرها.
استقر في العقود الخمسة الأخيرة من حياته منذ عام 1948 في مدينة الخُبر التي أحبّها وتوفّي فيها منذ ما ينيف على عقدين، وعقد علاقات وثيقة مع جيله من الأعيان والمثقفين ورجال الأعمال في المنطقة الشرقية من السعودية (الدمام والقطيف والظهران والخُبر وما جاورها) ومع الشباب من طلاب جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في الظهران، وفرع جامعة الملك فيصل بالمنطقة الشرقية، قبل تحويله إلى جامعة مستقلة (جامعة الدمام).. وغيرهما، فلقد عُرف مجتمع تلك المنطقة على مرّ العقود بنسبة عالية من التآلف والتوادٌ والتآخي والتواصل الاجتماعي، وكان منزله مقصدهم ومُنتداهم، يتذكرون طُرفه ومسامراته وحكاياته الإخوانية معهم، ورواياته من التراث، وكان في الوقت نفسه يصل وشائج الرحم مع أقاربه في المناطق الأخرى، وبخاصة في المناسبات والأعياد.
«ابن ماضي» - أو «أمير الخبر» كما يُميّز - نموذج من هذه الأسرة وغيرها، الذين أسهموا جميعًا، كل بقدر ما يمتلك، مع المؤسسين العظماء (الملك عبد العزيز ورجاله وقادته من كل أرجاء وطنهم) فصنعوا أسطورة الوحدة التي تسمّى اليوم المملكة العربية السعودية، ويحتفل أولادهم وأحفادهم بالحمد وبالفخر في هذه الأيام، بذكرى يومها الوطني الرابع والثمانين الميلادي (السادس والثمانون الهجري).



أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري
TT

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً. وسواء كانت الحروب عبر التاريخ تُشن بفعل الصراعات الإثنية والدينية والآيديولوجية والرغبة بالسيطرة والاستحواذ، أو اتخذت شكل الدفاع عن الحرية والمقاومة ضد الاحتلال، فإن نتائجها الوخيمة لم تقتصر على دمار المنازل والمباني والمعالم المادية للعيش، بل تعدت ذلك لتصيب الدواخل الإنسانية بالتصدع، ولتحدث انهياراً كاملاً في نظام القيم وقواعد السلوك، ولتضع علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر في مهب الشكوك والتساؤلات.

همنغواي

على أن من المفارقات اللافتة أن تكون الحروب الضارية التي أصابت الاجتماع الإنساني بأكثر الكوارث فظاعةً وهولاً، هي نفسها التي أمدت الفلسفة والفكر والفن بالأسئلة الأكثر عمقاً عن طبيعة النفس البشرية، ودوافع الخير والشر، ونُظُم الاجتماع الأمثل، فضلاً عن دورها المهم في تغيير الحساسيات الأدبية والفنية، ودفعها باتجاه الحداثة والتجدد. وإذا كان السؤال حول الآثار التي تخلفها الحروب في مجالي الأدب والفن هو من بين الأسئلة التي لم يمل النقاد والمهتمون عن طرحها مع كل حرب جديدة، فإن الإشكالية التي يتم طرحها باستمرار تتعلق بدور الكتاب والمثقفين في زمن الحرب، وعما إذا كان هذا الدور يقتصر على إنتاج النصوص والأعمال الإبداعية، أم أن على الكتاب والفنانين أن يدافعوا بحكم انتمائهم الوطني والقومي والإنساني عن قضايا شعوبهم بشتى السبل والوسائل الممكنة.

وإذا كان هذا النوع من الأسئلة لا يجد له إجابات قاطعة، لأن كل شخص يرى من وجوه الحقيقة ما يلائم مواقفه وتوجهاته، فقد تمكّننا العودة إلى التاريخ من استجلاء بعض الحقائق المتعلقة بمواقف الشعراء والمبدعين من الحروب والنزاعات الأهلية، وبما قاموا به، خارج النصوص والأعمال الفنية، من أدوار وإسهامات. ولعل أول ما يحضرني في هذا السياق هو التجربة الرائدة للشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، خلال الحرب الدامية التي نشبت بين قبيلتي عبس وذبيان، التي عرفت عبر التاريخ بحرب داحس والغبراء. فقد حرص زهير على وصف الحرب بما يليق بها من نعوت، محذراً من نتائجها الكارثية عبر أبياته المعروفة:

وما الحرب إلا ما علمتمْ وذقتمُ

وما هو عنها بالحديث المرَجَّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

تضْرَ إذا ضرَّيْتموها فتضرمِ

فتعرككمْ عرْك الرحى بثفالها

وتَلْقحْ كشافاً ثم تُنتجْ فتتئمِ

إلا أن زهيراً الذي رسم في معلقته إحدى أكثر اللوحات الفنية دلالة على فظاعة الحروب وهولها الكارثي، رأى أن من واجبه كإنسان وكفرد في جماعة، أن يحرض على نبذ العنف، ويدعو إلى تحرير النفوس من الأحقاد والضغائن. وهو إذ راح يمتدح كلاً من داعيتي الصلح، الحارث بن عوف وهرم بن سنان، فلم يفعل ذلك تملقاً أو طلباً للثروة والجاه، بل فعله انتصاراً لمواقفهما الأخلاقية النبيلة، ولما قدماه من تضحيات جسام بهدف إطفاء جذوة الحرب، وإحلال السلام بين المتنازعين.

تولستوي

ومع أن الحروب بأشكالها المختلفة قد شكلت الظهير الأهم للكثير من الأعمال الملحمية والروائية، فإن قيمة العمل المتولد عنها لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية في المعارك والمواجهات، بل موهبته العالية وتفاعله مع الحدث، وكيفية الانتقال به من خانة التوصيف السطحي والتسجيلي إلى خانة الدلالات الأكثر عمقاً للعدالة والحرية والصراع بين الخير والشر، وصولاً إلى الوجود الإنساني نفسه.

وإذا كان تاريخ الأدب بشقيه القديم والحديث حافلاً بالبراهين والأدلة التي تضيق الهوة بين الخيارين المتباينين، فيكفي أن نعود إلى هوميروس، الذي لم تحل إصابته بالعمى وعجزه عن المشاركة في الحروب، دون كتابته لملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة»، تحفتي الأدب الخالدتين. كما يمكن الاستدلال بتولستوي الذي لم تكن رائعته الروائية «الحرب والسلم» ثمرة مشاركته المباشرة في حرب نابليون على روسيا القيصرية، وهو الذي لم يكن أثناءها قد ولد بعد، بل ثمرة تفاعله الوجداني مع معاناة شعبه، ورؤيته النافذة إلى ما يحكم العلاقات الإنسانية من شروخ وتباينات. ومع أنه لم يجد بداً من الانخراط في الجندية في وقت لاحق، فإنه ما لبث أن تحول إلى داعية للمحبة ونبذ العنف، وتحقيق السلام بين البشر.

أما الجانب الآخر من الخيارات فتمثله تجارب كثيرة مغايرة، بينها تجربة الكاتب الأميركي آرنست همنغواي الذي قدم عبر حياته الحافلة، النموذج الأكثر سطوعاً عن العلاقة بين الكتابة والحياة، وهو الذي لم يكتف بوصف الحرب عن بعد، كما فعل كتاب كثيرون، بل عمد إلى الالتحام المباشر بميادينها المحفوفة بالمخاطر، الأمر الذي وفرته له مهنته كمراسل حربي للصحف التي عمل فيها. والواقع أن فائض القوة العضلي لهمنغواي، والتزامه الوطني والإنساني، لم يكونا الدافعين الوحيدين لمشاركته في الحروب التي خاضها، بل كان دافعه الأساسي متمثلاً في البحث عن أرض ملموسة لكتابة رواياته وقصصه المختلفة. وإذا كان انخراط الكاتب الفعال في الحرب العالمية الأولى هو الذي يقف وراء تجربته الروائية المبكرة «وداعاً أيها السلاح»، فإن مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية دفاعاً عن الجمهوريين، وجنباً إلى جنب مع كتاب العالم الكبار، هي التي ألهمته رائعته الروائية اللاحقة «لمن تُقرع الأجراس».

وفي السياق نفسه يمكن لنا أن نضع تجربة الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، الذي دفعه شغفه البالغ بالطيران إلى الالتحاق بقوات بلاده الجوية، ولم يثنه تحطم طائرته في إحدى الطلعات، عن الإمعان في مغامرة التحليق وصولاً إلى نهايته المأساوية عام 1944. غير أن ذلك التحليق بالذات هو الذي أتاح لسانت إكزوبيري أن يرسم عبر «الأمير الصغير» صورة لكوكب الأرض، بعيدة عن العنف ومترعة بالنقاء الطفولي.

قيمة العمل المتولد عن الحروب لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية فيها

ثمة بالطبع شواهد كثيرة، لا تتسع لها هذه المقالة، على الخيارات المتباينة التي اتخذها الكتاب والفنانون في أزمنة الحروب، والتي يتجدد السجال حولها مع كل حرب تقع، أو كل مواجهة تخوضها الشعوب مع غزاتها المحتلين. وإذا كان بعض المبدعين لا يرون علة لوجودهم سوى الإبداع، ولا يجدون ما يقدمونه لأوطانهم في لحظات محنتها، سوى القصيدة أو المعزوفة أو اللوحة أو سواها من ضروب التعبير، فإن بعضهم الآخر يرسمون لأنفسهم أدواراً مختلفة، تتراوح بين الدفاع عن الأرض، لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبين التظاهر وإصدار البيانات المنددة بارتكابات الاحتلال ومجازره وفظاعاته، وصولاً إلى إسهام الكاتب الشخصي في التخفيف من معاناة شعبه، ورفده بأسباب المقاومة والصمود.

على أن أي حديث عن دور الكتاب والفنانين في زمن الحرب، لن يكون له أن يستقيم، دون الإشارة إلى عشرات الإعلاميين والمصورين والمراسلين في فلسطين ولبنان، الذين أسهمت تقاريرهم الميدانية الجريئة في إظهار الطبيعة الوحشية للاحتلال، وفي فضح ادعاءاته الزائفة عن الالتزام بقواعد الحرب الأخلاقية والإنسانية. وإذا كان من المتعذر تماماً استعادة أسماء الإعلاميين والمراسلين الكثر، الذين أصروا على المواءمة بين الواجبين المهني والإنساني، حتى لو كانت حياتهم نفسها هي الثمن، فيكفي في هذا السياق أن نتذكر الكاتبة والإعلامية اللبنانية نجلاء أبو جهجه، التي قامت بالتقاط صور مختلفة لجثث الأطفال المدلاة من سيارة إسعاف بلدة «المنصوري»، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني عام 1996، فيما حرصت في الوقت ذاته على مد يد العون للجرحى المتبقين منهم على قيد الحياة. وفيما غادرت نجلاء هذا العالم، وقد أنهكها مرض عضال، قبل أيام معدودة، لن تكف العيون المطفأة للأطفال، عن ملازمة صوَرها المؤثرة، وتجديد عقدها مع الضوء، وتوزيع نظرات اتهامها الغاضبة بين عدالة العالم المفقودة ووجوه الجلادين.