ربما ساهم فوز كتاب سيلفين تيسون بجائزة «ميديسيس» عام 2011 ثم الرواج الذي عرفه كتابه: «في غابات سيبيريا»، عن دار «غاليمار»، في منح أدب الرحلة دفقا جديدا، ولكن ليس السبب الوحيد، فمهرجان أدب السفر السنوي «سانت مالو» (رحالة مدهشون) ساهم أيضا بطريقته في منح المجال لهذا النوع من الكتابة بالازدهار والتعبير عن نفسه، من خلال انفتاح ما هو فرنسي على ما هو عالمي، إضافة إلى أن الكتاب أنفسهم يبحثون باستمرار عن تغيير كتاباتهم ويلتجئون إلى أجناس أخرى تنقل ما يعتمل في نفوسهم، بعد أن أحسوا بأن الرواية لم تعد تعيش عصرها الذهبي وأنها غير كافية، ولأن الجمهور أيضا تستهويه أجناس ومجالات أخرى. ومن هنا البحث عن أشكال جديدة للكتابة، من قبيل المراسلات والتخييل الذاتي والسيرة الذاتية وحتى «الأدب - العالم»، وهو مصطلح اكتشفه الفرنسي ميشيل لوبريس سنة 1993، بكل ما يعنيه المصطلح من انفتاح على الآخر المختلف.
وقد خصصت المجلة الأدبية الطليعية الفرنسية «ترانسفوج» Transfuge ملفا خاصا عن الرحلة.
يكتب مدير المجلة فانسونت جوري، عن هذا النوع من الأدب، فيقول: «إنه جنس ينزع نحو إنتاج المعرفة. وهو في معظم الحالات، جنس تخترقه من جهة الرغبة في إشراك القارئ في معرفة هذا الجزء أو ذاك من الكرة الأرضية (وصف المشاهد، تقديم معلومات حول مآثر، وقصص مدن، وجغرافيا بلدان، وعقليات الشعوب المحلية... )، ومن جهة أخرى الرغبة الحاضرة والملازمة في إدخال كتاب الماضي في محكي السفر، وهم الذين كانوا بأنفسهم في نفس الأماكن».
ويحاول الملف الذي خصصته المجلة للموضوع الإجابة عن بعض الأسئلة، ومنها: ما الحالة التي يوجد عليها هذا النوع من الأدب، الذي يعيش مخاضات وتحولات لا تتوقف؟ وهل يوجد كتاب معاصرون جيدون؟
يدلي جوري بدلوه فيكتب قائلا: «إن تعريف الأدب الجيد هو الرنة. لأنه لا يوجد ما هو أقوى منه من التأثير، خلال فترة طويلة، على مزاج الإنسان.. لأن البشر، في نظري، ليسوا أكثر من أمزجة ونفسيات. حين نتحدث عن الأدب أعتقد أننا نتحدث عن هذا الأمر. وانطلاقا من هذه الأمزجة تتأسس المفاهيم الصغيرة، وهي ما نسميها، بعظمة وجلال، العلاقة مع العالم».
وحين ينتقل من الأدب إلى كتابة الرحلة، يكتب: «يوجد أدب رحلة يتقدم في أرض معروفة ويتتبع، بنوع من الطاعة والانصياع، الطرق المسحوقة للأماكن العامة. وبالنسبة لمتسكع أصيل كماريوز فيلك كم يوجد من المعادلين الأدبيين للسائح البورجوازي البوهيمي؟ كم من سيلفين تيسون، من أتباع حنين رجعي ومتخلف إلى المغامرة ونحو روحانية شبه شعرية؟ لكن ثمة كتاب آخرون، ومنهم باتريك ديفيل وديفيد فان ريبروك وويليام فولمان وأليكسندرا فولر، يعرفون أنه توجد أراض تستحق أن تستكشف، أي الواقعي، واقعنا وليس واقع ماض متخيل. وكي يهزوا محكي الرحلة، فهم يقفزون إلى قطار اللاخيال الخلاق. البعض ينجزون ريبورتاجات أدبية، وآخرون يخترعون أشكالا تستعصي على التفسير لكنهم يتقاسمون نفس القناعة، وهي أنه لا توجد حدود بين الأدب والواقع، بين الأشياء المرئية والكتابة. إنهم لا يقلون إثارة وإدهاشا عن ستيفنسون وسيندرارس (بليز)».
ويتساءل الكاتب الأميركي جون ماكفي: «ما الذي يجعل محكي رحلة يختلف عن ريبورتاج؟ ما الذي يجعلنا نحس بوجودنا في الأدب، حين نقرأ محكي رحلة ناجحا؟»، يجيب ميشيل لوبريس: «إننا نرى، أكثر فأكثر، روائيين ومخرجين سينمائيين يبحثون عن أشكال تعبيرية جديدة. أفكر، مثلا، في (بومباي ماكسيموم سيتي) للكاتب سوكيتو ميهتا - وهكذا توجد أشكال غير مستقرة تبحث عن نفسها».
يشارك داميان أوبيل، في هذا الملحق، بمقالة تحمل عنوان: «جواز سفر من أجل لا خيال خلاق». نقرأ فيه: «هناك حيث يكتشف الريبورتاج حدوده، يمتلك الأدب وسائل مخففة. ما بين الاثنين ينتصب اللاخيال الخلاق، وهي موجة متدفقة انطلقت من الولايات المتحدة لتصبح المفتاح السحري للكتاب الرحالة. الأدب وسيلة لاستقصاء الواقعي». ويرتكز، في المرحلة الأولى، على وجوب فقدان البوصلة، أي أن يترك المرء نفسه تسير من غير هدى، حتى يخضع للرجات. إنه مشروع تفكيك البوصلة. كل هذا من أجل تحسيس القارئ من أجل أن ينظر إلى المحكي. مثل لوحة فنية، ومثل صورة من فيلم، أو مثل صورة فوتوغرافية. هو مشروع ومثال يلخصه جان كريستوف بايي قائلا: «الموديل، اللاشفهي، هو هنا موديل التصوير الفوتوغرافي»، والهدف هو «أن نثبت لدى مرورنا ما يتوجب علينا أن نطلق عليه الدافع أو المحرك الفوري لبلد ما».
يتعلق الأمر، إذن، كما يرى داميان أوبيل بـ«الحلم القديم الذي راود الأدب - أن يصبح صورة فوتوغرافية أو لوحة فنية - وقد طبق على محكي السفر.. لدي الانطباع أنني كنت هناك! ربما هذا ما يعنيه مصطلح اللاخيال الخلاق، أي جعل ما هو واقعي أكثر واقعية في عيوننا بفضل الأدب».
ويصر باتريك ديفيل على إطلاق تعبير «روايات مغامرات من دون تخييل» على كتبه. ويشرح أنه يؤمن بوجود مغامرات سياسية وعلمية ولكنه لا يؤمن، مطلقا، بالمغامرة الجغرافية.
* كيف يمكن للرحلة أن تكون مغامرة في زمن «غوغل إيرث»؟! يكفي أن يقرأ المرء نصوص الكتاب الكبار لأدب الرحلة في القرن التاسع عشر، مثل ليفينغستون، كي يكتشف أن كل هذا قد انتهى.
يتضمن الملف الجيد دعوة لقراءة كلاسيكيات أدب الرحلة الفرنسية والعالمية، ومنها: نصوص آلين غينسبيرغ، و«شتاء في الشرق الأوسط» (1934) لآن ماري شوارزينباخ، و«فينيسيا» (1905) لجان لورين.. وغيرها.