متى تشكل عربيًا ما يمكن أن نسميه تجاوزًا الخطاب السياسي، أو كما يسميه الكاتب البريطاني مارك تومبسون بـ«اللغة السياسية» في كتابه الجديد «قيل ما يكفي»، كظاهرة في حياتنا المعاصرة؟
عادة، يولد مثل هذا الخطاب مع الانقلابات الكبرى في حياة الشعوب والمجتمعات، أو يمهد لها شعبيًا، وهو موجه بالأساس للجماهير العريضة، مدغدغًا أحاسيسها، وغرائزها، بجمل منمقة حماسية، متدفقة كالسيلان، حتى لا تسمح للآذان بالتقاطها كما ينبغي، ولا للأذهان باستيعابها جيدًا. جمل تولد أخرى، وعبارات لا تكاد تختلف عن بعضها البعض. في مصر، عرفنا هذه الظاهرة بتجسيدها الأقصى أولاً في مصر بعد 1952، وفي العراق لاحقًا. خطابات طويلة لا تقل طولاً عن أغاني السيدة أم كلثوم. وفي كلتا الحالتين، كان لا بد أن يصيب الخدر الحواس الخمس. وبلغ التجييش الشعبي حول الشعارات الكبيرة الموعودة حول الحرية والاشتراكية، التي ظلت تطوّح في الفضاء، أوجه، في الستينات، حين استولى البعثيون على الحكم في العراق وسوريا.
كانت الضحية الأولى هي اللغة، التي امتهنت في تراكيبها، وصيغها، وتسلسلها المنطقي، خصوصًا في طبيعتها باعتبارها وعاء المعنى، وحاملته، وأداة توصيله. أُثقلت رؤوس الناس بالجمل الطنانة، البراقة، والشعارات الكبيرة، والمستقبل الوردي الذي هو على مرمى عصا. كلمات.. كلمات.. كلمات، كما صرخ هاملت، لكن بلا معنى. ثم ورثنا صدام والقذافي والسادات، الذين وصل معهم الخطاب السياسي، أي إفراغ الكلمات من مدلولاتها ومعانيها، إلى الذروة الأقصى.
ومع تغير الأحوال والأزمان، وصلنا إلى فلان وفلان في كل أمكنتنا العربية تقريبًا. لكن بقي جوهر الخطاب السياسي هو نفسه، مع تغير أشكاله بالطبع: بيع الكلمات. فنسمع عن عدو خارجي، يتغير كل مرة حسب الظروف، ومؤامرات داخلية، لا نعرف ما هي، وصعوبات هائلة أورثتها العهود السابقة، من دون أن ندرك ما هي هذه الصعوبات تحديدًا، ولماذا هي عصية على الحل.
إنه ليس إنشاء عربيًا فقط. لقد جيّش هتلر الأمة الألمانية كلها بالكلمات، بجرسها العالي، ورنينها، الذي سارت على إيقاعه أمة راقية بكاملها، مثل الخراف، كما تنبأ عن ذلك هاينريش مان في روايته العظيمة حقا «الخنوع»، وسارت معها شعوب إلى خراب لم تتعافَ منه لعقود طويلة.
ماذا تفعل الكلمات؟ هل اختلف الأمر الآن؟ لقد جيش بوريس جونسون ونايجل فاراج، في خطابهما البلاغي الطنان، أمة الإنجليز بكاملها لتنفصل عن جسدها الأوروبي. وقبلهما حاضر علينا جورج بوش عن محور الشر والخير، مخترعا مصطلحا جديدا سرعان ما دخل في القاموس السياسي. وانظروا ماذا يفعل الآن دونالد ترامب بالرأي العام الأميركي.
ويبدو أن الأمر هو هكذا دائما منذ أثينا إلى عصرنا الحالي أو، بكلمة أخرى، منذ أن قضت البشرية أن يكون هناك محكومون وحاكمون يحكمونهم بالكلمة أولا، مدعومة بالمال كما في الغرب الديمقراطي، وإن لم تنفع الكلمة، فبالسوط، كما في شرقنا المسكين.
لقد خدعونا بالكلمات. نبحث، نحن البائسين، عما وراءها، عما لا تقول. نتوهم أولاً، من يأسنا، أن الكلمات تعني ما تقول، ثم نؤمّل أنفسنا بأن هناك شيئا ما وراء الكلمات، وإلا لماذا تقال؟ لا بد أن القائل، الذي أضفينا عليه هالة وتمجيدا نتيجة شعورنا الأبدي بالدونية تجاه كل من احتل كرسيا عاليا، يعني ما يقول. لا بد أنه يعني ما يقول، وإلا كيف ارتفع حتى حط على هذا الكرسي العالي؟ مساكين نحن. أعيى من باقل العرب، الذي لم يستطع أن يقول ما كان يريد أن يقوله. لم يفهم أن الكلمات لمن يملكها.. وإن كانت بلا معنى.
امتهان اللغة على ألسنة الساسة
امتهان اللغة على ألسنة الساسة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة