لا تلوموا يوسف زيدان!

لا تلوموا يوسف زيدان!
TT

لا تلوموا يوسف زيدان!

لا تلوموا يوسف زيدان!

كان يجب أن يُوجّه الشكر للروائي المصري يوسف زيدان، بدل مهاجمته. هو أحدث صدمة حين قال إن الجزيرة العربية، وهو يعني «الخليج» تحديدًا، لم تولد فيها حضارة على الإطلاق. ببساطة قالها أثناء محاضرة في طنجة بالمغرب: «هات لي عالمًا واحدًا في اللغة العربية من هناك.. عرقيًا العرب كانوا ساكنين في اليمن ولما انهار سد مأرب انتشروا في الأرض، بعضهم راح للشمال وكان يُنظر إليهم قبل الإسلام باعتبارهم سرّاق إبل. هذه المنطقة لم يكن فيها حضارة».
كلام زيدان لا يختلف عما سطره بعض المستشرقين عَنْ العرب عموما، والخليج بشكل خاص، وهي كتابات سطحية وتتسم بالسذاجة وخفة المحتوى، لكنها استخدمت وسيلة لتبرير الاستعمار والهيمنة على أراضي وثروات العالم العربي. ولا يختلف ما قاله زيدان عن الصراع القديم بين ثنائية المركز والأطراف التي نبتت في خيالات بعض المثقفين العرب، حتى ابتلي بعضهم بالعنصرية والشوفينية تجاه كل ما هو خليجي، فنشأت كتابات وأعمال فنية ترسم الخليجي كما ترسمه الصحافة الغربية في الثمانيات: برميل نفط يحوطه رجل متكرش تتناثر النقود من جيوبه وحوله مجموعة من «الحريم» وخيمة وإبل.. ونذكر أنه في عام 1986 كتب الباحث الكويتي الدكتور محمد الرميحي «الخليج ليس نفطًا»، وكانت مناقشة مستفيضة مع ثقافة الصورة التي تعتبر الخليج مجرد برميل نفط فارغ من محتواه الحضاري والإنساني.
لو لم يتقدم في عام 2009 يوسف زيدان للجنة التحكيم في إمارة خليجية هي أبوظبي لتقيم روايته «عزازيل» وتمنحه جائزة الرواية العربية، لأمكن أخذ كلامه في طنجة على محمل الجد. لكن منذ تم تتويجه بـ«البوكر» في أبوظبي بات أكثر يقينا من أن دول الأطراف صارت قادرة على الريادة والصدارة، بلا نزاعات أو صراعات آيديولوجية، بل بالمثابرة والعطاء والتضحيات.
أما لماذا نشكر زيدان على تعريضه بِنَا؟ فلأنه أحدث «هبّة» كنّا نحتاج إليها من زمان لنتحسس تاريخنا وهويتنا وثقافتنا.. نحن أيضًا كنّا بحاجة لهذه الصدمة لكي ننظر إلى داخلنا وعمقنا الحضاري وندرسه ونتفقد مكانه من جديد.. نحن أيضًا صدقنا عبر سنوات طويلة من التوهين بهويتنا وتراثنا وانتمائنا أننا طارئون على الحضارة، وأننا وُلدنا يوم تشكلت دولنا الحديثة، أو أن تاريخنا مرهون بالعمارات التي انتصبت في عواصمنا. وقعنا تحت سطوة الصورة التي تريد أن تربطنا قسرًا بالمدن الحديثة التي نشأت في حقبة النفط، وتعاملت معنا كشعوب مفككة لا هوية تجمعها ولا عمق ثقافيًا يوحدها.. هذا غير صحيح، وهو إحدى الجنايات التي ارتكبناها ضد أنفسنا، عبر التعليم والإعلام والثقافة، وجاء كلام زيدان ليوقظنا إلى ما فرطنا فيه.
بعض الردود على زيدان، كانت أكثر رداءة مما قاله، أرادت الانتصار للخليجيين، عبر الإساءة لليمنيين، وبعضها لم يكن يغامر في مناقشة التهم، فراح يعاتب زيدان على «سوء التوقيت»، وعدم حرصه على «وحدة الصف العربي».
الباحث السعودي الدكتور عيد اليحيى ذكّر عبر قناة «العربية» زيدان بأن الإمام علي (كرم الله وجهه)، هو «أبو اللغة العربية وأبو النحو»، ومن الجزيرة العربية جاء أبو الأسود الدؤلي ثم الأصمعي، وردًا على فكرة أن العرب انتشروا في المنطقة بعد سد مأرب، قال اليحيى: «إن علماء الغرب يرون أن كل الهجرات السامية خرجت من الجزيرة العربية فسد مأرب حديث»، وعن وصف زيدان للجزيرة العربية بأنها ليس فيها حضارات، اعتبر د. اليحيى أن هذا مرده إلى نقص كبير في المعلومات، وعدّد مجموعة من الحضارات مثل «حضارة العُبيد وحضارة هيلي وحضارة أم النار، وحضارة دلمون وحضارة عاد الأولى وعاد الثانية وثمود».
الدكتور تركي الحمد اعتبر أن ما يمنع زيدان من رؤية الحقيقة هي «العنجهية»، وقال في تغريدة: «لو تجرد يوسف زيدان من تحيزه، وقرأ كتابًا مثل (تاريخ اليمامة في صدر الإسلام) لعبد الله العسكر، لما تفوّه بكثير من مغالطاته.. ولكنها العنجهية».
لكني وجدت أفضل مناقشة لمقولة زيدان جاءت من الدكتور علي بن تميم أمين عام جائزة الشيخ زايد للكتاب، ومما قال: «الثقافة تعتمد على التنوع، وأظن أن دعوات الصفاء العرقي والبحث عن ماضي الحضارة في أي عرق تشبه دعوات التشدد».
وأردف: «يبقى أن مفهوم الجزيرة العربية واسع، وربما رآه زيدان من منطلق الجنسية، وهي فكرة حائرة ومحيرة، فالمنطقة جغرافيا تضم الخليج واليمن والعراق، وكان أبو الطيب المتنبي يحتفي بالجزء البدوي في الثقافة العربية لأنه الأكثر قوة فكريا، ويرى أن الحضارة فيها جزء مصنوع، في حين أن البداوة فيها الفطرة والقوة».
واختم بعبارة قالها الدكتور عيد اليحيى في «العربية»: «لا ألوم يوسف زيدان ولا غيره فلدينا نقص في إيصال تاريخنا وتراثنا، فكيف نريد من الآخرين أن ينصفونا».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!