«الرجل».. كتاب قديم مجهول عن السعودية

الجزء الأول منه صدر عام 1938 والثاني ما يزال مجهولاً

«الرجل».. كتاب قديم  مجهول عن السعودية
TT

«الرجل».. كتاب قديم مجهول عن السعودية

«الرجل».. كتاب قديم  مجهول عن السعودية

تفضلت مكتبة الملك فهد الوطنيّة مشكورة، على كاتب المقال، بالتعرّف على هذا الكتاب المغمور عن السنوات المبكّرة من سيرة الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، وكانت المكتبة اقتنته مؤخّرًا، لمؤلّفه الصحافي الفلسطيني نجيب نصّار (1873 - 1948) صاحب جريدة «الكرمل» الحيفاويّة، والكتاب مطبوع في مطابع الصحيفة، وهو جزء أول صدر عام 1938 إلا أن الجزء الثاني منه - إن كان قد صدر - ما يزال مجهولاً أيضًا.
نجيب نصّار، وكان يُكنّى بشيخ الصحافة الفلسطينية وهو صاحب القول: «من لا أرض له، لا وطن له» ولد في لبنان ودرس في الجامعة الأميركية متخصصًا في الصيدلة، لكنه انتقل إلى مدينتي القدس وطبريّة بفلسطين، حيث مارس ميوله الصحافية، خلال فترتي الحكم العثماني وبدايات الانتداب البريطاني على فلسطين، وظهور علامات المخطط اليهودي، فوظّف جريدته لخدمة القضية العربية ومناهضة الصهيونية، وقد كتب كثيرون عن تاريخه الصحافي والعروبي، ومن ذلك كتاب رجا شحادة - وهو قريبه - عن دوره النضالي وغيره في مكافحة شراء الأرض الفلسطينية واغتصابها من قِبَـل اليهود، والمقال الضافي الذي كتبه عمر أمين مصالحة عنه وعن جريدته، نشرته مؤسسة فلسطين للثقافة (2009).
يتكوّن الكتاب من (90) صفحة، واستهلّ المؤلّف طرّته بإهدائه إلى الملك عبد العزيز، وتحدّث في متنه عن إرهاصات تأسيس السعودية، منذ استيلاء ابن رشيد على وسط نجد واضطرار الإمام عبد الرحمن الفيصل (والد الملك عبد العزيز) للنزوح إلى شرق الجزيرة والاستقرار في الكويت، ثم واصل المؤلف وصف الأحداث، مرورًا بالإقدام على محاولات استرداد الحكم (1901 - 1902) ومن ثَم مناورات الكر والفرّ مع مختلف الإمارات الداخلية في وسط الجزيرة وشرقها وشمالها، وانتهاءً بتسليم الأتراك لسيطرة السعوديين على إقليمي الأحساء والقطيف وميناء العقير (1912) وقد حرّره المؤلّف بأسلوب يجنح إلى الخيال وأقرب إلى الرواية من الأسلوب التوثيقي أو الصحافي المستند إلى المعلومات، يتجه أحيانًا إلى إيجاز مخلٍ، أو إلى تكرار مملّ، ويبدو أنه استقى معلوماته مما كان يُروى أو يُكتب في تلك الفترة عن بطولات الملك المؤسس، حيث لم يظهر أنه كان شاهد حال، أو أنه اعتمد على مصادر مكتوبة باستثناء مرجع واحد ذكره في سياق سرد الحوادث وتسلسلها (تاريخ نجد الحديث وملحقاته، أمين الريحاني 1927).
في الكتاب معلومات قليلة تحتاج إلى التحقّق من دقّتها التاريخية، ومعلومات أخرى لم تتطرق إليها مراجع كثيرة، مثل وصف وضع إقامة الأسرة ضيوفًا في الكويت وعلاقتها بأسرة «الصباح» المضيفة، ومعلومات عن أول زواج للملك عبد العزيز ثم وفاة زوجته، وزواج أخيه الأمير محمد بن عبد الرحمن في الكويت، وولادة ابنه الأكبر (تركي الأول) ووصف تعاطف والد عبد العزيز ووالدته (سارة أحمد السديري) مع مشروعه السياسي، كما أفاض بذكر مساندة شقيقته (نورة بنت عبد الرحمن الفيصل) لطموح أخيها الشاب في أثناء هجرتهم، في سبيل استرداد العاصمة (الرياض).
والمؤلّف لا يخفي إعجابه بالملَكة القيادية في شخصية الملك عبد العزيز، وبمناوراته العسكرية وبدهائه السياسي، وبمعرفته بأحوال خصومه وبطبائع القبائل ومهارته باحتوائها وتعامله مع فصائلها، وبالتزامه بالإنصاف مع رعاياه كافة، إلا أنه لا يذكر إن كان قد التقاه، وهو بينما ينصف غيره أحيانًا ينزلق في أحيان أخرى إلى استخدام ألفاظ غير مناسبة بحق آخرين.
والكتاب رغم قِـدَم تأليفه نسبيًّا (بعد ست سنوات من إعلان توحيد السعودية) فإنه لا يمكن احتسابه مصدرًا مكتمل الأركان العلمية من مصادر التاريخ السعودي المعاصر، وذلك لقلة مادته العلمية في مقابل السرد الإنشائي، ولندرة استخدام التوثيق التاريخي، كما أن سطوره لم تسلم من التصحيفات الطباعية والأخطاء في الأسماء والمواقع، المنفّرة عادة من جاذبيّة القراءة، ولولا ما هو معروف من عِفّة المؤلف وسمعة نهجه الصحافي ونزاهته، لتَـبادر إلى الذهن احتمالُ وجود غرض آخر من وراء تأليفه، مما قد يفسّر عدم صدور الجزء الثاني منه، وسبب عدم علم الوسط العلمي بالكتاب كل هذه المدة.
* إعلامي وباحث سعودي



البحث عن بطل

البحث عن بطل
TT

البحث عن بطل

البحث عن بطل

في كتاب «البحث عن منقذ» للباحث فالح مهدي شرح مفصّل عن الشعوب التي ترزح تحت نير الظلم والإذلال، وكيف تعلّق أمرُ خلاصها برقبة منقذ تستعير اسمه من أساطين الدّين، تنتظر عودته إلى الحياة عن طريق البعث أو النشور، كي يحقّق العدل الغائب عن وجه الأرض، ويعوّض ناسها ما فاتهم من عيشة هانئة مستقرّة. اكتسى هذا المخلّص عبر مراحل التاريخ بجلابيب أسماء عديدة، منها «كريشنا» المنتظر في الديانة الهندوسيّة، و«بوذيستاوا» أي «بوذا» المنتظر، و«ماهافيرا» المنتظر في الديانة الجاينيّة، و«زرادشت» المنتظر في المجوسيّة، وفي اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة لدينا المسيح المنتظر والمهدي المنتظر وإسماعيل المنتظر والسفياني المنتظر واليمانيّ المنتظر والقحطانيّ المنتظر.

تعود هذه الفكرة في الأصل إلى اعتقاد دينيّ قديم مفاده أن الشرّ لا يمكن مواجهته من خلال البشر الفانين؛ لأن كلّ ما يأتي به الشّيطان لا يُهزم بالفعل البدنيّ، ويحتاج الإنسان إلى الاستعانة بالقوى الإلهيّة. وعلى الجميع لهذا السبب المحافظة على تقاليد دينهم وتعاليمه؛ لكي يستعجلوا هذه القوى، وإلّا فهم يقضون حياتهم في حالة انتظار دائم.

هو ليس انتظار اللاشيء، حتماً، لكنّه انتظار من أجل حبّ الانتظار، يعيش المؤمن في ظلّه في حالة وجْد لا يفتُر، يكون الزمن فيه مجمّداً عند المستقبل الأزليّ واللانهائيّ. هل جرّبتم العيش دون حاضر أو ماضٍ؟ عندما تغيب الحيوات والانفعالات والمشاعر «الصعبة» أي الحقيقيّة من المرء، يحلّ اليأس التامّ والمُطلق، وهو أحد شروط تحقيق ما يُدعى بالنيرفانا لدى البوذيّين، الخطوة الأولى في سبيل عودة «بوذا» المنتظر إلى الظهور، ويختلف الأمر كثيراً أو قليلاً بالنسبة إلى بقيّة المخلّصين. ثم يغيب الماضي كذلك، وتختفي معه أحداثه، ويبقى الوقع الأهمّ هو ظهور المُنقذ في القادم من الأيّام والشهور والسنين، وربما حلّ الموعد والمرء نائم في قبره، ويستيقظ عندها ليجد العدل والإنصاف يعمّان الأرض، ويتمّ القصاص من الأشرار والمجرمين والمفسدين.

عندما يتوقّف الدماغ تنشط آلة الخيال، ردّ فعل طبيعيّ لحالة الفقد والحرمان والإذلال، لكنّه خاصّ ببني الإنسان، وهو بالأحرى عقل مرَضيّ مُشِلّ للنّفس والبدن يؤدّي بنا إلى الجنون وخراب الدّيار. الانتظار يولّد انتظاراً آخر، ولا يوجد شيء اسمه فوات الأوان. كما أنّ الخضوع يتبعه انحناءٌ تحت نير جديد. يقول ألبير كامو: «الأمل، عكس ما نظنّ، يُعادل الرُّضوخ. والحياة هي في عدم الرُّضوخ». من فكرة المُنقذ المنتظر جاء حُلم الشعوب المقهورة والضعيفة بالبطل المُرتجى، تبحث عنه كي تؤلّهه، ولن تُرفع إليه الأبصار إن كان حيّاً، وإذا كان ميّتاً تُعينهم ذكراه على تحمُّل الضَّيم الذي يكابدونه. في كلّ بلد ضعيف لا بدّ أن يكون هناك بطلٌ يلجأ إليه الفقراء والبُؤساء، يرسمون له الأساطير التي لا تحكي الواقع بطبيعة الحال، لكنّها تعكس حالة الضعف والخَوَر اللّذيْن يستلبان نفوس المؤمنين بمنقذهم، الذين يُغالون في تبجيله إلى درجة أنهم ربما راحوا يتطلّعون إلى صورته منقوشة على صفحة القمر، وهذا ما جرى حقّاً وفعلاً للعراقيين إِثْرَ مقتل عبد الكريم قاسم على أيدي انقلابيّي «8 شباط»، ثم قام هؤلاء برمي جثمانه في النهر، كي يتخلّصوا من حُبّ النّاس وتقديسهم، فانتقل هذان الفعلان إلى السماء، بعد أن لم يعثر مُريدوه على أثر له على الأرض، وصاروا يتطلّعون إلى صورته في اللّيالي القمراء، والبعض منهم تفيض عيونه بالدُّموع.

لا يُشترط في البطل أن يكون غائباً، أو لديه صفات هذه المرتبة الخارقة من القدسيّة والبطولة، بل يمكن أن يكون أحد الذين يعيشون بيننا، أو شخصاً غريباً وقَدَرِيّاً يُرفع إلى هذه المكانة عنوة، ولا يستطيع التراجع عنها لأنّ في ذلك خطراً يتهدّد حياته، فهي صارت أوّلاً وأخيراً بأيدي مريديه. هناك نوع من اشتباك مصائر يعيشه الطرفان: الجماهير تنظر إلى البطل على أنّه حامي ديارها وأرواحها من الخراب والفناء، والمنقذ يتطلّع بدوره إلى هؤلاء، في سبيل بقاء الصفات المبجّلة التي أسبغوها على شخصه.

فكرة البحث عن قائد مظفّر تتوّجه أكاليلُ المجد والغار قديمة لدى الإنسان، وجديدة أيضاً. الأرض تدور كلّ يوم، وفي كلّ سنة من أعمارنا، في شرقنا (السعيد) ثمّة بطل دَوْماً. عندما يغيب العدل في المجتمع يحتاج كلّ جيل إلى ابتكار مُنقذ جديد، من مزاياه أنّه ليس مخلّداً مثل رموز الأساطير الدينيّة، بل هو كائن حيّ له عمرٌ لا يتجاوز عمر البشر، يتمّ دفنه بعد فنائه ليولد بطلٌ جديد يعيش مع الأبناء إلى المحطّة الأخيرة، يترجّل بعدها تاركاً مقعده إلى مُنقذ أكثر جِدّة يواكب الرحلة مع الأحفاد؛ لأنّه لا طاقة لنا على العيش دون هؤلاء الفاتحين.

البطل في الحُلم يُقابله إنسان مهزوم ومأزوم في الواقع، هكذا هي القاعدة في علوم الاجتماع والطبّ والنفس، والفارق بين الاثنين كبير إلى درجة أن الناس يعيشون في ظلّ منقذهم في حال من الرِّقّ الجماعيّ، بكلّ ما في قوّة أنظمة الاسترقاق القديمة من سلطة القانون، وما كانت تحمل من أغلال اجتماعيّة وأخلاقيّة. وإن كان الأمر يحصل بصورة غير ظاهرة للعِيان، لكنّ شكل الحياة الأخير مطابق لذلك الناتج من حالة الاستعباد الجماعي الذي ودّعته البشريّة منذ قرون.

بالإضافة إلى العبوديّة، لا يمثّل البطل في هذا الزمان رمزاً قوميّاً يشدّ من أزر الجميع؛ لأننا نعيش في بلدان متعدّدة الأعراق والمعتقدات والأرومات، ولهذا السبب رحنا نبتكر أكثر من بطلٍ واحد: اثنين أو ثلاثة أو أكثر، يتحوّلون بمرور الوقت إلى أداة للفُرقة، تصيرُ بسبب التشاحن الدائم جزءاً من دمائنا، لتدور عجلة الحرب الأهليّة (الباردة) في البلاد، تدوم طويلاً لأن أسبابها باقية وتتقوّى مع السنين، ويوماً ما سوف تسخن حتماً وتتفجّر إلى هستيريا جماعيّة تستيقظ فيها نوازع الشرّ والتوحّش القديمة النائمة، ويتقاتل عندها الجميع ضدّ الجميع، ليصير الحلّ بتدخّل قوى أجنبيّة (استعماريّة) تُنقذ بقيّة الحياة والعِباد.

عندما تكون حياة الإنسان زهيدة - لأن الشعب عبارة عن مجموعة من الرّقيق - تُرتكبُ أقسى الجرائم بشاعةً. وعندما تكون الحريّة مبذولة، وتسود العدالة الجميع، عندها فقط يختلف وعي الأمة وسوف تجد مُنقذَها من داخلها لا من الغيب. يحتاج الجمهور آنذاك إلى بطل قدوة من نوعٍ ما يتطلّع إلى بلوغ مكانته الجميع، ويحقّق لهم هذه الفكرة الرسّام والموسيقيّ والشاعر والمهندس... مثلما يجري الآن في الأمم المتحضّرة. من هنا جاءت فكرة النجم في المجتمع المستقرّ الهانئ بعيشته، وليس للأمر علاقة بالمال ورأس المال، وغير ذلك من كلام يُضيّق على النفس ويصدّع القلب والرأس.