سعيد يقطين: دخول العصر لا يعني تقليد الغرب

الباحث والناقد المغربي الفائز بـ«جائزة الشيخ زايد للكتاب»

غلاف الكتاب  -  سعيد يقطين
غلاف الكتاب - سعيد يقطين
TT

سعيد يقطين: دخول العصر لا يعني تقليد الغرب

غلاف الكتاب  -  سعيد يقطين
غلاف الكتاب - سعيد يقطين

يعتبر الدكتور سعيد يقطين من أهم الأسماء المغربية التي فرضت حضورها وقيمتها على الساحة الأدبية العربية، وقد أغنى المشهد الثقافي العربي بمؤلفات قيّمة كثيرة، تلامس أغلب الحقول والأجناس الأدبية، نذكر منها «تحليل الخطاب الروائي» (1989) و«انفتاح النص الروائي» (1989) و«الرواية والتراث السردي» (1992) و«من النص إلى النص المترابط» (2005)، و«السرديات والتحليل السردي» (2012)، ثم «الفكر الأدبي العربي.. البنيات والأنساق» (2014)، الذي حاز «جائزة الشيخ زايد للكتاب» في مجال «الفنون والدراسات النقدية». هنا حوار معه:
* جعلتم من فوزكم بـ«جائزة الشيخ زايد للفنون والدراسات النقدية» مناسبة للفت الانتباه إلى «أعطاب الممارسة الإعلامية والثقافية والأدبية، في العالم العربي»، وانتقاد «غياب الاختصاص الدقيق في ممارساتنا الإعلامية والثقافية والأدبية»! وهو غياب رأيتم أنه يرجع إلى نوع التكوين الذي نتلقاه في المدرسة والجامعة؛ إذ نحن، إما «موسوعيون» نعرف كل شيء ولا نعرف شيئا، وإما مختصون في مجال محدد، نعرف عنه «كل» شيء، ولا نعرف أي شيء خارج الاختصاص؟
- هذا صحيح إلى حد بعيد، ولقد كان هذا همي منذ أن بدأت الكتابة. إن تناول واقعنا الثقافي والاجتماعي والأكاديمي، من وجهة نظر تقف على أعطابه ومشكلاته يدخل في صلب اهتمامي وهمومي الفكرية. وانتهاز هذه الفرصة كان مهمًا لأهمية الحدث وخصوصيته إعلاميا وثقافيا.
* إلى أي حد ساهمت الجوائز في التقريب بين المثقفين والفاعلين والمسؤولين على مستوى الوطن العربي؟
- يمكن اعتبار الجوائز حدثا ثقافيا. فالكل، بدافع الفضول، أو المتابعة، يهمه التعرف إلى نتائجها. ويكون من آثار ذلك التعرف إلى أسماء جديدة، أو إعادة النظر في بعض الأسماء، تقديرا وإكبارا، واعترافا. أما عن مسألة التقريب بين المثقفين فلا أظن أن الجوائز تلعب ذلك الدور. فالمفروض في المثقفين أنهم يعرفون بعضهم عن طريق القراءة، أو المشاركة في أنشطة ثقافية عامة. لكن بعض الأسماء الجديدة أو التي ليس لها حضور فاعل في الواقع الثقافي العربي، تمكنها الجائزة، أحيانا، من تثبيت حضورها، أو لفت الانتباه إليها.
* بغض النظر عن إيجابيات ونواقص الجوائز التي تسلم في الوطن العربي، كيف يمكن استثمار الجوائز في تنشيط المشهد الثقافي العربي؟
- لا تزال آثار الجوائز محدودة في الوطن العربي؛ وذلك لأسباب كثيرة، من بينها مثلا مصاحبة التشكيك في بعض النتائج من لدن بعض المتنافسين أو الإعلام الثقافي، ومنها ضعف المواكبة الإعلامية على نطاق واسع. فالكثير ممن يكتبون عن الجوائز ليس لهم اطلاع على الأعمال الفائزة، فلا تكون كتاباتهم عنها إلا من خلال ما تقدمه تقارير اللجان. وعندما لا يلعب الإعلام دوره المنوط به، ولا سيما السمعي – البصري (المسموع - المرئي)، في عقد لقاءات وندوات حول الكتب الفائزة، ولا تقوم المكتبات بالعمل نفسه في تقديم هذه الكتب بكيفية ملائمة، على نحو ما نشاهد في البرامج الأجنبية، لا يمكن أن يكون للجوائز سوى دور محدود في التنشيط الثقافي.
* يتناول مؤلفكم الجديد «طريقة تعاملنا مع الأدب والدراسة الأدبية منذ عصر النهضة إلى الآن بهدف الوقوف على ما يَـعـْـتـَـورُ وعينا الأدبي، ويسهم في إعاقة تطوره». ويبدو أنكم اعتمدتم صيغة المحاكمة والنقد لمرحلة حساسة من تاريخنا لها ارتباط بواقع عام، وبدرجة الوعي التي تعوق التطور؟
- إذا كانت دلالة المحاكمة والنقد مؤسسة على قراءة فاحصة وموضوعية فأنا أقبل هذه الصفة. إن مرادي في هذا الكتاب هو التفكير في ممارسة تحققت عبر زمان (نحو قرن، تقريبا). وهذا التفكير ينشد أولا معرفة ما تحقق والعمل على تشخيص الدوافع، والأسباب التي جعلت ممارستنا تعيش واقعا متأزما. كان المنطلق هو ما يعرفه واقعنا الثقافي والأكاديمي حاليا، بهدف الذهاب إلى المستقبل. ولقد استدعى ذلك مني الرجوع إلى بدايات التشكل الأولى في العصر الحديث، فعملت على تتبع أنماط التفكير والممارسة لأنتهي إلى الخلاصات التي وقف عليها الكتاب. لقد كان هدف تلك «المحاكمة»، وهذا «النقد»، هو الفهم الدقيق أولا، بعيدا عن الإكراهات الفكرية والإيديولوجية، وكانت قراءة الآثار في صيرورتها محاولة لتلمس الشروط والملابسات المحيطة بها ثانيا. وثالثا، كانت الرغبة في الإمساك بالخيط الرفيع الذي يربط بين مختلف مكوناتها وهي تتطور حتى آلت إلى ما آلت إليه حاليا، حيث المأزق الذي يسلم به الجميع.
* لا توفرون فرصة انتقاد واقع الدراسة الأدبية في العالم العربي؛ لذلك تتخلل كتاباتكم نبرة محذرة ومنبهة، تدعو إلى الأخذ بأسباب التطور، في النظرة وفي الممارسة؟
- هذه النبرة وليدة موقف فكري - نقدي من التسرع في اتخاذ القرارات وبناء التصورات. إنه الحذر الإبستيمولوجي الذي يدفعنا إلى التفكير في الظواهر بمنأى عن الانطباع، ويعمل على تجنيبنا الانصياع للأهواء والتصورات الجاهزة والمسبقة. لذلك؛ أرى أن إصدار الأحكام، وتأويل الظواهر لا يمكن أن يتأتى لنا إلا بعد الفهم والتفسير، والنظر في البنيات والأنساق. ودون ذلك الكثير من الجهد الذي يستدعي التوقف أمام الوقائع من أجل التثبت منها عبر معاينتها في تطورها، ومقايستها بغيرها، وافتراض ما يمكن أن تكون عليه في ضوء احتمالات متعددة.
* توظفون، في كتاباتكم، عددا من الكلمات «المفاتيح»، التي تركز، في جانب منها، على «ضرورة دخول العصر»؟
- إن إيماني بنسبية الأفكار، والحقائق، وهو جزء من الإيمان بتطور الأفكار يدفعني دائما إلى القول بأن أي تفكير، مواكب وقابل للتطور، لا يمكن أن يتحقق إلا في ضوء «العصر المعرفي» الذي ينجز في نطاقه. فطه حسين مثلا، لأنه كان ابنا شرعيا (فكريا) لنهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، لا يمكنه أن يفكر في الأدب والمجتمع إلا في ضوء ما تحقق فيه. وبعض الذين انتقدوه، وإن كانوا معاصرين له، لم يكونوا أبناء العصر المعرفي الذي عاشه طه حسين بوعي. كانوا أبناء عصور معرفية أخرى. ويمكن قول الشيء نفسه عن المتطرفين حاليا، أيا كانت اتجاههم الطائفي أو الديني أو الآيديولوجي. إنهم ليسوا أبناء «العصر المعرفي» الذي نعيش فيه، حتى وإن كان بعضهم يستثمر التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل. فهم يستعملونها باعتبارها «وسائل» لا «وسائط». فالوسيلة أداة يمكن التعامل معها بأي ذهنية. أما الوسيط فلا يمكن توظيفه إلا بالذهنية التي تتلاءم معه. حين أنادي بـ«دخول العصر»، لا أعني بذلك تقليد الغرب، ولكني أقصد الانخراط فيه من أجل المشاركة فيه، والمساهمة في تطور الوعي الإنساني باستثمار ثقافتنا، وتفاعلنا مع الثقافة الحديثة والمعاصرة.
* دعوتم إلى تصحيح المسار وتغيير الرؤية واستشراف آفاق جديدة لمستقبل الفكر الأدبي العربي، على أساس «المقايسة» بين دخول العصر في بدايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، فدعوتم إلى عدم تكرار أخطاء التجربة الأولى؟
- سؤال دقيق وجيد. إنه يعبر عن جوهر ما أدعو إليه. لقد كانت هناك إكراهات سياسية واقتصادية وثقافية فرضت على تفكيرنا في عصر النهضة ألا يقبل بالدعوات التي انتبهت إلى ضرورة دخول العصر الحديث. إن الدعوات إلى تحرير العقل والمجتمع والمرأة، ومقاومة الاستبداد، وتجديد التعليم والدين والسياسة، كلها فهمت على أنها دعوات إلى «التغريب» والتشبه بالآخر المستعمر. ومن هنا كانت المقاومة الشديدة لهذه الدعوات. حين أعود الآن إلى تأمل فكر النهضة العربية، لا يمكنني سوى إيجاد مبررات لتلك المقاومة: فالمستعمر كان عنيفا في محاولة فرض قيمه وتصوراته. وأنصار تلك الدعوات كانوا بدورهم عنيفين في التصدي للفكر المحافظ (تصورات طه حسين عن الأدب الجاهلي، مثلا). لذلك كان الفكر المحافظ الذي يستمد شرعيته من الوعي السائد المشترك قويا في الرفض والمعارضة. ويمكن أن أضرب مثالا لامتداد هذه الدعوات التجديدية مثلا مع ظهور اليسار العربي في أواسط القرن العشرين: لقد كان عنيفا جدا ضد الدين وضد القيم السائدة. ولذلك لم يفلح في فرض وجوده ثم تراجع نهائيا. وبما أن الصراع تجاذبته قيم التاريخ والعصر، وكأنهما نقيضان، لم يكن بد من التوفيق الذي نعيشه: تاريخ عصري، وعصر تاريخي؟ فلا تاريخ ولا عصر؟ وحين نقارن التجربتين اليابانية والصينية بالعربية - الإسلامية، نجدهما أنهما معا، وكل منهما كانت تنتمي إلى معسكر مناقض للآخر، نجحتا في دخول العصر، دون التفريط في تاريخهما. هذا التوفيق الذي مارسناه منذ عصر النهضة إلى الآن، هو ما أدعو إلى تجاوزه، والوعي به، عبر الاستفادة من التاريخ، والعصر معا، فنفكر في كيفية جديدة ومختلفة في التعامل مع التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل، فنتعامل مع هذا العصر الرقمي الذي نحن بصدد الانخراط فيه، بوعي أو بغير وعي، عن طريق التعامل معه ليس باعتباره عصر وسيلة جديدة، ولكن بصفته عصر وسائط جديدة، أهم سمتها «التفاعل»؟ ولا يمكن دخول هذا العصر من دون تغيير رؤيتنا للتعليم الذي هو بوابة تحول المجتمعات وتغيرها.
* لكن، هل يمكن القول إن «الآمال» التي علقت على الإبداع الرقمي، في العالم العربي، قد تراجعت... في زمن عربي يبدو منتصرًا للورقي والإبداع «التقليدي»؟
- هي لم تبدأ حتى تتراجع، وليس هناك زمن ورقي وآخر رقمي. السؤال الحقيقي هو: كيف نحقق تفاعلا إيجابيا بين الزمنين لدخول زمن آخر، هو زمن الإبداع الحقيقي؟
* كيف تنظرون إلى الدعوات، التي تزايدت في السنوات الأخيرة، والقائلة بضرورة إعادة التفكير في تاريخنا الحديث، ومن ذلك قول محمد جاسم الموسوي، مثلا، بأن «أدب الانحطاط» أسطورة روج لها دعاة «النهضة»، وأن هناك حاجة إلى «تجاوز هذا (الجرح) الذي حال دون التمعن في المنتج الثقافي، وقاد إلى شطب تاريخ كامل من دون تدقيق أو تمحيص»؟
- لقد قادت طريقة التفكير التي مارسناها منذ عصر النهضة إلى الآن أن ولدنا أساطير لا حصر لها. ويشترك في صنع هذه الأساطير دعاة الأصالة والمعاصرة معا. ولعل أكبر أسطورة في رأيي: الأنا والآخر. الأنا المقدس، والآخر المدنس، عند فئة، ونقيضها عند فئة أخرى. هذه الأسطورة التي ستتولد عنها كل الأساطير. أصحاب الأسطورة الأولى مارسوا «الانغلاق المميت»، والآخرون مارسوا «الانفتاح القاتل». الأوائل رأوا أننا بشر مختلف عن البشرية. والأواخر اعتبرونا تابعين لها. وبدا ذلك في قراءتنا للتاريخ: صرنا نرى التاريخ والفكر في ضوء منجزات الغرب. فصار تقسيمنا للتاريخ حسب العصور كما يقدمها الغربيون. في ملتقى مع المستشرقين السوفيات في موسكو، اعترضت على حديث كوديلين عن عصور الانحطاط في الغرب حين عممها على تاريخ البشرية، فقلت له: لقد كانت عصور ازدهار في التاريخ الإسلامي. فقبل ذلك على مضض لأنه يعتبر التاريخ الأوروبي، وكأنه تاريخ البشرية. والشيء نفسه في الحديث عن الأجناس الأدبية.
* تناولتم في مؤلفكم الجديد بعض الأصوات التي «تنادي بأزمة الأدب وبأنه في خطر»، قبل أن تجد لها بعض الأصداء في الوطن العربي، وشددتم على أن «المشكل ليس في تفشي مثل هذه الأفكار في عصر من العصور، ولكن في كيفية التجاوب معها»؟
- هذا صحيح. فهناك فرق بين الحديث عن الأزمات، وعن الكيفيات التي نتجاوب معها. إن التجاوب مع الأزمات يعني الفهم والتفسير اللذين يؤديان إلى التجاوز. لكن ادعاء الأزمة يعني النهاية التي تستدعي تفكيرا آخر.
* تحدثتم عن المنجزات الفكرية الأدبية الحديثة، في منطلقاتها الغربية، ورأيتم أنها تعكس توجهات وأفكارًا قابلة للنقاش والتحليل، وليست «حقائق» ينبغي التسليم بها؟
- نعم، آن الأوان لتجاوز النظرة التقديسية لما ينتج في الغرب. لقد أدى بي انغماسي في السرديات وتتبع جزئياتها وتفاصيلها في الكتابات الغربية إلى الانتهاء إلى أنهم بشر يصيبون ويخطئون، وفي هذا تأكيد لما قلته عن نسبيتها وتطورها.
* دعوتم إلى تجاوز أعطاب الفكر العربي، والانتقال من جمع المعلومات ومراكمتها وتنظيمها، إلى إنتاج المعرفة الأدبية؟
- تتطلب هذه الدعوة تصويب المسار الذي نفكر في نطاقه. لقد صارت المعلومات مطروحة في الطريق، تماما كالمعاني، وعلينا الانتقال إلى طرق تنظيم المعلومات وإنتاج المعارف، وإلا سنظل أسارى التلفيق والجمع الذي لا يؤدي إلى التطوير.
* تزايد في السنوات الأخيرة منسوب الجدل بصدد ثنائية زمن الشعر - زمن الرواية.. كيف تنظرون لهذا السجال.. وهل هو مفيد للمشهد الإبداعي، أم أنه يركز على الهامش ويترك جوهر الممارسة الإبداعية؟
- بعض الناس تعجبهم الأساطير الحديثة، والأقوال المتسرعة، وكلٌ يتمسك بها لغايات ومقاصد. أما التفكير في مثل هذه الأساطير فمطلب أساسي للتدقيق والتحقيق.



هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.


حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع
TT

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه، على أهمية النظرة الجماعية للأدب بين التسلية والعمق والدلالات الخطيرة التي تكمن وراء طبيعة نظرة شعب من الشعوب له، وفق هذا المنظور أو ذاك.

ويؤكد العقاد أن اعتبار الأدب أداة لهو وتسلية هو الذي يصرفه عن رسالته العظيمة في فهم النفس البشرية والتعبير الصادق عن الحياة، وغيرهما من عظائم الأمور، ويسقطه في هوة البطالة والفراغ، فينشر حالة من اللامبالاة تجاه الذات والآخرين: «فماذا يُرجى من الفراغ غير السخف والسطحية في النظر للأشياء، فضلاً عن لهو الحديث وافتقاد المعنى؟ وبالتالي يصغي إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله».

ويذكر العقاد أنه إذا بالغ الأديب في مدح أو هجاء، أو جاوز الحد في صفة من الصفات؛ فمسح الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ... غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعراً؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد، ما دام الأدب أداة لهو وتسلية!

ومن شاء التحقق والتثبت من ذلك في تواريخ الآداب، بحسب العقاد، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط بقوة. إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه الشطط والمبالغة والطي والنشر والتوشيع وسائر ما تجمعه كلمة «التصنّع». وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي في الإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها إلا حين تحول إلى أداة تستهدف إرضاء فئة خاصة.

ويتابع العقاد: «هكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة والافتعال وتقل الموهبة، فيضعف وينحدر إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتُخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق واسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة وغلبت التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشلته من سقوطه بعد اتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وبالتالي يجب أن يفهم أبناء هذا الجيل والأجيال أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد، وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والحياة».