يحاذي الطريق البري رقم 5 الساحل الأميركي الغربي، من حدود المكسيك في الجنوب إلى حدود كندا في الشمال. وفي منتصف ولاية أوريغون، توجد إشارات مرور نحو آشلاند. ثم إشارات نحو جامعة «ساثيرن أوريغون» فيها.
منذ ثمانين عامًا تقريبًا، بداية بعام 1935، وفي كل صيف، تقام هنا احتفالات بالمسرحي والشاعر البريطاني ويليام شكسبير (توفي عام 1616). لكن، كانت احتفالات هذا العام ذات ميزة خاصة، وذلك بمناسبة مرور 400 عام على وفاة شكسبير. منذ عام 1935، عرض المهرجان كل مسرحيات شكسبير مئات المرات. وقدم أكثر من عشرين ألف عرض مسرحي، شاهدها قرابة عشرين مليون شخص.
لماذا في هذه المدينة الصغيرة (أقل من 20 ألف شخص)؟
في عام 1935، قررت انغاس بروانر، مدرسة الأدب الإنجليزي في مدرسة نورمان الثانوية، نقل تمثيل مسرحيات شكسبير من مسرح المدرسة الصغير إلى مسرح كبير في وسط المدينة. وقدم التلاميذ والتلميذات مسرحيتي «الليلة الثانية عشرة» و«تاجر البندقية»، وكانت تلك بداية المهرجان السنوي.
واحتفلت المدينة أخيرًا، وبالتوافق مع احتفالها بشكسبير، بأديب آخر هو الروائي الروسي فلاديمير نابوكوف، الذي ولد في عائلة أرستقراطية بسانت بطرسبورغ، على بحر البلطيق، عام 1899 (قبل شكسبير بثلاثمائة عام تقريبًا). وكان والده من قادة الثورة الروسية الأولى عام 1917 (الثورة البرجوازية). لكن، بعد الثورة الثانية في العام نفسه (الثورة البلشفية)، هرب الوالد مع العائلة إلى بريطانيا. هناك درس الابن في جامعة كمبردج. ثم انتقلت العائلة إلى برلين، حيث قتلت الاستخبارات الروسية والده. ثم انتقل الابن إلى باريس، ثم إلى الولايات المتحدة (عندما غزت قوات هتلر الألمانية فرنسا). عمل محاضرًا ثانويًا في كلية ويلسلي (ولاية ماساتشوستس)، ثم حصل على الجنسية الأميركية. وقضى أقل من عام في آشلاند (ولاية أوريغون)، حيث كان ابنه يدرس في جامعة «ساوثيرن أوريغون»، ثم، بعد أكثر من عشرين سنة في الولايات المتحدة، تقاعد نابوكوف في سويسرا، حيث توفي عام 1978 (عن 79 عامًا).
سنوات أميركا
حسب معلومات مهرجان نابوكوف في آشلاند، كانت العشر سنوات الأولى من حياة نابوكوف في الولايات المتحدة بائسة: لم تكن وظيفته الجامعية عالية. وواجه مشكلات في التعود على الحياة الأميركية. وتخصص في علم الحيوانات، وليس في الأدب، وتنقل في وظائف بين هذا وذاك.
لكن السنوات العشر الأخيرة من حياته رائعة، فقد اشتهر بعدما بدأ يكتب بالإنجليزية، وأصدر عدة روايات أشهرها «لوليتا»، وهي واحدة من أهم روايات القرن العشرين (صارت فيلما سينمائيا، ومسرحية موسيقية، ومسلسلات تلفزيونية، وأوبرا شعرية، ورقصة باليه). وهطلت الأموال على نابوكوف هطولاً. في الحقيقة، أغرته الأموال التي جمعها في الولايات المتحدة بالانتقال إلى سويسرا، حيث عاش حياة مريحة، حتى وفاته هناك.
لهذا، يشكك متخصصون أميركيون في نابوكوف في قوة ولائه للولايات المتحدة.
يقول ديفيد لارمور، مؤلف كتاب «نابوكوف: بين الآيديولوجية والجدل»: «كان نابوكوف نوعا غريبا من المهاجرين إلى الولايات المتحدة. حولته كراهيته لوطنه الأم (روسيا) إلى أميركي محافظ. من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين»، وأشار لارمور إلى أن نابوكوف، بعد أن حصل على الجنسية الأميركية، انتقد اليسار الأميركي، ومظاهرات الطلاب الأميركيين ضد التدخل الأميركي في فيتنام، كما أيد ترشيح الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون ضد المرشح الديمقراطي هيوبرت همفري.
وشككت، أيضا، في وطنيته الأميركية دافني بيركن، ناقدة أدبية في صحيفة «نيويورك تايمز» بقولها: «اعترف نابوكوف بأنه، منذ أن كان صغيرا في روسيا، كان يحلم بان يعيش في (أميركا الفاجرة).. ويعكس هذا علاقة غريبة، ومتناقضة أحيانا، بينه وبين أميركا».
وقال روبرت روبر، مؤلف كتاب «نابوكوف في أميركا»: «إن خلفية نابوكوف الأرستقراطية في روسيا أثرت على علاقته مع أميركا كأنه يستعلي عليها، رغم هجرته إليها. وإن بطل رواية (نابوكوف)، الذي سيطر على الفتاة الساذجة (لوليتا)، قد يمثل العلاقة بين نابوكوف وأميركا».
مهرجان نابوكوف
كل صيف يزور الناس المنزل رقم 163 في شارع ميد، حيث عاش نابوكوف، وزوجته الروسية فيرا. ويزورون، أيضا، جبل آشلاند القريب، حيث كان نابوكوف يصطاد الفراشات. ويكتب عنها في أبحاثه العلمية، وفي رواياته. ربما لم تكن السنة التي عاشها نابوكوف وزوجته في آشلاند مهمة لولا أنه هناك، وفي ذلك البيت، كتب رواية «لوليتا».تنظم الاحتفالات السنوية جمعية نابوكوف، وتقيم محاضرات عنه. وشاركت في إحدى الأمسيات شيلي أوستن، مديرة الجمعية، التي ذكرت في كلمتها أن «علماء علم الحيوانات يعتبرون نابوكوف واحدًا منهم. ويقول الروائيون إنه واحد منهم. يدعو هذا للدهشة، لأنه كان ناجحا في المجالين».وقال مايكل بايل، أستاذ جامعي، ومؤلف كتاب «فراشات نابوكوف»: «بسبب نجاحه في علم الفراشات، سميت فراشة اكتشفت أخيرًا باسمه، فراشة نابوكوف الزرقاء».
وقرأ مشارك آخر مقطعا من قصيدة نابوكوف عن آشلاند. يقول فيها: «أزميرالدا، ها نحن أخيرًا نزلنا هنا لنستريح. وسط الطبيعة الخلابة المباركة. وسط الغابات الجبلية في الغرب الأميركي. نتشارك في حلم الغابات، وفي أخطارها. بعد أن اعتقدت أنك قد مت».
وعلق الرجل على القصيدة: «أعرف أن أزميرالدا هي الفتاة اللعوب في رواية الفرنسي فيكتور هوغو (أحدب نوتردام)، لكن، لا أعرف لماذا خاطبها نابوكوف، ولم يخاطب زوجته الروسية، فيرا، التي، حقيقة، كانت معه في آشلاند، وفي غيرها، حتى وفاته».
لوليتا
وتحدث بايل عن العلاقة بين حب نابوكوف للفراشات، ورواية «لوليتا»، بقوله: «ليست صدفة أن بطل الرواية، الأستاذ الجامعي، وصف (لوليتا) بأنها مثل فراشة جميلة براقة الألوان. أعرف أن نابوكوف كتب ملاحظاته عن الفراشات في دفتر سماه (لوليتا)، لكن، لا أعرف هل كانت له علاقة مع فتاة اسمها (لوليتا)، سواء رمزا، أو حقيقة».
وتروي رواية «لوليتا»، كما هو معروف، قصة الأستاذ الجامعي الأوروبي همبيرت المولع بغرام الفتيات صغيرات السن. وعندما هاجر إلى الولايات المتحدة، وقع في حب دلورس (12 عامًا)، بنت السيدة الأميركية التي استأجر منها غرفة في شقتها، في مدينة «رمزديل» الخيالية (لم يقل آشلاند).
كانت الأم تنادي بنتها «دولي»، وسماها الأستاذ الجامعي «لوليتا»، وصار يكتب مفكرة يوميات عنها. وقعت الأم في غرام الأستاذ الجامعي، ووقع الأستاذ الجامعي في غرام ابنتها. وضغطت عليه الأم ليتزوجها، فوافق دون أن يقتنع بالزواج، ليكون قريبا من ابنتها.
وبعد أن قتلت الأم في حادث سيارة، انفرد الأستاذ الجامعي بابنتها. تجولا خلالها في عدة ولايات أميركية. ثم خطفها منه شاب أصغر عمرًا، وتزوجها، ورفضت «لوليتا» إغراءات الأستاذ الجامعي لتتركه، وتتزوجه هو. وعندما ودعها، ودعها في قطعة أدبية رائعة، وكأنه والدها، وليس عشيقها.
عن الرواية، كتبت الناقدة الأدبية إليزابيث جينواي في ملحق الكتاب في صحيفة «نيويورك تايمز» : «مثل أي رجل، أغرت الشهوة همبيرت (الأستاذ الجامعي). أغرته لينظر إلى (لوليتا) الصغيرة نظرة جنسية، لا نظرة إنسانية. أغرته ليحول حلمًا خياليًا إلى بنت بلحمها وشحمها».
وكتبت الناقدة الأدبية نعومي غيز: «منذ البداية إلى النهاية، هذه رواية همبيرت. نسمع شهواته، وأحاسيسه، ورغباته. ولا نسمع أي شيء عن لوليتا الإنسانة، البنت الصغيرة السن الساذجة. لا غرابة إذن. يندمج القارئ مع الرجل، وينسى الضحية».
لكن، دافع عن الرواية الممثل بريان كوكس (مثل دور الأستاذ الجامعي في فيلم «لوليتا»). وقال: «ليست هذه الرواية عن (لوليتا) بلحمها وشحمها. هذه رواية عن ذكريات همبيرت عنها. عن شهوة خيالية، لا واقعية».
قبل وفاته بسنوات في سويسرا، قال نابوكوف عن الرواية لمجلة «لايف» الأميركية: «إنها أكثر رواياتي واقعية. أعرف أن رجلا عجوزا استغل براءة بنت صغيرة السن. لهذا، ألاحظ أن كثيرا من الآباء والأمهات لم يعودوا يسمون بناتهم (لوليتا)، يسمون فقط أنثى كلابهم (لوليتا)».