الضحك.. سلوك واحد ومشاعر متناقضة

انفعالي إيجابي يسعى الإنسان من خلاله إلى السعادة

شارلي شابلن
شارلي شابلن
TT

الضحك.. سلوك واحد ومشاعر متناقضة

شارلي شابلن
شارلي شابلن

لا يمكن أن نجادل في فائدة الضحك؛ فهو مفتاح الفرح والاستمتاع، لما له من قدرات فائقة في مساعدة الإنسان على مواجهة دراما الحياة. والإنسان يظل في حاجة ماسة إلى الضحك، وبخاصة في الفترات الحالكة التي يمر بها. لهذا؛ فالضحك يزداد بالتوازي مع اشتداد الحروب والأزمات. وبالتالي، فلا عجب أن يصبح الضحك في زمننا، ممارسة علاجية نفسية، تطرد الألم أو تساعد على الحد منه، وأن تنتشر في العالم نوادي الضحك، حيث لم يعد الفرد قادرا على تحمل ضغوط الحياة ورتابتها. لكن الضحك لما نقاربه بصفته موضوعا فلسفيا، فقد لا ننظر إليه بهذه الطريقة الإيجابية؛ لأن الفلسفة حين تقارب الموضوع، فهي تهدف، بالأساس، إلى فهمه بصفته سلوكا وإحساسا ودوافع. وتفعل ذلك، من طريق طرح الأسئلة المحرجة عليه، لاستجلاء معانيه ودوافعه الخفية، بقصد فهمه واستيعابه، حتى نكون جديرين بأن نعيش متعته، ونتجنب خطورته وضرره في الوقت عينه. وبالتالي، يكون الهدف الأخير من المقاربة الفلسفية لموضوع الضحك، ليس الاستمرار فيه، وإنما، أن نضحك بهدوء ووعي وتهذيب، وأن نفكر كثيرا قبل أن نضحك، فيكون ضحكا ممزوجا بتفكير وحكمة، ولا يكون الهدف من ورائه التسلية فقط.
تختلط في الضحك، مشاعر وانفعالات شديدة التناقض والتنوع، ليست كلها بريئة، جوهرها الحب والفرح والتفكه. فقد أورد الدكتور أحمد أبو زيد، في كتابه «الضحك تاريخ وفن»، أن «الناس في ظل حضارة أوغاريت الأولى في شمال سوريا، وفي بلاد النيل والرافدين، وآسيا الصغرى، كانوا يبكون وينوحون بسبب موت الآلهة، ثم يفرحون ويضحكون توقعا منهم لانبعاث هذه الآلهة في النهاية. فقد كان هدف الاحتفالات، تأكيد الوحدة والتناغم وزواج الأضداد أو تآلفها». كما أننا لو نظرنا إلى الضحك من وجهة نظر جسمية وبيولوجية، وجدناه يعمل على حدوث زيادة في ضغط الدم، وضربات القلب، والتقلصات العضلية، وزيادة إفراز هرمون الأدرينالين. وهي التغيرات نفسها التي تحدث حتى في لحظات القلق والعدوان والخوف، على الرغم من الفرق في المدة بطبيعة الحال. وبالتالي، فالتأمل في موضوع الضحك، قد يجعل الحدود الفاصلة بينه وبين الحزن والبكاء، وحتى الاستهزاء والغرور والتحدي، مجرد حدود منهجية غير واقعية. وهذا ما تنبهت له الفلسفة منذ زمن بعيد. فقد قال الدكتور شاكر عبد الحميد، في كتاب فريد بعنوان «الفكاهة والضحك، رؤية جديدة»، في فصل كامل بعنوان «ضحك الفلاسفة»: «إن أفلاطون، حذر من الوقوع في فخ الضحك؛ لأنه لا يأتي إلا نتيجة الحقد اتجاه من هم أكثر قوة منا. بمعنى أننا نتلذذ برؤية من هم أقوى منا في موضع مضحك. إلا أنها لذة ممزوجة بألم، وناتجة من وهم أننا نعرف أنفسنا جيدا، في حين أن العكس هو الصحيح؛ إذ نعتقد بأننا نرتفع فوق من نضحك عليهم في المنزلة الاجتماعية». وقد ضحكنا جميعا من منظر الرئيس الأميركي جورج بوش وهو يتجنب الحذاءين المقذوفين إلى وجهه من طرف صحافي عراقي. وهذا ضحك عربي ممزوج بألم الإهانة الأميركية التي لا تنتهي. كما أن الاستجابات التي يولدها الضحك، غالبا ما تؤدي إلى العنف. فيتحول الإنسان العادي أو المواطن الصالح، إلى واحد من أقل الشخصيات جاذبية وأكثرها إثارة للسخرية والاستهجان. فيهتز الوقار والاحترام. ويتحول المرء إلى عامي مبتذل في سلوكه، يسلك في الشارع سلوك السوقة والدهماء. وهو سلوك لا يليق البتة بمواطني الجمهورية. لهذا؛ «على حراس الجمهورية، أن يواجهوا كل اندفاعات العامة، وأن يراقبوا سلوكهم ويضبطوه ضد العبث والطيش والابتذال». إلا أن أفلاطون، الذي حذر من الضحك، يعود، من خلال سقراط، إلى الضحك الساخر «من أجل عرض أفكاره، وشحذ حججه تجاه خصومه، عن طريق طرح الأسئلة المخادعة». فالضحك السقراطي، هو ضحك بيداغوجي، من أجل تمرير أفكار جديدة بطعم حلو يسهل قبوله، شبيه بأخذ دواء مر ممزوج بغلاف من السكر، يجعله يسرّ ولا يضرّ؛ لأنه ليس عدوانيا، ويستطيع أن يمزج بين اللعب والجدية، ويجد المتهكم من خلاله، تربة خصبة ينمو فيها اتجاهه، مع تزايد مقدار المعرفة والثقافة والفكر لديه وقلته لدى خصومه.
توقف أرسطو بدوره، عند مفهوم الضحك واعترف بأهميته، لكنه دعا مثل أفلاطون، إلى «ضرورة أن يبقى في حدود اللياقة والاعتدال». بمعنى آخر، «في حدود الفضيل، حيث لا إفراط ولا تفريط، حتى لا يصير الضحك أمرا مستهجنا شائنا». لهذا؛ كان التهكم أكثر قربا من الكرماء، لارتباطه بالأخلاق واللياقة والترويح والاسترخاء. وهو انفعال إيجابي، يسعى الإنسان، من خلاله، إلى البحث عن السعادة. كما لم يفت أرسطو أيضا، الإشارة إلى قدرة الضحك على القضاء على جدية الخصوم من خلال الضحك والهزل.
أما في العصر الحديث، فقد تحدث الفيلسوف الفرنسي الشهير، توماس هوبز، في كتابه «اللوفيتان»، عن أنواع المسرات واللذات، واعتبر أن الضحك يرجع إلى تلك الأحاسيس المرتبطة بالفخر أو التباهي، أو التشامخ والعظمة، حيث يحس المرء بوجود قدرة أو قوة خاصة لديه، فيشعر الضاحكون بإعجاب مفاجئ بأنفسهم، لاعتقادهم بأن الآخرين لا يملكون ما يملكونه هم، وفي هذا نوع من الخسة ودناءة الأخلاق. وهو هنا لا يختلف كثيرا عن أفلاطون. أما كانط، فقد أرجع الضحك، إلى ذلك التناقض بين ما كان متوقعا وما أصبح واقعا، بصفته رجاءً خائبا؛ ما يعطي للجسد صدمة شبه كلية. فبعد التوقع المضطرب المتوتر، يسترخي الجسم وينتقل إلى راحة مفاجئة تسبب الضحك، فيتعلق المرء هنا بتلك الدهشة أو العبثية التي يقوم على أساسها الموقف المضحك، الذي يجعل الفهم العقلي في حيرة مؤقتة من أمره. لكنه لا ينهزم بفعل الأمر المضحك؛ لأنه يدرك فجأة أنه أفضى به إلى لا شيء، وأنهى التوتر المصاحب للتوقع الشديد المميز له بالضحك. وهو ما يعبر عنه حتى آرثر شوبنهاور، وإن بصيغة مختلفة، حين اعتبر الضحك يحدث نتيجة الافتقار إلى التجانس، أو حدوث التناقض بين الموجة العقلية المجردة وبين تمثل الإدراك، أي أن الضحك ببساطة، هو محصلة لذلك الصراع أو التفاوت المعرفي الذي لا يمكن اجتنابه بين المتصور العقلي العام، والمدرك الحسي الخاص. والضحك نفسه هو مجرد التعبير عن هذا التناقض، ويشبه ذلك بالقياس المنطقي الذي تكون القضية الكبرى فيه مؤكدة، ويتم الوصول إلى القضية الصغرى من خلال الحيلة أو المغالطة. وباختصار تنقسم المواقف المثيرة للضحك في رأي شوبنهاور، إلى الدعابة أو الحماقة، حيث تبرز الأفعال اللامعقولة، مثلا قصة ذلك الملك الذي يضحك من فلاح متباه يلبس ملابس الصيف الخفيفة خلال طقس شتائي، فقال للملك، ستشعر بالدفء لو لبست ما ألبسه. فقال له الملك: وماذا تلبس؟ ألبس خزانتي كاملة. أما الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، فقد خصص كتابا بأكمله للموضوع بعنوان «الضحك le rire»، (من ترجمة أ.د.علي مقلد)، يتحدث فيه عن نظريته في الضحك متأملا في الكوميديا الفرنسية. فنحن نضحك من تصلب الجسد أو الطبع أو الفكر. ونضحك من أوضاع الجسم الإنساني وحركاته وإشاراته، حيث يذكرنا هذا الجسم بمجرد آلة تتحرك «شارلي شابلن نموذجا». ومن شروط الضحك في نظره، أن يكون الموضوع إنسانيا، فلا ضحك إلا مما يحمل بصمة إنسانية، وإن ضحكنا من قرد أو قبعة أو رسم، فلا نضحك منه إلا بمقدار ما يحمل داخله معاني إنسانية. فالطبيعة مهما كانت جميلة، لا تضحك. والشرط الثاني للضحك، هو غياب الانفعال أو الشعور العاطفي. فالخصم الأعظم للضحك هو الانفعال، فيتوجب أن يتوقف القلب عن الشعور ليحدث الضحك، حيث يجب أن تكون الروح هادئة تماما. كما اعتبر أن الضحك يبعث اللين في كل الجسم الاجتماعي، على الرغم من أنه ليس طيبا في كل الأحوال، فيه حفنة من الشر، والغرور والأنانية والخبث، مع أن وظيفته هي إزالة القيود، وإعادة تكييف كل فرد كي يتلاءم مع الجميع، وإصلاح العيوب الاجتماعية المرتبطة بالجمود والتصلب ونقصان المرونة والانعزال والغرور.
قال فولتير عن الضحك، إنه «شيطاني الطابع، وإنساني في الوقت نفسه»، ما يعني أنه يحمل في طياته معاني الخير والشر، ولغة اجتماعية رمزية حاملة لمعاني ودلالات متنوعة. إنه سلوك تتناقض في داخله كل المعاني والصور والتبريرات. هناك من القدماء من اعتبره حتى أصل العالم، وأن العالم قد نشأ عن ضحكة إلهية، أو ضحكات إلهية متتالية. وبالتالي، كان الضحك عالما إنسانيا لا يشاركه فيه أي كائن آخر، دلالة على حريته، وقدرته على الخلق والصنع، وإضفاء المعنى على الذات والعالم، على الرغم من أنه يقوم بالسلوك نفسه.

*أستاذ فلسفة



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.