هل نحر مشروع الأخوة بصبوص؟
ما يحدث في راشانا لا يُصدق. البلدة التي بقيت أكثر من خمسين سنة قبلة لعشاق الفن بفضل نحاتيها الثلاثة، الإخوة ميشال وألفريد ويوسف بصبوص، فقدت ألقها، وذوت حتى لم يعد يسمع بها أحد. الحديقة التي كانت تجتمع على أرضها منحوتات الفنانين الذين دعوا إلى «محترف راشانا الدولي للنحت»، من كل أنحاء الدنيا، طوال 11 عامًا وتركوا ما لا يقل عن 40 منحوتة، لتبقى هنا، تكاد تفرغ من محتوياتها، يبس عشبها ولم تعد تجد من يعنى بها. ليس هناك من يريد أن يتحدث علنًا، وباسمه المكشوف، عن سبب اختفاء منحوتات، يفترض أن أصحابها وقعوا عقدًا يمنع بيعها أو إعارتها، ومع ذلك لم تعد موجودة في مكانها. الفنانون اللبنانيون الذين كان يستضاف كل سنة منهم واحد في راشانا، ولهم منحوتات في الحديقة، اكتفى من سألناهم منهم بإجابات متشابهة وغاضبة، ومفادها: «نحن وقعنا عقدًا مع ألفريد بصبوص يمنع المساس بمنحوتاتنا التي تركناها هناك. وما بيع هو للنحاتين الأجانب الذين تمت استضافتهم، ونرجو أن تقف الأمور عند هذا الحد». يبدو أن هؤلاء يتابعون عن كثب ما يحدث في راشانا. قال أحد النحاتين رافضًا الكشف عن اسمه: «ما يحدث عيب، نحن نرى المنحوتات التي تباع ونعرفها، وقد بيعت منحوتة للمصري ناجي فريد من أقل من شهر، وانتقلت إلى مكان آخر، وأخرى قبلها لتشيكي وغيرها لياباني». يعرف النحاتون اللبنانيون بعض القطع التي يقولون إنهم شاهدوها عند تجار معروفين في مجال الفن يذكرونهم بالأسماء. نحات لبناني آخر كان قد شارك في السمبوزيوم في راشانا، يقول: «إذا باعوا منحوتتي لن يكون عسلا على قلبي، لكنني لن ألجأ للقضاء. تركت عملي هناك، ولا أستطيع أن أحمله على ظهري لأحميه. أنا لم أعد أذهب إلى راشانا، كي لا يوجعني قلبي، الذي يحدث لا يُحتمل». ويستدرك النحات الذي يرفض ذكر اسمه خشية عدائية ضده بالقول: «لا أستطيع أن ألوم ورثة ألفريد بصبوص الذين يفترض أنهم يتصرفون بالمنحوتات، لأنهم ليسوا فنانين، لكن ما يوجع القلب أن محترف عاليه للنحت الذي بدأ بعد محترف راشانا، محفوظة أعماله من قبل البلدية التي خصصت له طريقًا، تصطف المنحوتات على جانبيه، ولهذا أنا أحترم رئيس بلدية عاليه لأنه يقدر الفن». ويضيف: «أعرف أن بعض ما بيع من راشانا صار في غاليريهات وبيوت، حتى إنني سمعت أن احدهم جاء بطائرة خاصة لينقل منحوتة من راشانا على متنها». كلام كثير يتردد حول أن أعمالاً كثيرة لألفريد بصبوص بيعت هي الأخرى، وثمة منحوتات صغيرة يتم تكبيرها وتوقيعها، وكأن الفريد هو الذي وقعها. هناك من يقول أيضًا إن ثمة ما يتم نحته نقلاً عن صور ويصب بالبرونز ويوقع باسم ألفريد ويباع. هذا كلام يتناقله الفنانون. وحين نسأل الناقد التشكيلي سيزار نمور، ومدير متحف مقام، وهو كان صديقًا لألفريد بصبوص عما يحدث يكتفي بالقول: (آسف لأن الكثير من أعمال ألفريد بيعت. كنت قد نصحت العائلة بالاحتفاظ بنحو 120 قطعة، لتبقى في متحفه الخاص)». وحين نسأله إن كان من حق أحد بيع منحوتات الفنانين الأجانب التي تركت في راشانا يقول: «بمقدور من تباع منحوتته أن يحتج لكنهم لا يفعلون».
عندما تصل إلى راشانا وترى هذا المشهد، تشعر وكأنك غُدِرت في ذاكرتك، تتذكر النحات ألفريد بصبوص، خلال تلك المحترفات، وهو يجول بين الفنانين، سنة بعد أخرى، وهو يردد أمام الصحافيين: «أريد أن أحول راشانا إلى متحف مفتوح في الهواء الطلق، أريد أن أجمع العالم على حبة عدس (يقصد على أرض بلدته الصغيرة التي تعد 250 نسمة). وقد فعل ألفريد، وصارت راشانا مزارًا يُقصد، ومقامًا يُرتجى. نهاية عام 2005 رحل ألفريد الأخ الأوسط، وقبله بأربع سنوات كان قد رحل الأخ الأصغر يوسف، وبغيابهما، صمت صوت الأزاميل والمطارق التي كانت تلعلع كل سنة، وغابت راشانا عن الذكر. رفض فادي ابن ألفريد بصبوص، أن يجيب عن أسئلتنا الأكثر حساسية. قال خلال اتصال هاتفي: «أنا أسعى لجعل أعمال والدي عالمية، لا نريده أن يبقى حبيس راشانا، ونرتب حاليًا لعمل معرض استعادي له في (تيت مودرن) في لندن، وأماكن أخرى، وسنعيد إحياء الحركة في راشانا حين يتحسن الوضع في لبنان».
يتحدث فادي بصبوص عن مؤسسة لألفريد بصبوص كانت قد أنشئت ويتم إحياؤها، وهو رئيسها، وحين نسأله إن كان بمقدوره تزويدنا باسم أحد أفراد المؤسسة لنأخذ رأيه أيضًا يجيب: «أنا من المؤسسة وأتحدث معك، فلماذا السؤال عن شخص آخر». نسأل أيضًا عن المنحوتات الخاصة بالسمبوزيوم التي كانت في الحديقة وما الذي حل بها؟ يجيب بغضب: «هذا كلام لا يقال بالتليفون من يريد أن يسأل فليتفضل إلى راشانا». وحين نوافق ونطلب موعدًا يجيب بنبرة أعلى: «اتصلي بداية شهر يوليو (تموز) لنرى إن كان ثمة موعد»، ويغلق الخط.
تبقى الأسئلة معلقة والكلام خطيرًا وكثيرًا، ويستحق اهتمام وزارة الثقافة. فراشانا إرث لبناني، وليس خاصية عائلية، حتى لو كان المشروع برمته بدأ عائليًا.
الإخوة الثلاثة كانوا يعملون في مهنة العمار، من «معمرجية» كما يقال بالعامية اللبنانية، إلى رواد في الفن. الأخ الأكبر ميشال بصبوص بدأ المسار. ولم يكتفِ الفنان النشط بالنحت وحده، عام 1962 أسس لمهرجان صغير في راشانا، تلك القرية المنسية الوادعة، ولم تصل إليها الكهرباء بعد. جاء بمولد من زحلة، وأحيا ليلة مسرحية، مطلقًا مهرجانا للمسرح، أخذ يكبر سنة بعد أخرى. بفعل زنود البصابصة وأزاميلهم، صارت راشانا الصغيرة متحفًا حقيقًا. من مدخلها تبدأ ترى منحوتاتها منتصبة على جانبي الطريق. تمر ببيت ميشال فترى حديقته مزروعة بأعماله المتطاولة والبيوت الصغيرة النموذجية التي بناها لاستقبال الفنانين الذين يودون الإقامة هنا، وتكمل الطريق لتصل إلى بيت ألفريد حامل الشعلة بعد رحيل ميشال ومطلق المحترف الذي أخذ شهرة واسعة وسمعة طيبة، وإلى جانبه منزل أخيه يوسف، بحديقته الصغيرة ومحترفه الجميل، وفي آخر المسار متحف في الهواء الطلق يحتضن المنحوتات لفنانين من كل حدب وصوب. المشهد اليوم اختلف كليًا، الحديقة تفرغ تدريجيًا، إلى جانبها يسكن نبيل ابن يوسف بصبوص، ينحت بصمت منتظرًا قيامة راشانا من جديد، ويحتفظ بمنحوتات والده متحينًا الفرصة والإمكانات المادية ليقيم ليوسف متحفًا خاصًا، وفي منزل الابن المؤسس ميشال ابنه أناشار الذي ينطلق في عالم النحت ويطور متحف والده بهدوء. كل ينام على مشروعه الخاص الصغير، ويشعر بالعجز واللاجدوى.
لا يزال في راشانا ما يستحق عناء الاهتمام والسؤال عما يحدث، وعن صحة كل الكلام الذي يتناقله الفنانون، وعن مصير منحوتات ليس من حق أحد أن يحركها من مكانها، لكنها اختفت.
بلدة الفن «راشانا» تفقد منحوتاتها وسط صمت الخائفين
بعد 10 سنوات على رحيل اللبناني ألفريد بصبوص.. أسرار تغلف المكان
الفنان ألفريد بصبوص - «راشانا».. متحف في الهواء الطلق
بلدة الفن «راشانا» تفقد منحوتاتها وسط صمت الخائفين
الفنان ألفريد بصبوص - «راشانا».. متحف في الهواء الطلق
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة


