ميلان كونديرا وأنطولوجيا «الجهل»

معه نقرأ التاريخ ببؤسه وطغيانه وحروبه ودماره وما أحدثه من ألم وجروح لا تندمل

غلاف رواية "الجهل"
غلاف رواية "الجهل"
TT

ميلان كونديرا وأنطولوجيا «الجهل»

غلاف رواية "الجهل"
غلاف رواية "الجهل"

ينطوي عمل كل روائي على رؤية مضمرة لتاريخ الرواية، وعلى فكرة ماهية الرواية، إذ من خلالها يتم تنوير الوجود الإنساني وحمايته ضد كل أشكال النسيان. إنها مرآة عاكسة لتعقد الوجود. فحين تجالس «ميلان كونديرا»، أكان ذلك على مقعد في أحد المقاهي، أو تمشيا بصحبته في أحد الأحياء، أو السفر بصحبته حتى اليونان والتيه معه في أساطيرها التي لا تنتهي، أو جالست أبطال رواياته، ستجد في داخل كل هذا «كونديرا» فعلا. فالوطن، كفكرة متعالية مجردة، سيكون حاضرا حتى النخاع. إنه حب، بل عشق، حتى وإن كان من طرف واحد، يتجسد في شخوص كل رواية من رواياته. فهم (أي الشخوص) يطبعهم الخوف من العودة لأنها ستكون عودة مؤلمة غير مرحب بها، ولأنه وطن لا يفهم منطق الحب «الكونديري»، حيث نلمس هذا في ردود فعل متمردة. إن «كونديرا»، المتمرد العابث، سيدافع عن وجوده من خلال تلك الآليات لأنها الملاذ من أجل الاستمرار، وفي تحمل حب بهذا الحجم، أمام عدم القدرة على فعل شيء، أو تغيير شيء، أو تحقيق شيء. فعلى حد تعبيره «كلما كان الزمان الذي تركناه خلفنا رحبا، كان الصوت الذي يدعونا إلى العودة» أشد طغيانا. فهي عودة «أنطولوجية» ليس هناك مجال لمقاومتها. وعلى الرغم من الحياة المريحة في الغربة، فإن هناك اختيارا دائما للعودة، مع أنها عودة إلى مجهول غير مضمون العواقب، لا تتوقع ما ستكون ردة فعله، فالعودة كمغامرة ترفض دائما الانتهاء. ولأن العودة هي «مصالحة مع نهاية الحياة»، سنقرأ مع كونديرا التاريخ بلا هوادة، بكل بؤسه، وطغيانه، وحروبه، ودماره، وما أحدثه من ألم وجروح لا تندمل أبدا عند من خاضها أو عاشها. فأينما حلوا وارتحلوا، يحملون هما مثقلا، وبؤسا لعينا، وعيا شقيا لا يتوقف، بمعنى تحمل حياة ليست بالحياة. إنها قوة كامنة لا تتوفر للكل. فحتى أحلامهم باتت تتكرر بالصيغة نفسها، والأسلوب نفسه، وكذلك الألم. وفي خضم كل هذا، يرفضون الموت. إنها إرادة الحياة التي تنتصر على الرغم من القهر. هل نقول إنهم زومبي ZOMBIE؟ ولم لا؟! فهو الآخر يرفض الموت النهائي تحت وطأة شظايا مشاهد لا تنتهي، نابعة من أحضان الماضي. فـ«إرينا» مثلا، بطلة رواية «الجهل»، ستجسد بشكل عميق ما طرحته سابقا. ففي حديثه عن لقاء بين «إرينا» وأمها، بعد قطيعة دامت 17 سنة، نلاحظ أن اللقاء جاء فاترا باردا وصاعقا. فالأم جاءت من براغ إلى باريس، ولم تهتم لما يمكن أن تكون عليه «إرينا»، التي تحاول بدورها جاهدة لرسم صورة جميلة عن وجودها في باريس، صورة لا تكترث لها الأم بتاتا. إنه تعميق لمفهوم «الغربة» بكل معانيه عند «إرينا». فحتى العيش في وهم الحياة السعيدة لم تمنحها إياه الأم. بل كان حضورها تعميق للإحساس بالدونية والعجز، وبارتباط واه ما زال يجمعها بكل شيء. إنه الشعور بألا يكون المرء هو نفسه. إذن ففكرة الانفصال عن أي شيء، وعن أي شخص، لم تنجح بعد موت شخوص «كونديرا». إنه رجوع إلى الخلف، شعور بالضعف وبالشفقة على الذات، وبكل الأحاسيس السلبية غير المرغوب فيها. قد يبدو المرء أكثر وضوحا مع «إرينا» أثناء اقتنائها فستان الفرح في لحظة أجبرت عليه، وجلب عليها الكوابيس. فروحها قد أنشطرت بين رغبتين متناقضتين: رغبتها في العودة من جهة، ومقتها لعالمها السابق من جهة أخرى. تناقض عجيب يحمل بين طياته كل معاني الحنين الدفين والعميق للمكان. إنها المعاناة في شتى تجلياتها، إنها الحاجة إلى البوح والبكاء، والرغبة في الانعتاق من دون جدوى.
ويحدث أن تتحقق فكرة العودة. لكن عن أي عودة سوف نتحدث مع كونديرا؟ هل هو رجوع لذات مفرغة من أي تاريخ؟ أم لذات ما زال كل التاريخ يحبس أنفاسها؟ أم ذات أنشأت لنفسها تاريخا جديدا مضافا إلى ما سبق؟ أم ذات متشظية بين كل التواريخ؟
إن عودة «إرينا» إلى «براغ»، واللقاء بينها وبين صديقاتها القديمات في ليلة ساهرة ماجنة، لم يوصلاها إلا إلى هوة سحيقة في داخلها. إذ إنه السقوط في اللاشيء واللامعنى. فلم يحرك أي شيء شيئا. الكل ساكن غريب مهما بلغ عمقه (ضحكات تافهة، كلام مقزز، موسيقى مملة). إذن، هل الانتشاء ما زال حاضرا في موسيقى العودة؟ أم أن ضريبة العودة ما زالت تدفع بشكل أو بآخر؟
إنه الخوف المبهم من كل شيء. خوف يتجسد في وحدة عميقة للذات، وحدة ضد كل شعارات البلد الجديدة «إخوة لجميع الأعراق، امتزاج جميع الثقافات، وحدة الكون، وحدة البشر...». إنها الصور الدعائية الجوفاء التي يتم تسويقها بعيدا عن ذوات منهكة منشرخة منهزمة تريد الاعتراف بالخضوع. إنها ذوات «مريضة تعاني من نقص في الحنين»، ومن «تشوه مازوشي في الذاكرة». فالذكريات ننسجها ونحكيها حين نقطن البلد، وليس حين نبتعد عنه. فتاريخ الذاكرة يتم تشويهه في هذا الانقسام بين زمانين ومكانين مختلفين تماما. إنه الحاضر المهزوم الآسر المنتزع للماضي. ستنتقل الأحداث بين «إرينا» و«جوزيه». لكن الحال يبقى هو نفسه. إنها الغربة العميقة التي تنخر كل كيان على الرغم من مزاعم العودة. إن من يقرأ لكونديرا سيلمس عبثا ووهما يجر وراءه كل معنى وكل حقيقة وكل إيمان. إنها متاهة اللاشيء التي نغلفها بكثير من القيم الواهمة. فاللاشيء يجرنا إلى عبثية المعاني، ويعبر ربما عن وعكة روحية، أو طاقة مكبوتة، أو شاعر متمرس في وصف حقيقة وجودنا. إنه الجهل بكل شيء. إنه معرفة ناقصة بالذات، برغباتها ومتاهاتها، وبالآخر أيضًا في كل أبعاده، وبالكون وامتداداته. إننا نتخبط مع «كونديرا» في مياه وسطح وقعر، بلا هوادة ومن دون توقف. لا نحن ننجو ولا نغرق. عذاب بلا توقف – متعب هذا المآل. لكن ما يثير الانتباه في كتابات كونديرا هو أن القارئ يجد نفسه أمام ذات عارية لضربات سوط تلو سوط، لا تتوقف عن إحداث الألم والقلق والضجر والخيبات والانتكاسات، وطابوهات فارغة، وآيديولوجيات جوفاء، وقيود أسرة. لكن الذات لا تتوقف في البحث عن الحرية والانعتاق، عن لحظات من الانتشاء اللامنطقية. فالذاكرة الإنسانية لا تمسك من الماضي سوى بأجزاء صغيرة بائسة من دون أخرى، من دون أن تكون لدينا إمكانية معرفة لماذا هذا اللغز؟ لماذا هذا الاختيار؟ إنها الحياة الإنسانية باختصار. فليست لدينا الذاكرة نفسها حتى لو عشنا المواقف عينها. لكل منا ما يخصه: لا تشابه، لا تقاطع، لا مقارنة. لكن الشيء الأكيد هو أننا عشناها معا. لكن ليس بالطريقة نفسها حين نحاول تكرارها. إنها الألغاز الإنسانية في أبعادها كافة. فـ«إرينا»، وهي حالمة تمشي بين شوارع براغ كحقيقة، وبين شوارع «باريس» كصورة، ينتابها إحساس بالسعادة في «باريس» عنها في «براغ». غير أن رباطا سحريا جماليا لا يربطها سوى بـ«براغ». تفهم فجأة لماذا تحب هذه المدينة، وكم كان رحيلها عنها إلى الأبد مؤلما – وداعات مزيفة وغير ضرورية وثلجية بينما تقول لنفسها: «من خسر هذه الوداعات لا يمكن أن ينتظر شيئا ذا شأن من هذه اللقاءات». لكن لكل مدينة سحرها الذي لا يعرفه إلا من ذاب فيها: «ماشا شاعر الزمان، نيرودا قصاص الشعب التشيكي، أغاني فوسكوفيك وفيريتش في الثلاثينات، هرابال وسكفوريسكي»، إنهما رمزان للحرية، حران على نحو بهيج بفكاهتهما الوقحة. هذا هو عطر هذا البلد الذي لا يمكن الوصول إلى جوهره اللامادي الذي حملته معها إلى «فرنسا». إنه اليوم الأخير لتحقيق الوداعات، وداع للمدينة التي تحب بين جميع المدن، لكنها مستعدة في الوقت عينه لفقدانها دون أسف، لتكون جديرة بحياتها. وما ترغب فيه الآن هو الحب من دون أي امتنان، لأن الامتنان هو مجرد اسم آخر للضعف، للتبعية. وما يثير الانتباه عند «كونديرا» هو دقته في وصف المحيط، وما يصاحب ذلك من تأويلات وتشبيهات كثيرة. وفي الغالب لا يكون الأبطال عند كونديرا أحرارا في مصيرهم، وفي أخذ قراراتهم. لكن عندما تكون الظروف مواتية لأخذ القرار، يصبح الأمر صعبا. فأبطاله يتحنطون في متاهات من القرارات والأفكار والانفعالات إلى درجة تصبح فيها عملية الحسم صعبة. فالبطل يصبح معه كائنا زلقا يمكن أن تتوقع منه أي شيء وفي أية لحظة. إنها أزمة كائن ومتاهة لا تنتهي. أو بشكل مختصر، إنه في أبعاده الوجودية القلقة المؤرقة كلها، ربما ما يعمق هذا تلك العودة وأية عودة. عودة انقطع فيها جسر التواصل بين الكل، فلا أحد يهتم لأحد. فأنت تنسى كأنك لم تكن حتى من الأكثر قربا، فلا أحد يكترث لما صرت عليه. مفارقة نحاول جاهدين تقريب منطقها من دون جدوى. يجب أن تتعود على أن تعبر الحياة دون اهتمام أو إصغاء أو انتظار للرحمة من أحد. ولعل لقاء «إرينا» و«جوزيه» أكد ذلك حقا. فقد كان لقاء ظنناه للوهلة الأولى لقاء حبيبين. صرنا نتنفس الصعداء مع «كونديرا» لأن اللقاء كان بعد فراق طويل جدا مع ما صاحبه من حميمية. لكننا نصدم حين يقرر «جوزيه» الذهاب لحاله بكل بساطة، دون اكتراث لـ«إرينا» التي ما زالت تحتفظ بتذكار عن الأيام الخوالي. فحتى اسمها لم يعد يذكره – إنها المهزلة الكونديرية في قمتها. فقد أصبح اللقاء بلا معنى، بلا قيمة، بلا ذكرى. فكل شيء إلى مزبلة النسيان. لذا فإن الوطن والعودة «الكونديرية» ليستا كمثيلاتهما عند عبد الرحمن منيف، أو غسان كنفاني، أو الطيب صالح مثلا. إنها عودة اللاعودة. إنها رغبة اللارغبة. إن كل القيم في سلة المهملات. إننا أمام الكائن المتأزم، السارح في الملكوت ينتظر هلاكه. وهو في ذلك متسلح بالنسيان، بالعبث، باللامبالاة من أجل الاستمرار، ولكي لا تخنقه كل هذه الأعاصير من القلق والتيه والعبث.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!