هاني المُلقي.. سياسي «القانون على الجميع»

يرأس حكومة انتقالية بجرعة اقتصادية لتغيير المزاج العام الأردني

هاني المُلقي.. سياسي «القانون على الجميع»
TT

هاني المُلقي.. سياسي «القانون على الجميع»

هاني المُلقي.. سياسي «القانون على الجميع»

جاء تكليف الدكتور هاني المُلقي لرئاسة الحكومة الأردنية، في مرحلة اقتصادية صعبة يعيشها الأردن جراء تأثيرات تداعيات أحداث المنطقة وما أفرزته الحرب في سوريا والعراق على الأردن من إغلاق للحدود وتدفق اللاجئين السوريين في بلد شحيح الموارد والمياه؛ الأمر الذي انعكس بسرعة كبيرة على حياة المواطنين. ولعل اختيار العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني للرئيس الملقي، جاء لما تتطلبه المرحلة الدقيقة والصعبة التي تمر بها البلاد، وإحساسه بمعاناة المواطنين الذين استنزفت مدخراتهم جراء الضرائب التي فرضتها حكومة الدكتور عبد الله النسور السابقة.
حكومة المُلقي جاءت بجرعة اقتصادية واضحة، وملف الاستثمار يحتل مكانة متقدمة في اهتماماتها بحكم تركيبتها، وهي حكومة تقول للعالم إن قلبها وذراعيها مفتوحان لاستقبال الاستثمارات. أما ما يشغل بال الحكومة فملفان يعتبران من أولوياتها: الأول هو الاقتصاد والمديونية وضرورة معالجتهما، خاصة أن المواطن يعاني معاناة كبيرة. والآخر هو إجراء الانتخابات النيابية والمجالس المحلية التابع لمشروع اللامركزية.
حكومة هاني المُلقي الجديدة في الأردن «حكومة انتقالية» جاءت في ظروف حساسة، وأمامها ملفات صعبة، خاصة في المجال الاقتصادي. هكذا يصفها الكاتب السياسي فهد الخيطان، ويضيف: إن «عدد أعضاء الحكومة جاء أكبر من اللازم، وكان يجب أن تكون أكثر رشاقة؛ لأن المرحلة تتطلب العمل بديناميكية عالية، وأن الفريق موسع جدًا وسيعيق عمل الحكومة». ثم تابع: «أعتقد أنه لن يكون هناك تغييرات في السياسات والاستراتيجيات الرئيسية والتي كانت في عهد الحكومة السابقة». وبالنسبة للملفات الخارجية، قال الخيطان: إن الحكومة ستتولى الأمور الداخلية، ولن تتدخل في الأمور التي تهم الأمن والدفاع.
أما وزير الإعلام الأسبق الدكتور نبيل الشريف، فيرى أن التغيير الحكومي «جاء لإعطاء الملف الاقتصادي دفعة إلى الأمام، وليس كما يقال إنها جاءت لإجراء الانتخابات؛ إذ إنه كان بإمكان الحكومة السابقة إجراء الانتخابات، ولا يوجد نص دستوري يمنع ذلك». ثم أشار إلى أن الحكومة «جاءت لترتيب البيت الاقتصادي»، معربا عن اعتقاده أن «الحكومة السابقة أصابها الوهن والترهل في الفترة الأخيرة، خصوصا في الجهاز الحكومي، وهذا رأيناه في كتاب التكليف السامي حول ضرورة تطوير الجهاز الحكومي». وتابع الشريف «الهم الاقتصادي ومعاناة المواطنين منه هو الذي كان يشغل بال الملك، ولو استطاعت الحكومة الحالية أن تخفّف المزاج العام وتدخل التفاؤل إلى قلوب الأردنيين فهو بحد ذاته نجاح. وأعتقد أن هناك نسبة من التفاؤل على قدرات هذه الحكومة لتغيير المزاج العام وبدء التغيير في الملفات الاقتصادية».
* الحكومة الـ16
جدير بالذكر، أن حكومة هاني المُلقي هي الحكومة السادسة عشرة منذ تولي الملك عبد الله الثاني سلطاته عام 1999، وكان قد تولى رئاسة الحكومات الـ15 قبلها 11 من رؤساء الوزراء، هم: عبد الرءوف الروابدة وعلي أبو الراغب وفيصل الفايز وعدنان بدران ومعروف البخيت ونادر الذهبي وسمير الرفاعي وعون الخصاونة وفايز الطراونة وعبد الله النسور، ورئيس الوزراء الحالي هاني المُلقي. لم يأت الملك عبد الله الثاني بشخصية معارضة، أو حتى شبه معارضة، تحظى ببعض القبول لدى أحزاب اليسار والأوساط النقابية، لكي يخلق انطباعًا بأن النظام في الأردن تجاوز مرحلة «الربيع العربي» إلى مرحلة جديدة وهي استعادة هيبة الدولة. بل ذهب الخيار الملكي باتجاه اختيار دبلوماسي واقتصادي ليقود مرحلة ربما تكون انتقالية، تقف فيها الأردن على أعتاب انتخابات برلمانية، في ظل تحديات اقتصادية وسياسية وجوار مضطرب يلقي بظلاله على الساحة المحلية.
* ابن عائلة سياسية
الرئيس هاني المُلقي شخصية واقعية، تنظر للمشهد من الزوايا كافة، وهو شخص عرف عنه معالجة الوضع الاقتصادي بأسلوب إداري موزون، وهو الأسلوب ذاته الذي اضطلع فيه الرجل، حين مارس السياسة الاقتصادية بمفهومها الشامل، منذ توليه مناصب وزارية في أكثر من موقع. المُلقي ابن عائلة سياسية مُخضرمة، فوالده هو رئيس الوزراء الأسبق فوزي المُلقي في عهد الملك الراحل الحسين بن طلال. وعُرف عنه أنه يُعالج القضايا بأسلوب علمي هادئ يرقى إلى الوعي المبني على فلسفة (الفهم والتفاهم)، وقد يكون هذا سرّ نجاحه في المواقع السياسية والاقتصادية التي تبوأها، منذ أن دخل الحياة السياسية في أواسط ثمانينات القرن الماضي، وحتى توليه رئاسة الحكومة.
وعائلة المُلقي تقلّدت الكثير من المناصب المهمة والحساسة في الدول الأردنية قبيل وبعد استقلالها، حيث قرّب الملك عبد الله الأول (الملك المؤسس) فوزي المُلقي – والد رئيس الوزراء الجديد – وعيّنه مسؤولا عن التموين أثناء الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا عام 1944، ثم استعان به الملك الراحل حسين بن طلال وعيّنه أول رئيس وزراء له عند تسلمه مقاليد الحكم عام 1953. ومنذ ذلك الوقت وعائلة المُلقي مقرّبة من القصر الهاشمي. واللافت أن هاني المُلقي تسلم الحقائب ذاتها التي تسلمها والده، من رئاسة الوزراء إلى وزارة التموين إلى منصب السفير الأردني في القاهرة، حيث مكث المُلقي الابن فترة طويلة في القاهرة، وهي المدينة التي درس فيها المرحلة الأولى من تعليمه الجامعي.
لعب هاني المُلقي دورًا بارزًا في السياسة الخارجية إبان تسلمه حقيبة الخارجية عام 2004، وهي وزارة سيادية لها وزنها في التركيبة الحكومية، إضافة إلى عمله مندوبًا دائمًا لدى جامعة الدول العربية بين عام 2008 وحتى 2011، وخلال عمله مستشارًا للملك خلال الفترة (2005 – 2007)، كما عين عضوا في مجلسي الأعيان الحادي والسادس والعشرين.
ولا تقتصر خبرة الرئيس الجديد، على الجانب السياسي، بل تتعداه – كما سبقت الإشارة – إلى مؤسسات ووزارات ذات طابع اقتصادي، منها: المياه والري والطاقة والتموين والصناعة، ولعل أهم تلك المواقع تسلمه رئاسة سلطة منطقة العقبة الخاصة. وفي عهد المُلقي كان التركيز على جذب الاستثمارات الخارجية، وهي الفلسفة التي ينطلق منها، ويدعو لها منذ عهد بعيد، وفقًا لتصريحاته الصحافية ولقاءاته، ومشاركاته في الندوات والمؤتمرات. وكما يقول عارفوه، فهو من القلائل الذين يجمعون بين الحنكة السياسية، والنظرة الشمولية لمعالجة الاختلالات الاقتصادية، من حيث دراسة المشاريع التنموية دراسة متأنية، بما ينعكس إيجابًا على زيادة معدلات النمو الاقتصادي، وهو بمجمله الفهم العميق للواقع من منظوره العام.
من ناحية ثانية، فإن شخصية المُلقي القوية هي الدافع الحقيقي لإيمانه بهيبة الدولة، وبضرورة إعادة الاعتبار لها، ولقد مارس صلاحياته في حل الكثير من الإشكالات التي كانت شهدتها مدينة العقبة، إبان ترؤسه سلطتها الاقتصادية. وكذلك رفضه التسويات التي تقود إلى التمادي في المخالفات والاعتداءات على أملاك الدولة. وهو رجل دولة بامتياز، يتبنى سياسة القانون على الجميع، ويبدو أن اختياره لهذا الموقع يصب في خانة الإصلاح الشامل.
أيضًا عرف عن المُلقي أنه يفصل بين الأملاك العامة والأملاك الشخصية الخاصة، فهو يستعمل سيارته الخاصة بعد انتهاء دوامه، إضافة إلى يحمل هاتفين الأول للعمل والثاني للبيت ويستخدم أملاكه الشخصية خارج الدوام الرسمي.
* المفاوضات مع إسرائيل
سياسيا ارتبط اسم هاني المُلقي بالمفاوضات الأردنية - الإسرائيلية، التي أفضت إلى توقيع «اتفاقية وادي عربة للسلام» بين الأردن وإسرائيل عام 1994، ولقد عهد الملك الراحل الحسين بن طلال لاحقا إلى المُلقي برئاسة المجلس الأردني في مفاوضات السلام «الاتفاقيات التفصيلية» بين الأردن وإسرائيل خلال الفترة الممتدة بين عامي 1994 - 1996. ومنذ ذلك التاريخ لم يغب رئيس الوزراء الجديد عن الساحة السياسية؛ إذ تقلد الكثير من الحقائب الوزارية، منها: وزارات المياه والري، والطاقة، والتموين، والصناعة والتجارة، والخارجية عام 2004. وخلال توليه حقيبة وزارة الخارجية التقى المُلقي برئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أريئيل شارون في تل أبيب عام 2005. كما التقى بشخصيات إسرائيلية أخرى من أبرزها وزير الخارجية سيلفان شالوم عام 2005، والنائب الأول لرئيس الدولة العبرية السابق شمعون بيريز، ووزير الصناعة والتجارة إيهود أولمرت الذي أصبح رئيسًا للحكومة الإسرائيلية عام 2006. وشنّ هجومًا عسكريا على قطاع غزة نهاية عام 2008 وأوائل 2009.
* المشكلات الاقتصادية
المُلقي، كما يتوقع محللون، سيسعى إلى إيجاد حلول ذكية لمشاكل الأردن الاقتصادية، ابتداء بإغلاق معابر الدولة الأردنية البرية مع العراق وسوريا اللتين تعدّان الشريان الرئيس للصادرات الأردنية، ومرورا بأزمات تراجع معدلات النمو وتدفق الاستثمارات الأجنبية وما رافقهما من ارتفاع لمعدلات البطالة بين الأردنيين. وللعلم، كانت حكومة سلفه عبد الله النسور قد تعهدت في «مؤتمر المانحين» في لندن خلال فبراير (شباط) الماضي بتشغيل نحو 200 ألف لاجئ سوري خلال ثلاث سنوات. وما ينطبق على الاقتصاد في الأردن ينطبق على السياسة أيضًا؛ إذ شهدت البلاد تراجعا في الحريات السياسية والإعلامية، كما تراجع ترتيب البلاد سلبا على سلّم مكافحة الفساد والشفافية العالمي.
ثلاثة ملفات رئيسية تنتظر حكومة المُلقي، ملف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي حول برنامج «إصلاح مالي جديد»، وملف مجلس التنسيق السعودي – الأردني، بالإضافة إلى ملف إجراء الانتخابات البرلمانية قبيل نهاية العام الحالي. ويسود اعتقاد بأن تلك الملفات الثلاثة هي ما سيحكم على أداء الحكومة، وهل ستستمر في قيادة الحكومة للسنوات الأربع المقبلة أم لا، وهي مَن سيحدد مصيرها بعد إجراء الانتخابات البرلمانية.
* بطاقة هوية
يبلغ عمر رئيس الوزراء الأردني الجديد 65 سنة، وهو من مواليد العاصمة عمّان عام 1951. حصل على شهادة البكالوريوس في هندسة الإنتاج من جامعة القاهرة في مصر عام 1974، ثم حاز شهادة الماجستير في الإدارة الهندسية من معهد رنسيلير البوليتكنيكي RPI، أحد أعرق وأبرز الجامعات التكنولوجية في الولايات المتحدة الأميركية، عام 1977. ثم نال منه شهادة الدكتوراه في هندسة النظم والصناعة عام 1979.
وعلى صعيد المناصب، شغل المُلقي عددا من المناصب، منها:
- مهندس ميداني في وزارة الأشغال العامة 1974 – 1975.
- مساعد عميد الهندسة في جامعة اليرموك 1980 ـ 1981.
- مدير تنفيذي للأكاديمية الإسلامية العامة للعلوم 1987 ـ 1989.
- باحث في الجمعية العلمية الملكية 1975 ـ 1979.
- رئيس قسم الطاقة الشمسية في الجمعية العلمية الملكية 1983 ـ 1987.
- رئيس الجمعية العلمية الملكية 1989.
- الأمين العام للمجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا 1993 ـ 1997.
- تولّى رئاسة الجانب الأردني في اللجنة المشتركة لمراقبة تنفيذ معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية.
- النائب التنفيذي لرئيس المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا 19-4-1999 - 1-3-2002.
- سفير للأردن لدى مصر 1-3-2002 - 24-10-2004، ومندوب دائم للأردن لدى جامعة الدول العربية.
- مستشار للملك 7-4-2005 - 1-10-2007.
- سفير للأردن لدى مصر 1-6-2008 - 11-2-2011، ومندوب دائم للأردن لدى جامعة الدول العربية.
- عضو في مجلس الأعيان الحادي والعشرين.
- عضو في مجلس الأعيان الـ 26 الحالي (استقال).
- رئيس لسلطة إقليم العقبة الخاصة عام 2014.
* الحقائب الوزارية
- وزيرا للمياه والرّي 1998.
- وزيرا للطاقة 1998 – 1999.
- وزيرا للتموين.
- وزيرا للصناعة والتجارة.
- وزيرا للخارجية في عام 2004.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.