هجرة المفاهيم والمصطلحات من علم إلى آخر

ندوة تكامل العلوم في العاصمة المغربية

أبو حيان التوحيدي وغلاف كتاب «المقابسات» و د. مريم آيت أحمد
أبو حيان التوحيدي وغلاف كتاب «المقابسات» و د. مريم آيت أحمد
TT

هجرة المفاهيم والمصطلحات من علم إلى آخر

أبو حيان التوحيدي وغلاف كتاب «المقابسات» و د. مريم آيت أحمد
أبو حيان التوحيدي وغلاف كتاب «المقابسات» و د. مريم آيت أحمد

في رحاب كلية التربية وحدائقها الغناء أتيح لي أن أحضر ندوة ممتعة حول مشروع تكامل العلوم والاختصاصات المعرفية فيما بينها. وقد نظمها مركز «إنماء للأبحاث والدراسات المستقبلية». وهو المركز الذي تشرف عليه وتترأسه الدكتورة مريم آيت أحمد، أستاذة الأديان المقارنة والفكر الإسلامي في جامعة ابن الطفيل بالقنيطرة.
وبعد أن افتتحت الندوة أعطت الكلمة لعميد كلية التربية الدكتور عبد الحنين بلحاج، الذي رحب بنا جميعًا وحدد لنا الأطر العريضة للبحث والنقاش، ملمحًا إلى أهمية تكامل العلوم وليس انفصالها عن بعضها بعضًا.. أما الدكتورة مريم فقالت لنا إنها لا تقلل من أهمية التخصص العلمي في مجال علم النفس والتاريخ والاجتماع والاقتصاد.. إلخ، ولكن لا ينبغي أن يتحول هذا الاختصاص إلى انغلاق يحجب عنا حقيقة الإنسان في كليته الشمولية. لا ينبغي أن تنفصل العلوم عن بعضها بعضًا أكثر من اللزوم لأن ذلك يضر بتقدم البحث العلمي. فهي على مدار التاريخ كانت تستفيد من بعضها بعضًا وتتغذى من بعضها بعضًا. وهذا ما ينبغي أن يسود في الجامعات المغربية والعربية، بل والإسلامية ككل. نقول ذلك وبخاصة أنها أستاذة زائرة في الجامعات الإندونيسية بل ورئيسة جمعية الصداقة أو بالأحرى الأخوة المغربية - الإندونيسية، لأنها أكثر من صداقة. ثم ركزت على هذه الفكرة الهامة التي استبقت على ما سأقوله أنا بعد قليل، وهي فكرة هجرة المفاهيم والمصطلحات. وقالت بالحرف الواحد: «هذا ما نلمسه من خلال عمليات الارتحال الواسعة لقدر كبير من المفاهيم والنظريات والمناهج خارج حقولها الأصلية، استعارة أو هجرة أو تهريبا». كما تبين المعطيات المرتبطة بتاريخ العلوم وتطورها أن التكامل المعرفي كان مدخلاً أساسيًا للثورات العلمية الكبرى وأن علماء التكامل كانوا باستمرار رواد قافلة الإبداع في رحلة الإنسان العلمية.
ومن رواد التكامل بين العلوم نذكر الدكتور عبد الوهاب المسيري، والفيلسوف إدغار موران صاحب نظرية «التعقيد والتداخل بين العلوم والفلسفات المختلفة»، والفيلسوف الإسلامي طه عبد الرحمن صاحب كتاب «تجديد المنهج في قراءة التراث»، والدكتور مصطفى المرابط.. إلخ.
وتعقيبًا على صحة كلام الدكتورة مريم آيت أحمد حول هجرة المفاهيم والمصطلحات من علم إلى آخر واغتنائها ببعضها بعضًا، نقول من كان يصدق أن عالم اللاهوت المسيحي الكبير هانز كونغ سوف ينقل أحدث النظريات الأبيستمولوجية ويطبقها على العلوم الدينية؟ شيء لا يكاد يصدق. شيء غير متوقع على الإطلاق أن يصدر عن رجل دين. ومع ذلك فهذا ما فعله.أولا الصورة التي نشكلها عن رجل الدين هي أنه محصور كليًا في العلوم الدينية والعبادات والمواعظ والأفكار القديمة التي عفا عليها الزمن. ولكن ليست هذه هي حالة كبار علماء الدين في أوروبا. فاللاهوتي السويسري الشهير مطلع على كل تاريخ الفلسفة، بل وعلى أصعب النظريات الأبيستمولوجية أي المعرفية العميقة. والدليل على ذلك أنه استعار مصطلح «البراديغم» من عالم الأبيستمولوجيا الأميركي توماس كهن وطبقه على تاريخ الفكر المسيحي في الغرب.
وجدد علم الدين بشكل غير مسبوق. المقصود بالبراديغم هنا، النموذج المعرفي الأعلى الذي يهيمن على حقبة بأسرها لكي يحل محله نموذج آخر جديد بعد فترة، وهكذا دواليك. فمثلا هيمن البراديغم الأرسطوطاليسي - البطليموسي على المعرفة البشرية حتى ظهور كوبرنيكوس وغاليليو.
بعدئذ انكشفت نواقصه وانهار. وبعد قرن من الزمن حل نموذج نيوتن في تفسير الكون محل نموذج كوبرنيكوس دون أن يلغيه كليا. ثم في عصرنا الراهن حلت نظرية أينشتاين محل نظرية نيوتن دون أن تلغيها كليا. لقد حل الميكانيك الكمي والموجي محل الميكانيك الكلاسيكي لنيوتن فيما يخص تفسير الدقائق الصغيرة التي لا ترى حتى بأكبر المجاهر. هكذا تلاحظون أن البراديغمات أو النماذج المعرفية العليا تتوالى وراء بعضها بعضًا كلما حصلت كشوفات جديدة في تاريخ البشرية.
والآن ماذا فعل هانز كونغ؟ لقد نقل مصطلح البراديغم إلى ساحة اللاهوت المسيحي وقال لنا ما يلي: لقد هيمن باراديغم العصور الوسطى الانغلاقي على اللاهوت المسيحي طيلة أكثر من ألف سنة حتى ظهور لوثر. عندئذ هيمن براديغم الإصلاح الديني على الفكر المسيحي. ولكن بعد قرن أو قرنين ظهر براديغم جديد هو براديغم التنوير أو الحداثة في فهم الدين. والآن ظهر براديغم جديد هو لاهوت ما بعد الحداثة! فأين نحن من كل ذلك؟ لا نزال نتخبط في براديغم العصور الوسطى التكفيري. نحن محكومون ببراديغم «داعش»! من يصدق ذلك؟ هكذا تلاحظون إلى مدى الغنى العلمي والخصوبة الفكرية الناتجة عن تفاعل العلوم مع بعضها بعضًا.
ثم قدم لنا الدكتور مصطفى المرابط مداخلة قيمة عن أحدث النظريات الأبيستمولوجية في الغرب. واستشهد باسم العالم الشهير برنار ديسبانيا الذي فارقنا قبل شهور قليلة. وقال إن هذا العالم الكبير المختص بالميكانيك الكمي والموجي والنظرية الذرية والفكر المادي انتهى إلى شاعر أو متصوف روحاني في نهاية المطاف. وقال إنه مهما فهمنا المادة وقسمناها فإنه يبقى هناك شيء أدق فأدق يستعصي على الفهم. وتحدث عندئذ عن الحقيقة المحجبة أو المحجوبة التي لا يمكن للإنسان مهما تقدم في العلم أن يصل إليها. إنها تستعصي على كل علم أو عالم مهما علا شأنه. وقال لنا الدكتور المرابط بأننا بحاجة إلى ثورة معرفية تربوية، بل وما هو أكثر من ثورة. وذلك بغية التوصل إلى صورة جديدة للعالم، وإعادة النظر في رؤيتنا التقليدية للطبيعة والكون والإنسان. وقال بأن التخصص الواحد لا يستطيع أن يفهم إلا جزءًا صغيرًا من الواقع، وبالتالي فينبغي أن تتكامل العلوم وتتعاضد فيما بينها لكي نتوصل إلى أفضل صورة عن أنفسنا وعن الواقع الاجتماعي. وتحدث عن العلاقة بين العلوم الدقيقة / والعلوم الإنسانية. وخاض في نظريات عويصة لا أستطيع تلخيصها هنا.
أما الدكتور محمد همام أستاذ العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية في جامعة ابن زهر بأغادير عاصمة الدنيا جماليًا وعروس السياحة العالمية فقد أتحفنا بمداخلة عصماء عن سوسيولوجيا التكامل المعرفي. واستشهد منذ البداية بكلمة للإمام الغزالي تقول ما معناه: من لا يعرف المنطق لا يوثق بعلمه. وهذا أكبر دليل على أنه توجد علاقة بين علم الدين وعلم المنطق وأن علماءنا الكبار كانوا مطلعين على كل العلوم ولكن للأسف ليس شيوخنا الحاليين. وأما أبو حيان التوحيدي فقد ذهب إلى أبعد من ذلك في الانفتاح على الفلسفة والعلوم الجديدة التي كانت دخيلة على العرب والمسلمين آنذاك. فقد أورد في كتاب «الإمتاع والمؤانسة» مناظرة شهيرة جرت بين متى بن يونس المنطقي / والسيرافي اللغوي والنحوي.
هذا غيض من فيض مما حصل في تلك الندوة. أعتذر عن عدم ذكر المتدخلين الآخرين المحترمين. لكن قبل أن أختتم هذه العجالة اسمحوا لي أن أذكر شيئين: الأول مناقشات الصالة التي لم تقتصر على الطلاب وإنما كان فيها أساتذة كبار كالدكتور حمزة الكتاني الذي أدار الجلسة الثانية بكل دعابة وتمكن واقتدار وأشع علينا بعلمه وكياسته وثقافته. وكالدكتور أحمد بنعمو أستاذ علم النفس بكلية علوم التربية وكالدكتور الخياري وآخرين.. فالدكتور بنعمو طرح مسألة الموضوعية وكيف تحولت إلى لوثة أو آفة لدى بعض ممارسي العلوم الاجتماعية. فكتبهم مليئة بالأرقام والجداول الإحصائية والمعادلات الرياضية؟ فهل هذه هي العلوم الإنسانية؟ وعندئذ تجاوبت معه كليًا وقلت له بأن روجيه غارودي يدعوها بالعلوم «اللا» إنسانية! وقد أعجبني هذا المصطلح كثيرا فسجلوه واحفظوه عن ظهر قلب. المقصد أنه لا ينبغي أن تقلد العلوم الإنسانية العلوم الفيزيائية والرياضية أكثر من اللزوم. وإلا فإنها ستخسر أغلى وأعز شيء في العالم: إنسانية الإنسان.
أما الشيء الثاني الذي أود ذكره فهو مشاركة عالم جليل من إندونيسيا معنا في الندوة هو الدكتور فوزون جمال جمال الدين معروف. وهو أستاذ محاضر في جامعة شريف هداية الله بجاكرتا. وقد تحدث بلغة عربية فصيحة لا لبس فيها ولا غموض. وشرح لنا وضع الجامعات الإسلامية في أكبر بلد إسلامي في العالم. وهي تعد بالمئات! وكل ذلك بفضل الإسلام والقرآن الكريم الذي انتشر نوره إلى شتى أقاصي الأرض. وكذلك الأمر فيما يخص باحثًا آخر من ماليزيا هو الدكتور إزهام حكيمي بن رضوان الذي قدم لنا التجربة الماليزية. هو أيضًا تحدث بلغة عربية واضحة تمامًا. فشكرًا لهما لإتقانهما لغة الضاد التي يقال لنا بأنها صعبة جدًا على الأجانب، بل ومستحيلة!



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!