أفلام الثنائي التحري.. تعود إلى الواجهة

وجهان لكل بطولة في أي عمل سينمائي

راسل كراو (يمين) ورايان غوزلينغ في «الفتيان الطيبون» - رود ستايغر وسيدني بواتييه: «في حرارة الليل»
راسل كراو (يمين) ورايان غوزلينغ في «الفتيان الطيبون» - رود ستايغر وسيدني بواتييه: «في حرارة الليل»
TT

أفلام الثنائي التحري.. تعود إلى الواجهة

راسل كراو (يمين) ورايان غوزلينغ في «الفتيان الطيبون» - رود ستايغر وسيدني بواتييه: «في حرارة الليل»
راسل كراو (يمين) ورايان غوزلينغ في «الفتيان الطيبون» - رود ستايغر وسيدني بواتييه: «في حرارة الليل»

«الفتيان الطيّبون» (The Nice Guys) جديد من المخرج الآتي من الكتابة شون بلاك يجمع فيه بين الممثلين راسل كراو ورايان غوزلينغ في دوري تحريين خاصين يبحثان عمن قتل الفتاة التي يشكل موتها لغز هذا الفيلم.
الأحداث تقع في لوس أنجليس عام 1977 وللتأكيد هناك فرقة موسيقية تعزف في حفلة مقطوعة «سبتمبر» (لفرقة Earth‪,‬ Wind ‪&‬ Fire). المشكلة الوحيدة هنا هي أن المقطوعة طرحت في الأسواق بعد عام ونصف العام على ذلك التاريخ.
لكن إذا ما سُمح لغودزيللا أن يهدم سان فرانسيسكو وهي لا تزال قائمة، يمكن القبول بغلطة كهذه أو كالمرور من تحت إعلان لفيلم «جوز 2» علما بأن هذا الفيلم شهد عرضه الأميركي الأول في السادس عشر من يونيو (حزيران) سنة 1978 وليس سنة 1977.
جاكسون (راسل كراو) وهولاند (غوزلينغ) تحريان خاصان والعادة درجت في السينما على أن يحتفي الفيلم الذي يقدّم رجلين من المحققين، أو رجلين من البوليس (براد بت ومورغان فريمان في «سبعة») أو الذي يقدم رجلين أحدهما من رجال القانون والآخر من الخارجين عنه (مثل إيدي مورفي ونك نولتي «48 ساعة») هو التركيز على الفوارق بين الرجلين ومحاولة خلق مشاحنات ومواجهات قائمة على هذه المنطقة السلوكية والشخصية بالتحديد.
* تماثل طباع
المسألة تبدأ عادة بتبرير وجود بطلين متساويين يحققان في جريمة واحدة، ثم تمتد لتشمل تقديم كل منهما بمراجعة شخصية مختلفة تلقي الضوء على سلوكياته المتناقضة مع سلوك زميله كأن يكون أحدهما أكثر ميلاً للعنف، أو أن يكون قليل الثقة بزميله، أو أقل منه صمودًا في وجه التحديات أو أنه الشرطي الجيد بينما الآخر هو الشرطي الفاسد. وكل ذلك يوجه المخرج (تبعًا للسيناريو غالبًا) إلى اختيار واحد من وجهتين:
إما تقديم الفيلم على نحو جاد كما الحال في «سبعة» لديفيد فينشر (1997) أو كما حال بطلا «مطر أسود» مايكل دوغلاس وأندي غارسيا (المتحالفين مع الياباني كن تاكاكورا) في «مطر أسود» لريدلي سكوت (1989).
وإما تقديم الفيلم على نحو يثير السخرية والضحك بناء على تناقضات الشخصيتين كما الحال في «حرارة مدينة» (1984) الذي قام كلينت إيستوود فيه بتمثيل التحري الرصين في حين تكفّل بيرت رينولدز بأداء شخصية المثير للطرافة طوال الوقت (الفيلم أسوأ عمل قام كل منهما بتمثيله).
بناء التناقضات مهم لأن أي فيلم من بطولة ثنائية يحتاج، حسب منظور صانعيه، لشحنة مثيرة من تلك التناقضات الخصوصية. مل غيبسون أبيض وشريكه داني كلوفر أسود في «سلاح قاضٍ» (1987 لرتشارد دونر) وما تلاه. أميركي (روبرت ميتشوم) وياباني (كن تاكاكورا) في فيلم سيدني بولاك «الياكوزا» (1974) أو رجل (كلينت ايستوود) وامرأة (تين دالي» في «الفارض» (1976) لجيمس فارغو.
طبعًا من الأصعب أن تكون الشخصيتان متماثلتين في الطباع (ولو بقدر محدد) لأن تماثلهما يفرض البحث عن مناطق خلاف تثير الإشكال واهتمام المشاهد في نواحٍ أخرى. بينما من السهل تقديمها من المنطلق ذاته الذي شكله معظم من قام بأدوار ثنائية من فجر السينما وإلى اليوم: لوريل (النحيف) وهاردي (البدين)، أبوت (النحيف والجاد) ولو كوستيللو (البدين والخائف)، والتحري الصيني تشارلي شان (الملم والذكاء) وابنه الشاب الذي يحاول تقليد أبيه ويقع في أخطاء.
في الأفلام البوليسية كثير من الأمثلة في هذا الشأن. لكن كما أن تقديم شخصيتين متساويتين يحتاج إلى موهبة تعرف كيف تنبش في بدائل أخرى، لأنها لو لم تفعل لسقط الاهتمام بهما معًا، فإن تقديم التناقض وتعزيزه بالمواقف والمشاهد الكفيلة قد ينقلب سحره على الساحر كما حدث في «حرارة المدينة»، إذ أشبع مشاهديه سخرية من كلا بطليه وكما في Cop Out مع بروس ويليس وترايسي مورغن اللذين لا شأن لهما طوال الفيلم سوى معارضة كليهما للآخر.
* الأبيض وشريكه
العادة التي نراها في نحو 150 فيلمًا من هذا النوع القائم على بطولة ثنائية في أفلام بوليسية، هي شحذ ذلك الاختلاف الطبيعي لخلق أحداث تنبع من ذاته. هذا لا يتحقق دائمًا، وحتى حين يتحقق فإن المهمّة قد لا تُنجز جيدًا إذا ما تم فرض تلك الاختلافات على نحو سطحي أو مباشر.
بالتالي، هناك نماذج أفضل من أخرى بطبيعة الحال، وتلك الجيّدة تبقى جيدة على الدوام حتى ولو نظرنا إليها بعد عقود من تحقيقها.
فيرجيل تيبس (سيدني بواتييه) هو تحرٍّ أفرو - أميركي من المدينة أخذ فرصة ليزور قريبًا له في بلدة جنوبية. يلتقطه البوليس الأبيض مشتبهًا به بمجرد وقوع جريمة قتل. تنطلق أحداث «في حرارة الليل» (نورمان جويسون، 1967) لتنتقد تلك العنصرية المنتشرة ليس فقط بين مدنيين بيض في تلك البلدة، بل بين رجال قانون بيض (يرأسهم رود ستايغر) حتى من بعد إطلاق سراح التحري الأسود. فجأة يحتاج رئيس البوليس لذكاء التحري فيرجيل لحل جريمة القتل. لكنهما لن يعملا معًا. كبرياء رئيس البوليس المزيّف يمنعه من ذلك.
أسود وأبيض هي المعادلة التي تنتقل إلى فيلمين آخرين هما «هيكي وبوغز» (1972) مع التحري الأبيض روبرت كالب (أخرج الفيلم) والأسود (بل غوسبي)، لكن الفيلم بدا مثل إعلان مدفوع الثمن عن أهمية التعايش فسقط في أرضه. وهي المعادلة الأنجح في فيلمي «سلاح قاضٍ» لرتشارد دونر و«48 ساعة» لوولتر هل.
لا يبني «سلاح قاضٍ» تناقضاته على مسألة صراع عنصري، فالأبيض مل غيبسون ليس عنصريًا على الإطلاق ولا داني كلوفر في موقع دفاع عن النفس وتأكيد الذات. ما يذهب إليه الفيلم، تحت إدارة جيدة من المخرج رتشارد دونر، هو تصوير منهجي عمل بين رجل أعزب يضع الحياة والموت في ميزان واحد فيقدم على المخطرات من دون حساب، بينما يعاين الآخر وضعه كربّ عائلة ويمارس المنطق الواقعي في كل شيء ويثمن الحياة على الموت تبعًا لذلك.
«48 ساعة» يختلف من حيث إنه يدور حول شرطي (نك نولتي) مفرط في الاعتداد بنفسه ويميل إلى البطش ولا يقيم وزنا كبيرًا للآخرين (خصوصًا إذا كانوا من عنصر آخر) ولص محكوم عليه بالسجن (إيدي ميرفي) يخرجه الأول لمساعدته في الإمساك بمجرمين خطرين. واحد من الطرق لتحويل بؤرة الصراع بين هاتين الشخصيّتين إلى ما هو مجد وبذلك تجنب الغرق في الكليشيات والإكثار من تكرارها، هو تصوير عنف المجرمين، مما يحيي قيمة بطلي الفيلم أكثر وأكثر.
«سبعة»، فيلم ديفيد فينشر الممتاز (1995) يلغي المعادلات السابقة ويجرؤ على تقديم تحريين من عنصرين لكن مع معاملة كل منهما معاملة مستقيمة رصينة واحدة ومن حجم لا تفضيل عليه. سومرست (مورغان فريمن) يتميّز بالخبرة وميلز (براد بت) بالإقدام وعندما ينجح المجرم (كَفن سبايسي) بالنيل من الثاني يخلق منه وحشًا آدميًا ولو إلى حين. المادة المستخدمة لتقديم حكاية بوليسية برأسين تختلف من حيث تعتمد على الأبيض والأسود كتنويع اجتماعي وليس على محاولة تنميط كل منهما ليكرر مفادات لا قيمة لها.



8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.