أصول المجتمعات ونشأتها وكيف أصبحت بناءً فعليًا

يتشكل الناس من حيث حاجياتهم اليومية والبيولوجية والنفسية والمعنوية

أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة و فريدريك إنجلز
أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة و فريدريك إنجلز
TT

أصول المجتمعات ونشأتها وكيف أصبحت بناءً فعليًا

أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة و فريدريك إنجلز
أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة و فريدريك إنجلز

طرح المجتمع إشكالات متعددة، حول أصوله وأسباب نشأته، وتم التعامل مع هذه الإشكالات على مر التاريخ، بطرق متباينة، من التحليلات الدينية والأسطورية للخلق، التي حاولت إرجاع المجتمع إلى آلهة وآباء مؤسسين وشخصيات خيالية، بعثت المجتمع، وعملت على التحكم فيه، أو تهديمه بصفته عقابا للبشر على سوء أفعالهم. وهو ما نجده في معتقدات الشعوب والفكر التقليدي إلى يومنا هذا، مرورا بالتحليل الفلسفي ذي الطابع التأملي، الذي حاول النظر إلى المجتمع بشكل أكثر واقعية. إلا أن التفكير في المجتمع خلال العصور الحديثة، سيتطور كثيرا مع تطور مناهج المعرفة وتطور الدراسات الإنسانية والاجتماعية، التي ستعيد توجيه السؤال حول المجتمع، مستفيدة من خلفية نظرية ومنهجية، تتجاوز المعطيات التي اعتمدت عليها الرؤى الماضية، محاولة البحث عن الأسس والعوامل التي جعلت الناس على مر التاريخ، يعيشون على شكل جماعات تنتظم، بشكل أو بآخر، داخل عشائر وقبائل ومدن، بعدما كانوا يهيمون في مختلف بقاع الأرض. كما تخبرنا بذلك، علوم الأنثربولوجيا، والأركيولوجيا البشرية، التي عادت إلى البحث في التشكيلات الاجتماعية البدائية القديمة قبل أن تكون هناك دولة، وحيث لم توجد بعد سلطة عامة معينة منفصلة عن المجموعة، أي تتبع المجتمع في جذوره الأولى.
بحثت الفلسفة اليونانية في أسباب الاجتماع، حيث يمكن أن نتوقف عند المعلم الأول أرسطو في «الأخلاق إلى نيكوماخوس»، الذي قدم تصورا عدّ فيه أن للإنسان دافعا طبيعيا للاجتماع، وأن الناس يميلون طبيعيا إلى العيش داخل مجتمع. وهو ما قد بقي مستمرا بشكل أو بآخر في الفلسفة الإسلامية، وبخاصة مع الفارابي وابن خلدون، حيث لم تخرج هذه التصورات عن فرضية حاجة الإنسان إلى الآخر، من أجل تعويض النقص. إذا تجاوزنا أطروحة الدافع الطبيعي، فإن أقوى محاولة للتفكير في المجتمع هما عبارة عن رؤيتين اثنتين مهمتين، يقدم الأولى الفيلسوف الألماني، والمنظر الاشتراكي فريديريك إنجلز، في كتابه «أصل العائلة والملكية والدولة». والرؤية الثانية هي لعالم الاجتماع الفرنسي، إميل دوركهايم في حديثه عن أشكال التضامن الاجتماعي في «تقسيم العمل الاجتماعي». وكلتاهما وجهة نظر، وإن كانتا مختلفتين، إلا أنهما تبقيان مهمتين، وقد تتكاملان فتقدمان لنا صورة جيدة حول المجتمع وتاريخه وجذوره، وبناه الداخلية. فالطرح الأول يبحث في السيرورة الإنتاجية والاقتصادية التي دعت الناس تاريخيا إلى الاجتماع. والطرح الآخر ينتقل بنا إلى المجتمع ذاته، ويبحث بطريقة حول الأسباب والسبل التي تجعل الأفراد ينتظمون فيما بينهم، كاشفا عن الرابطة الاجتماعية.
مر الإنسان في مسير بحثه عن المجتمع بمراحل متعددة؛ فقد بدأ أولا يعيش في الكهوف من الغابات الاستوائية وغيرها، ويسكن أحيانا الأشجار. هذا النمط القاسي من الحياة سيجعل الحديث عن المجتمع ضربا من المستحيل. لكن الإنسان سيتطور بعد ذلك إلى استخدام الأسماك والحيوانات المائية في الطعام، واستخدام النار في طهي الطعام؛ ما سيدفعه إلى تتبع السواحل بحثا عن الأسماك، فمهد له ذلك أن ينتشر في الجزء الأكبر من سطح الأرض، فلما استطاع اختراع القوس والسهم، وأصبحت ثمار الصيد عنصرا أساسيا في الطعام، يضاف إلى ذلك تمكنه من صناعة المعاول الحجرية، والقوارب المحفورة في الخشب، سيصبح مؤهلا أكثر للاستقرار في قرى معينة. يتقاطع مع التطور الذي يقدمه إنجلز على مستوى أنماط الإنتاج، تطور آخر لا يقل أهمية على مستوى العائلة ونظام القرابة. وهو ثاني عامل يفسر إنجلز من خلاله تطور المجتمع.. ستتطور العائلة من المشاعية الجنسية، حيث تكون العلاقات الجنسية مباحة بين الجميع، ما عدا الآباء وأبناءهم، إلى تطور على مستوى المنع، وبخاصة بين الإخوة؛ ما سيساهم في حدوث طفرة اجتماعية جد مهمة، ستساعد في ظهور القبيلة التي ستعطي، بعد ذلك، المدينة، لما سيعمل كل أخ على تأسيس نواة لأسرته الخاصة. ولأنه كان من الصعب على الأسرة الواحدة أن تنشئ قوة، فقد كان الانضمام تحت عشيرة واحدة مهما جدا في هذه المرحلة. بعد ذلك ستتطور الأمور وتزداد مسألة التحريم اتساعا، حتى يصبح من حق كل رجل امرأة واحدة فقط، كما ستتطور العائلة كثيرا مع القدرة على استئناس الحيوانات؛ مما سيؤدي إلى نمو الثروة الحيوانية، وبالتالي سيصبح من الضروري أن تتمدد العائلة، فيكون آنذاك أول انقلاب ذكوري لما سيصبح بإمكان الرجل الزواج من نساء أخريات تقوية للعائلة، ومسايرة لتطور الثروة الحيوانية. هنا ستظهر كذلك الملكية الفردية، وأول تقسيم طبقي في التاريخ بتعبير كارل ماركس، بين الرجل والمرأة. وسيزداد الأمر حدة أكبر مع استعمال الخيول في التنقل والغزو، وسيصبح الصيد الذي كان حرفة بمثابة هواية. هنا سيظهر الزواج الواحد، والعائلة الممتدة ذات القوة الاجتماعية والاقتصادية. لكن وجهة النظر هذه، وإن كانت مهمة جدا، إلا أنها تبقى غير كافية؛ لأن الناس لا توحدهم فقط علاقاتهم الاقتصادية وأنظمة القرابة. الدليل على ذلك هو أن المجتمعات الحديثة، انحلت فيها البنى التقليدية للقرابة، وأصبحت أنظمة الإنتاج غير قادرة على التأثير في أي بناء اجتماعي، حيث أصبحت الفردانية هي الخاصية المميزة لهذه المجتمعات.
هنا من الضروري أن نرفق التصور الذي عايناه لدى إنجلز، مع ما يقدمه إميل دوركهايم في «تقسيم العمل الاجتماعي»، لنتعرف على الأسباب التي ستجعل هذا البناء مستمرا، ونتعرف كذلك على الأسس التي ستنظم العلاقات بين أفراده. بالنسبة لعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم، فإن الناس يتحدون عن طريق الروابط الاجتماعية التي تقوم فيما بينهم، فما إن تتشكل جماعة معينة، إلا وتتكون فيما بين أعضائها لُحمة تتقوى عن طريق القواعد، والمعايير، والأخلاق التي يشكلونها. وتشكلهم من الناحية الواقعية والوجدانية لتسيطر عليهم بصفتها ضميرا جمعيا، الضمير الجمعي هو عبارة «مجموعة من المعتقدات والعواطف المشتركة بين الأعضاء العاديين في مجتمع معين، تشكل النسق المحدد لحياتهم». الضمير الجمعي هو كيان حقيقي مستقل، يقوم بإشعاع قهره وتأثيره في عقول الأفراد الخاصة، هو كائن نفسي جديد، متميز عن الشعور الفردي، رغم أنه لا يمكن أن يتشكل إلا عن طريق هذا الشعور، من هنا تنشأ الأخلاق، والقناعات والأديان. فالأخلاق هي قواعد الجماعة، والدين بصفته ممارسة لا يبقى مجرد طقوس خارجية، وإنما هو كذلك أحاسيس داخلية يحملها الإنسان داخله. يترسخ الضمير الجمعي في الوجدان إلى حد نعتقد معه أنه في طبيعتنا، وجزء لا يتجزأ من كينونتنا. وتتطور سيرورة اندماجه عن طريق التربية والتنشئة الاجتماعية، حيث يعمل على تأسيس فكر الجميع، فيصبح الكل واحدا. هنا لا يكون الفرد فردا، بل كائنا منصهرا في الجماعة، على الرغم من أن هذا الكل لا يمثل مجموع الأجزاء، بل شيئا آخر تختلف خواصه عن الخواص التي تحمل أجزاءه الداخلية، وهو ما يشكل الإنسان بخصائصه المادية والروحية والعقلية والاجتماعية.
كما أن الناس في نظر دوركهايم يتحدون عن طريق أشكال تقسيم العمل التي تتم فيما بينهم، ففي المجتمعات التقليدية يسود بين أفرادها تضامن آلي يتميز بالبساطة والسذاجة. فالأفراد في المجتمعات التي يسود فيها هذا النوع من التضامن يكونون جد متشابهين؛ لأنهم يشتركون في القيم والمشاعر والمعتقدات نفسها، حيث يتوطد الشعور بالنحن. فهذه المجتمعات لا يمكن أن تتوطد إلا عن طريق التشابهات القائمة بين أفرادها، وكل تباين بينهم إلا ويهدد النظام الاجتماعي بأكمله. ويجب مواجهته بالعقاب والقصاص. هنا يكون الضمير الجمعي مترسخا وقويا جدا. أما التضامن العضوي، فيقوم بالأساس على تقسيم العمل والتخصص المهني الدقيق، الذي يؤدي إلى اختلاف الأفراد، ويؤدي إلى ضعف العلاقات الاجتماعية بينهم، وتنتشر الأنانية والفردية. ولكن رغم اختلافاتهم، يتكون مجتمع هو المجتمع الصناعي الحديث، الذي يعتمد على القانون الذي يعيد النظام في حالة الفوضى، بإعادة الحق إلى أصحابه. وإذا كان الضمير الجمعي مهما جدا في التضامن الأول، فإنه يصبح من دون أي أهمية هنا.
الخلاصة العامة من هذا الطرح، هي: أن المجتمعات قامت منذ القدم لدواع اقتصادية، حيث إن التعاون وتطور أشكال الإنتاج، قد لعب دورا حاسما في نشأة المجتمعات عبر التاريخ، لكن رغم كل شيء، فهذا يبقى عاملا غير كاف، هنا يتدخل القانون، والمعتقدات والقيم التي تجعل لهذا البناء غاية وهدفا ومعنى، هكذا قامت كل المجتمعات عبر التاريخ تسن التشريعات والقواعد التي تنظم العلاقات القائمة فيما بينهم، وتجعلهم قادرين على العيش في أمن وأمان بناءً واحدا متراصا. فيتشكل الناس من حيث حاجياتهم اليومية والبيولوجية، ويتشكلون كذلك من خلال حاجياتهم النفسية والمعنوية.

* أستاذ فلسفة



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.