أصول المجتمعات ونشأتها وكيف أصبحت بناءً فعليًا

يتشكل الناس من حيث حاجياتهم اليومية والبيولوجية والنفسية والمعنوية

أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة و فريدريك إنجلز
أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة و فريدريك إنجلز
TT

أصول المجتمعات ونشأتها وكيف أصبحت بناءً فعليًا

أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة و فريدريك إنجلز
أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة و فريدريك إنجلز

طرح المجتمع إشكالات متعددة، حول أصوله وأسباب نشأته، وتم التعامل مع هذه الإشكالات على مر التاريخ، بطرق متباينة، من التحليلات الدينية والأسطورية للخلق، التي حاولت إرجاع المجتمع إلى آلهة وآباء مؤسسين وشخصيات خيالية، بعثت المجتمع، وعملت على التحكم فيه، أو تهديمه بصفته عقابا للبشر على سوء أفعالهم. وهو ما نجده في معتقدات الشعوب والفكر التقليدي إلى يومنا هذا، مرورا بالتحليل الفلسفي ذي الطابع التأملي، الذي حاول النظر إلى المجتمع بشكل أكثر واقعية. إلا أن التفكير في المجتمع خلال العصور الحديثة، سيتطور كثيرا مع تطور مناهج المعرفة وتطور الدراسات الإنسانية والاجتماعية، التي ستعيد توجيه السؤال حول المجتمع، مستفيدة من خلفية نظرية ومنهجية، تتجاوز المعطيات التي اعتمدت عليها الرؤى الماضية، محاولة البحث عن الأسس والعوامل التي جعلت الناس على مر التاريخ، يعيشون على شكل جماعات تنتظم، بشكل أو بآخر، داخل عشائر وقبائل ومدن، بعدما كانوا يهيمون في مختلف بقاع الأرض. كما تخبرنا بذلك، علوم الأنثربولوجيا، والأركيولوجيا البشرية، التي عادت إلى البحث في التشكيلات الاجتماعية البدائية القديمة قبل أن تكون هناك دولة، وحيث لم توجد بعد سلطة عامة معينة منفصلة عن المجموعة، أي تتبع المجتمع في جذوره الأولى.
بحثت الفلسفة اليونانية في أسباب الاجتماع، حيث يمكن أن نتوقف عند المعلم الأول أرسطو في «الأخلاق إلى نيكوماخوس»، الذي قدم تصورا عدّ فيه أن للإنسان دافعا طبيعيا للاجتماع، وأن الناس يميلون طبيعيا إلى العيش داخل مجتمع. وهو ما قد بقي مستمرا بشكل أو بآخر في الفلسفة الإسلامية، وبخاصة مع الفارابي وابن خلدون، حيث لم تخرج هذه التصورات عن فرضية حاجة الإنسان إلى الآخر، من أجل تعويض النقص. إذا تجاوزنا أطروحة الدافع الطبيعي، فإن أقوى محاولة للتفكير في المجتمع هما عبارة عن رؤيتين اثنتين مهمتين، يقدم الأولى الفيلسوف الألماني، والمنظر الاشتراكي فريديريك إنجلز، في كتابه «أصل العائلة والملكية والدولة». والرؤية الثانية هي لعالم الاجتماع الفرنسي، إميل دوركهايم في حديثه عن أشكال التضامن الاجتماعي في «تقسيم العمل الاجتماعي». وكلتاهما وجهة نظر، وإن كانتا مختلفتين، إلا أنهما تبقيان مهمتين، وقد تتكاملان فتقدمان لنا صورة جيدة حول المجتمع وتاريخه وجذوره، وبناه الداخلية. فالطرح الأول يبحث في السيرورة الإنتاجية والاقتصادية التي دعت الناس تاريخيا إلى الاجتماع. والطرح الآخر ينتقل بنا إلى المجتمع ذاته، ويبحث بطريقة حول الأسباب والسبل التي تجعل الأفراد ينتظمون فيما بينهم، كاشفا عن الرابطة الاجتماعية.
مر الإنسان في مسير بحثه عن المجتمع بمراحل متعددة؛ فقد بدأ أولا يعيش في الكهوف من الغابات الاستوائية وغيرها، ويسكن أحيانا الأشجار. هذا النمط القاسي من الحياة سيجعل الحديث عن المجتمع ضربا من المستحيل. لكن الإنسان سيتطور بعد ذلك إلى استخدام الأسماك والحيوانات المائية في الطعام، واستخدام النار في طهي الطعام؛ ما سيدفعه إلى تتبع السواحل بحثا عن الأسماك، فمهد له ذلك أن ينتشر في الجزء الأكبر من سطح الأرض، فلما استطاع اختراع القوس والسهم، وأصبحت ثمار الصيد عنصرا أساسيا في الطعام، يضاف إلى ذلك تمكنه من صناعة المعاول الحجرية، والقوارب المحفورة في الخشب، سيصبح مؤهلا أكثر للاستقرار في قرى معينة. يتقاطع مع التطور الذي يقدمه إنجلز على مستوى أنماط الإنتاج، تطور آخر لا يقل أهمية على مستوى العائلة ونظام القرابة. وهو ثاني عامل يفسر إنجلز من خلاله تطور المجتمع.. ستتطور العائلة من المشاعية الجنسية، حيث تكون العلاقات الجنسية مباحة بين الجميع، ما عدا الآباء وأبناءهم، إلى تطور على مستوى المنع، وبخاصة بين الإخوة؛ ما سيساهم في حدوث طفرة اجتماعية جد مهمة، ستساعد في ظهور القبيلة التي ستعطي، بعد ذلك، المدينة، لما سيعمل كل أخ على تأسيس نواة لأسرته الخاصة. ولأنه كان من الصعب على الأسرة الواحدة أن تنشئ قوة، فقد كان الانضمام تحت عشيرة واحدة مهما جدا في هذه المرحلة. بعد ذلك ستتطور الأمور وتزداد مسألة التحريم اتساعا، حتى يصبح من حق كل رجل امرأة واحدة فقط، كما ستتطور العائلة كثيرا مع القدرة على استئناس الحيوانات؛ مما سيؤدي إلى نمو الثروة الحيوانية، وبالتالي سيصبح من الضروري أن تتمدد العائلة، فيكون آنذاك أول انقلاب ذكوري لما سيصبح بإمكان الرجل الزواج من نساء أخريات تقوية للعائلة، ومسايرة لتطور الثروة الحيوانية. هنا ستظهر كذلك الملكية الفردية، وأول تقسيم طبقي في التاريخ بتعبير كارل ماركس، بين الرجل والمرأة. وسيزداد الأمر حدة أكبر مع استعمال الخيول في التنقل والغزو، وسيصبح الصيد الذي كان حرفة بمثابة هواية. هنا سيظهر الزواج الواحد، والعائلة الممتدة ذات القوة الاجتماعية والاقتصادية. لكن وجهة النظر هذه، وإن كانت مهمة جدا، إلا أنها تبقى غير كافية؛ لأن الناس لا توحدهم فقط علاقاتهم الاقتصادية وأنظمة القرابة. الدليل على ذلك هو أن المجتمعات الحديثة، انحلت فيها البنى التقليدية للقرابة، وأصبحت أنظمة الإنتاج غير قادرة على التأثير في أي بناء اجتماعي، حيث أصبحت الفردانية هي الخاصية المميزة لهذه المجتمعات.
هنا من الضروري أن نرفق التصور الذي عايناه لدى إنجلز، مع ما يقدمه إميل دوركهايم في «تقسيم العمل الاجتماعي»، لنتعرف على الأسباب التي ستجعل هذا البناء مستمرا، ونتعرف كذلك على الأسس التي ستنظم العلاقات بين أفراده. بالنسبة لعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم، فإن الناس يتحدون عن طريق الروابط الاجتماعية التي تقوم فيما بينهم، فما إن تتشكل جماعة معينة، إلا وتتكون فيما بين أعضائها لُحمة تتقوى عن طريق القواعد، والمعايير، والأخلاق التي يشكلونها. وتشكلهم من الناحية الواقعية والوجدانية لتسيطر عليهم بصفتها ضميرا جمعيا، الضمير الجمعي هو عبارة «مجموعة من المعتقدات والعواطف المشتركة بين الأعضاء العاديين في مجتمع معين، تشكل النسق المحدد لحياتهم». الضمير الجمعي هو كيان حقيقي مستقل، يقوم بإشعاع قهره وتأثيره في عقول الأفراد الخاصة، هو كائن نفسي جديد، متميز عن الشعور الفردي، رغم أنه لا يمكن أن يتشكل إلا عن طريق هذا الشعور، من هنا تنشأ الأخلاق، والقناعات والأديان. فالأخلاق هي قواعد الجماعة، والدين بصفته ممارسة لا يبقى مجرد طقوس خارجية، وإنما هو كذلك أحاسيس داخلية يحملها الإنسان داخله. يترسخ الضمير الجمعي في الوجدان إلى حد نعتقد معه أنه في طبيعتنا، وجزء لا يتجزأ من كينونتنا. وتتطور سيرورة اندماجه عن طريق التربية والتنشئة الاجتماعية، حيث يعمل على تأسيس فكر الجميع، فيصبح الكل واحدا. هنا لا يكون الفرد فردا، بل كائنا منصهرا في الجماعة، على الرغم من أن هذا الكل لا يمثل مجموع الأجزاء، بل شيئا آخر تختلف خواصه عن الخواص التي تحمل أجزاءه الداخلية، وهو ما يشكل الإنسان بخصائصه المادية والروحية والعقلية والاجتماعية.
كما أن الناس في نظر دوركهايم يتحدون عن طريق أشكال تقسيم العمل التي تتم فيما بينهم، ففي المجتمعات التقليدية يسود بين أفرادها تضامن آلي يتميز بالبساطة والسذاجة. فالأفراد في المجتمعات التي يسود فيها هذا النوع من التضامن يكونون جد متشابهين؛ لأنهم يشتركون في القيم والمشاعر والمعتقدات نفسها، حيث يتوطد الشعور بالنحن. فهذه المجتمعات لا يمكن أن تتوطد إلا عن طريق التشابهات القائمة بين أفرادها، وكل تباين بينهم إلا ويهدد النظام الاجتماعي بأكمله. ويجب مواجهته بالعقاب والقصاص. هنا يكون الضمير الجمعي مترسخا وقويا جدا. أما التضامن العضوي، فيقوم بالأساس على تقسيم العمل والتخصص المهني الدقيق، الذي يؤدي إلى اختلاف الأفراد، ويؤدي إلى ضعف العلاقات الاجتماعية بينهم، وتنتشر الأنانية والفردية. ولكن رغم اختلافاتهم، يتكون مجتمع هو المجتمع الصناعي الحديث، الذي يعتمد على القانون الذي يعيد النظام في حالة الفوضى، بإعادة الحق إلى أصحابه. وإذا كان الضمير الجمعي مهما جدا في التضامن الأول، فإنه يصبح من دون أي أهمية هنا.
الخلاصة العامة من هذا الطرح، هي: أن المجتمعات قامت منذ القدم لدواع اقتصادية، حيث إن التعاون وتطور أشكال الإنتاج، قد لعب دورا حاسما في نشأة المجتمعات عبر التاريخ، لكن رغم كل شيء، فهذا يبقى عاملا غير كاف، هنا يتدخل القانون، والمعتقدات والقيم التي تجعل لهذا البناء غاية وهدفا ومعنى، هكذا قامت كل المجتمعات عبر التاريخ تسن التشريعات والقواعد التي تنظم العلاقات القائمة فيما بينهم، وتجعلهم قادرين على العيش في أمن وأمان بناءً واحدا متراصا. فيتشكل الناس من حيث حاجياتهم اليومية والبيولوجية، ويتشكلون كذلك من خلال حاجياتهم النفسية والمعنوية.

* أستاذ فلسفة



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.