«في فمي لؤلؤة».. حجر العاطفة والتاريخ في أزمنة منسية

ميسون صقر تستنطق حفريات اللؤلؤ في مغامرة سردية

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

«في فمي لؤلؤة».. حجر العاطفة والتاريخ في أزمنة منسية

غلاف الرواية
غلاف الرواية

رواية التحديات والأزمنة المتراكبة، يتصدر هذا الإحساس بقوة مشهد قراءتي لرواية الشاعرة الإماراتية ميسون صقر «في فمي لؤلؤة»، الصادرة حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، وهي الثانية لها بعد روايتها «ريحانة» في عام 2003.
تبرز فكرة التحدي منذ الخيوط الأولى للرواية، في ترك «شمسة» حقل الدراسة بعد خلاف بينها وأستاذها معلم الأنثربولوجيا حول طبيعة البحث التي تنوي به مواصلة الدراسات العليا بالجامعة، ورفضه خطتها لإنجازه، متهمًا إياها بالانسحاب من الكتابة الأكاديمية الرصينة المجردة إلى «كتابة بلا عظم».
ورغم حبها الدفين لأستاذها، الذي يظل يومض بخفة في جنبات الرواية، فإن شمسة تنتصر لحكايات جدتها عن الذاكرة القديمة للمكان، التي تذكرها بجزء حي من تاريخها الشخصي هناك في تلك البيئة الإماراتية التي شهدت تفتح عينيها على الحياة، كما تنتصر لحواديت الجدة نفسها عن عالم الصيادين ورحلات الغوص في مياه الخليج بحثًا عن اللؤلؤ. ويتحول كثير من هذه الحواديت، بما تحمله من دلالات ورموز إلى طاقة حية، لإثارة الدهشة والأسئلة على مدار الرواية الحاشدة بفصولها الستة وصفحاتها التي قاربت على الستمائة صفحة، ومكابدة كتابتها ومعايشتها على مدار 7 سنوات مضنية من التقصي والنبش، والبحث في حفريات اللؤلؤ عبر وثائق ورسائل ومتون وهوامش، وأساطير، وحكايات متناثرة في فضاء التاريخ والجغرافيا، وخطى البشر وأحلام الغواصين، وصراعات العيش وسط عواصف البحر والطبيعة، ومواجهة مخاطر الموت بالأغاني والشعر والمواويل الشعبية، وغيرها من المقومات السردية والفكرية، الذي يزخر به نسيج الرواية الخصب، ومن بينها مساءلة فكرة الكتابة نفسها، هل هي ملاحقة لأزمنة انقضت، واستشراف لأزمنة أخرى آخذة في التفتح والنهوض، أم هي سلاح الذات لمقاومة الموت والإحساس بالذبول. تشير شمسة إلى هذه الهواجس في مقطع دالٍّ من الرواية قائلة: «كلما كتبت مات أحد، وكلما فكرت فيه مرضتُ، كلما شرعت في الكتابة بدأ أحد من أسرتنا في الغياب.. ها أنا أعاود قتل عائلتي، ولا أقتل الكتابة». وإمعانًا في مناورة السرد واللعب مع الكتابة لا تكتفي الكاتبة بغواية صيد اللؤلؤ ومغامرة الغوص في عوالمه القصية، وإنما تضيف لهذه المغامرة غواية الصورة، مستفيدة من خبرتها كفنانة تشكيلية في تصميم الغلاف، فتدفع بصورة للممثلة الشهيرة مارلين مونرو لتتصدر واجهة الغلاف، وهي ترتدي عقدًا من اللؤلؤ الصناعي، بينما يتناثر على وجهها خريطة قديمة لمنطقة الإمارات مشكِّلة غلالة نصية وفنية، ينضوي تحتها كثير من الرموز والدلالات، ما بين زمن أصبحت غوايته الطبيعية فوق رف التاريخ، وآخر يتشكل منه بشكل هجيني، لكنه في صدارة المشهد.
وعلى ذلك، تسلط الرواية الضوء على تاريخ الحياة في مجتمع دولة الإمارات، وتحديدًا إمارة الشارقة، مسقط رأس الكاتبة، ناسجة من تلك الوقائع، لا سيما صيد اللؤلؤ وحكايات الغواصين وتراث البيئة بأعرافه وتقاليده وعاداته شبكة للسرد والحكي، تتحرك في شكل ضفائر سردية متعددة ومتراكبة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وعاطفيا. ورغم أن قوسي البداية والنهاية مرتبطان بمهنة الغوص وصيد اللؤلؤ، ورصد تحولاتها ولحظات أفولها وانهيارها، خصوصًا بعد ظهور اللؤلؤ الصناعي، واكتشاف النفط، وبداية نشأة الدولة الحديثة، وتغير منظومة الصراع، ونظرة الغرب لمنطقة الخليج، رغم كل هذا لا تضع الرواية ثوابت وفقًا لمسار تاريخي محدد، وإنما تحاول استنطاق الماضي في الحاضر، الخاص في العام، متخذة من إيقاع الموجة محورًا لفضاء رحلتها، بين أزمنة وأمكنة متنوعة، تنحسر وتغيب، لكنها سرعان ما ترتد إلى الشاطئ. شاطئ الكتابة، وفوق ترابه تستدعي الكاتبة الساردة على لسان أبطال الرواية قصصا وحكايات ومواقف لبشر ومستعمرين وثورات، كما تتكشف لها في طوايا السرد رسائل ووثائق لرحالة ومستشرقين، بعضها ابن ماض لم يزل نبضه حيًا، وبعضها ابن حاضر لا يستطيع أن ينطق باسمه، فبجوار الشارقة، الرحم الأم للرواية، وعبر مناخاتها المشدودة كحلم معلق ما بين الوهم والواقع، تتنقل الرواية ما بين الهند، وكينيا والقاهرة، مقر إقامة «شمسة» ومرتع صباها وأحلامها ودراستها، أيضًا هناك نمط الحياة في البادية ومواسم الصيد وخيام الصيادين ومفردات حياتهم الضحلة الفقيرة، كما تتنقل بين الحصون، حيث مقر الحكم، وحياة الشحوح في الجبال، حيث المراعي المفتوحة وحظائر الإبل.
هناك نسق سردي مشرّب بمسحة تاريخية، لكنه لا يتعامل مع التاريخ كحقيقة مكتفية بذاتها، وإنما يطرحه كسؤال ممتد في الزمان والمكان، في رحم الرواية والواقع معًا، وهو ما يضفي على الكثير من شخصيات الرواية طابع التشكيل الحلمي أو الملحمي، الذي يقترب كثيرًا من مصاف الأسطورة، وعلى نحو خاص، شخصية «مرهون» الغواص الأمهر، بطل الرواية الرئيسي، حيث يتداخل في أبعادها الواقعي بالتخييلي، الحضور بالغياب. لكن مرهون يظل في كل تحولاته تجسيدا لشفرة إنسانية غامضة، تراوح بين زمنين، زمن الماء وزمن اليابسة، زمن الغوص بحثًا عن اللؤلؤ من أجل لقمة العيش، وزمن الغوص في طوايا الروح والجسد والطفولة بحثا عن مساحة نقية لتقلبات العاطفة والحب والارتواء.. «جرتني قدماي إلى الخارج عند البحر، لأرى إن كان مرهونًا هناك، هل سيحدثني البحر؟ جلست قليلا أنتظر شيئا ما لا أعرفه، وأفكر في وليم ومسعود وعالم السفينة.. ندهت: يا مرهون يا مرهون، لم يسمعني!، كل ما فعله أنه أزاح الفطم الذي يغلق أنفه به، ثم مسح الماء من على وجهه، أفرغ سلة المحار، تنفس عميقا، وغطس ثانية».
يشكل مرهون زمن الرواية الخاص الداخلي الحميم، فهو صائد اللؤلؤة الساحرة النادرة، التي بسببها قامت حروب ومطاردات، كما أنه في كل تجلياته لا يتخلى عن ذاتيته وروحه المفطورة بالصدق والتلقائية.
ومن ثم، تنمو الرواية دراميا بقوة التاريخ والعاطفة معا، التاريخ في إطاره السياسي الاقتصادي الاجتماعي للمنطقة ومنحنيات التحول من عالم التجارة إلى الزراعة والصناعة في حياة البدو والمدينة.
والعاطفة، في حزمة من الأحلام المؤجلة والمعطلة، سواء في علاقة شمسة بأستاذها، أو في بحث مروة صديقتها ورفيقتها في الرحلة، عن علاقة حميمة صادقة، تعول عليها اجتماعيا في تغيير مسار حياتها البائسة، أو في علاقة آمنة بمرهون، التي تتحول إلى مشهد تراجيدي محفوف بالغدر والهروب والخيانة، حيث تلقى مصرعها على يد يوسف «زوجها» سارق اللؤلؤة الثمينة، وكذلك في علاقة وليم الرحالة المصور بفيكتوريا الممرضة الإنجليزية، فرغم أنها تكبره بسنوات، فإنه أصبح يمثل لها الرمق الأخير في التشبث بالحياة، لا سيما بعد موت زوجها القبطان الشهير ورحيل ابنتيها عنها. أو في حنين شمسة الدائم لفضاء العائلة، وصورة الجدة والأب والأم.
إنه حجر التاريخ والعاطفة، فوقه تتعدد عوالم هذه الرواية، وتتنوع أسئلتها في مدارات مشربة بروح الملحمة، فالتاريخ حكّاء بطبعه، لكن قراءته من قبل المؤرخين والمختصين قد تنحي العاطفة جانبًا، لكنه في عين الكاتب الروائي، وتحديدًا هنا في هذه الرواية مادة قابلة للحكي، لا يمكن أن نجردها من العواطف والرؤى والانفعالات التي تتحول في تقنيات القص إلى إشارات وعلامات ورموز، من خلالها يتم استدعاء التاريخ، بقوة الماضي والحاضر والمستقبل معًا.. اللافت أيضًا أن التاريخ بكل تداعياته وثقله وخفته، لا يمثل خصوصية المكان، بل يشير إليه بشكل عابر، بينما يحفر هذه الخصوصية ويدل عليها الشخوص بكل مسارب حياتهم الخشنة المجدبة، وأحلامهم العادية البسيطة في غد أكثر أمنًا، يوفر لهم الحد الأدنى لحياة كريمة، لا يشعرون في كنفها أنهم مجرد عبيد للقمة عيش بالكاد تكفي لوجودهم أحياء فوق سطح الحياة.
هو إذن تاريخ من الغبن واللؤلؤ، هكذا تصفه الكاتبة على لسان أمها، وهي ترى العقد الذي أهدته لها الجدة، يتألق في عنقها بلؤلؤته الفريدة الساحرة التي اصطادها مرهون.. «تنظر إلي وهي تقول إنه شرف لي أن أحمل تاريخا للوجيعة يا حبيبتي».
هذا الوجع يتناثر في جسد الرواية كعصارة حية لخبرة حياة، تحاول أن تكشف عن معناها الأعمق والأشمل في واقع لم يعد مغلقًا على ذاته، يتجسد ذلك عبر مقومات نصية وفنية تتمتع بحيوية فائقة، ولغة سردية سلسلة، يمتزج فيها الفصيح بالعامي الشفاهي أحيانًا، كما أن عالم اللؤلؤ نفسه يتحول إلى قيمة معرفية إنسانية، فالرواية تجعلنا نعايش هذا العالم، ونلمس رذاذه ورائحته، وعرق الصيادين وهواجسهم، وساعات نومهم وأكلهم وشربهم، في كل مراحل الغوص، وذلك خلال حرفية عالية في الوصف والتدوين لنثريات الحياة، سواء فوق مركب الصيد في البحر، أو في طقوسها والاستعداد لها على البر.. وهو ما نرصده على هذا النحو في لقطة من مشاهد الرواية: «قبل الفجر بلحظات ينتبه الغواصون جميعًا، ويبدأون يومهم، تبدأ الجلبة في السفينة حتى يعم الظلام ليلاً، وتهدأ الحركة، فيجلسون في شبه حلقات، يفلقون المحار الذي اصطادوه في النهار أو محار اليوم السابق، الذي يكون قد مات الكائن المحاري داخله، وهم يغنون، ويلقون القصيد ويتحاورون». وبالعصارة النصية نفسها يتحول الوصف إلى ما يشبه الاستبطان الداخلي، لما تنطوي عليه الشخوص من رؤى وعواطف ومشاعر وانفعالات، في أقصى لحظات الحياة حزنا وألمًا، وأقصاها صخبًا واستمتاعًا بشواغل الروح والجسد.
نحن أمام نص روائي حمال لروايات ونصوص كثيرة، تفيض عنه في علاقة صاعدة دراميًا وإنسانيًا بشكل تلقائي: هناك نص مرهون والبحر وآمنة، هناك نص شمسة وأستاذها وتحولات فكرة الكتابة وإثبات الذات بقوة الفكرة نفسها وضعفها الإنساني أيضًا، هناك علاقة وليم بفيكتوريا، و أيضًا صوره ورسائله المهمة سواء للمعتمد البريطاني أو لصديقة جيرارد رفيقه في بعثته إلى أفريقيا، وهي رسائل توثق لكل شيء في الخليج حتى علاقات النساء.. هناك علاقة كاترين ابنة فيكتوريا، التي تتنكر في شخصية قبطان وتقود بالفعل إحدى السفن بالخليج، وتستضيف آمنة على متنها، هناك حكاية اللؤلؤة الفريدة التي جلبها مرهون، وكيف سُرِقت من على السفينة، وانتهى بها الحال في عقد ثمين تتوارثه أم شمسة عن جدتها، هناك معرض اللؤلؤ، ورسائل وليم بعد أن عثر عليها، وغيرها من النصوص التي خلقت لها هذه الرواية باقتدار مجالات إدراك ومعرفة جديدة، ووثقت لتراث اللؤلؤة بكل أنواعه وأشكاله وحكاياته في شتى حدوسات المعرفة الإنسانية، كتاريخ للجمال والغبن أيضا.. أو كما تقول شمسة في رسالة أخيرة لأستاذها في ختام الرواية: «لم أكن أكتب بحثا، كنت أبحث عما أكتبه، وأستشف الحياة في رشفها اللؤلؤ الكامن في المحار، ويشي بكل عنف وعشق، لقد تركت الحزن ينهشني لعدم تفهمك، لكن قصة الحياة سحبتني إليها».



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لواحدة من أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذا العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى أن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفعالية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني وتستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقة تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسنح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

ومن جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين من أن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق كمكان لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».