التيه ومأزق البحث عن الهوية

التطبيع والتعايش بين الأديان والقوميات في رواية فلسطينية

التيه ومأزق البحث عن الهوية
TT

التيه ومأزق البحث عن الهوية

التيه ومأزق البحث عن الهوية

يقتضي تحليل رواية «والتيه والزيتون» للروائي الفلسطيني أنور حامد المقيم بلندن حاليًا أن نتوقف عند بعض التقنيات التي يعتبرها مسلمات أساسية في الكتابة الإبداعية فهو يفرق بين الروائي والراوي ولا يعتبرهما شخصًا واحدًا، فالأول مجرد ناقل محايد للأحدث بينما الثاني مشارك في صناعتها، لكن تبرئة ذمة الروائي لا تلغي إمكانية تلمس رؤيته الفنية والفكرية في صياغة العمل الأدبي برمته.
يدعي الكاتب أيضًا أن هذه الرواية هي من صنع الخيال لكنه يستدرك حضور الواقع فيها بعد تمثله، وإعادة صياغته من جديد وكأنه يريد القول إن أحداث الرواية منبثقة من الحيز الضبابي الفاصل بين الحقيقة والخيال.
قد يتبادر إلى الذهن أن البطل الرئيس في هذه الرواية هو الراوي منير حمدان الذي يأتي من لندن إلى حيفا لإحياء أمسية ثقافية وحفل توقيع لروايته الجديدة لكننا نكتشف لاحقًا أن جمال أبو سالم، ضابط الأمن في المطار، سوف يختطف من الراوي جزءًا كبيرًا من بطولته، تمامًا كما تختطف زوجته أمل قسمًا كبيرًا من الأضواء المسلطة على حبيبته سمر آخذين بنظر الاعتبار أن الهيكل المعماري للرواية يقوم على هذه الشخصيات الأربع تقريبًا، دون أن نقلل من أهمية الشخصيات الثانوية المؤازرة التي كانت تظهر وتختفي على مدار النص الروائي.
يراهن أنور حامد في رواياته الست على الثيمات الحساسة التي تحتاج إلى نوع من المجازفة التي لا يقدم عليها إلا كتاب شجعان من طراز غسان كنفاني وأميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا، ولعل سؤال الهوية هو أبرز ثيمة من ثيمات النص المتعددة، فهو يتوزع على جميع الشخصيات تقريبًا لكننا آثرنا الاكتفاء بردود فعل الشخصيات الأربع المشار إليها سلفًا على سؤال الهوية، وطبيعة الانتماء لهذا الطرف أو ذاك.
تتوفر الرواية على حبكة قوية لكن هذه القوة تهتز في بعض الأحيان بسبب سلوك الشخصيات النسائية، وبالذات سمر وأمل وسلوى اللواتي يقفزن على الواقع العربي المعروف بثوابته الدينية والاجتماعية والأخلاقية. وبغية تتبع تطور الشخصيات، ونمو الأحداث لا بد لنا من إمساك خيط الحبكة من أوله. فحينما يصل الراوي منير حمدان إلى مطار تل أبيب يستجوبه ضابط الأمن جمال أبو سالم الذي يتحدث بلغة عربية سليمة، ثم يختم جوازه ويتمنى له إقامة ممتعة في إسرائيل. لم يتوارَ جمال تمامًا، بل سيظهر في المحاضرة، ويطلب من منير أن يوقع له الرواية التي سيقرأها في يوم واحد، ثم يطلب مقابلته من جديد، ويأخذه إلى المنزل، بعد أن منعوه من دخول نادٍ خاص مقتصر على الأعضاء، وهناك يتعرف على زوجته أمل، المسلمة السنية التي تعد أطروحة الدكتوراه عن موضوع «الأدب النسائي العربي». وسوف يكون للطرفين (أمل وجمال) دور في تطور الأحداث وتفاقمها، خصوصًا بعد أن نعرف أن جمال درزي والدروز، كما هو معروف، لا يجدون حرجًا في الالتحاق بالجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية التي تفتك بالفلسطينيين.
لم يبدأ أنور حامد روايته بداية تقليدية من وصول منير إلى مطار تل أبيب وإنما استهلها بلقاء هذا الراوي مع سمر القارئة الشغوفة التي قرأت كل رواياته، وحاولت أن تحضر بعض أمسياته في يافا ورام الله العام الماضي لكنها فشلت لذلك أصرت على لقائه هذه المرة وأخبرته بأن «هوايتها المفضلة هي السباحة عارية على شاطئ حيفا في ساعات الفجر الأولى». لا شك في أن هذه الجملة مثيرة وتكشف عن جرأة صاحبتها المتحررة التي تمتلك شخصية قوية تريد أن تتمرد على الأسرة والقبيلة والمجتمع. ولا تجد ضيرًا في ممارسة الحب مع منير الذي يكبرها بثلاثين عامًا، وتريد أن تتزوجه وتسافر معه إلى لندن، خصوصًا أن والدها رفض تزويجها من شخص مسيحي تقدم لخطبتها. ترى، هل يمكن تصديق هذا السلوك الجنوني على المستويين الفني والواقعي علما بأنها مهندسة معمارية وتنحدر من عائلة فلسطينية مسلمة لا تستطيع أن تتجاوز الثوابت الأخلاقية المعروفة بحجة نزوة عابرة؟ تتكرر هذه اللقاءات الإيروسية غير مرة إلى أن يضبطها الوالد وهي تتسلل من غرفتها في أول الفجر فيمنعها من الخروج من المنزل أو الذهاب إلى العمل حتى يعود هذا الضيف الثقيل إلى منفاه.
على الرغم من أن شخصية أمل الفلسطينية المسلمة التي تحدت الأعراف الاجتماعية واقترنت بجمال أبو سالم، ضابط الأمن الدرزي، وقبلت أن تعيش مغتربة ومعزولة عن أهلها وأهل زوجها في آنٍ معًا، إلا أنها انفتحت كثيرًا على منير وجازفت بحياتها الأسرية مرات كثيرة بطريقة لا يقبل بها العقل والمنطق، ولعل محاولتها الأخيرة بتهريبه إلى الضفة هي خير دليل على تهورها الذي سيفضي بها إلى الطلاق وتقويض حياتها الأسرية.
تفاجئنا الناشطة سلوى بحجابها وعدم مصافحتها للرجال أول الأمر لكنها تطلب من منير لاحقًا أن يأتيها بكأس من الجعة، ثم تقبله قبل أن تغادر الفندق تاركة إياه يترجح بين الدهشة والذهول. كان على الروائي أو الراوي نفسه أن يفلتر مواقف النساء الثلاث على الأقل، وأن يجعل تمردهن في حدوده المعقولة التي لا تثير استغراب القارئ العربي الذي يعرف سلفًا البئر الفلسطينية وغطاءها.
لم يشعر منير بالدونية وهو يتمشى في شوارع إسرائيل، لأن جوازه البريطاني قد منحه الإحساس بالندية على العكس من جمال الدرزي، الذي منعوه من الدخول إلى النادي الخاص على الرغم من بطاقته الأمنية وإخلاصه التام لوظيفته. فمأزق الهوية يمتد من أمل المغتربة في تل أبيب، إلى جمال الدرزي، وإلى كل الفلسطينيين الذين تعايشوا مع اليهود في إسرائيل.
حاول أنور حامد أن يتوقف عند معظم القضايا الإشكالية مثل التطبيع، وطمس الهوية التاريخية لبعض المدن الفلسطينية، وملاحقة الناشطين وما إلى ذلك. ولقد نجح فعلاً في الإحاطة بعدد غير قليل من الموضوعات الحساسة أو المسكوت عنها مثل التعايش بين الأديان والقوميات خصوصًا حينما تكون الأوضاع هادئة.
تعالج الرواية في جانب منها النظرة الفوقية لبعض الفلسطينيين من سكان المدن تجاه الناس البسطاء من سكان القرى والأرياف في قلنسوة والمثلث ومدن الضفة برمتها، ويكفي أن نقتطف من حديث والد سمر الجمل الآتية التي يقول فيها: «شفتيهم على شواطئ تل أبيب، بدخلوا بالبحر بأواعيهن، وبيقعدوا يتغدو عالشط بيتركوا وراهن مزبلة!» (ص151). وعلى الرغم من نبرته الانتقادية اللاذعة، فإننا لا نستطيع أن نشكك في وطنيته فهو فلسطيني حتى النخاع وهناك كثير من المواقف التي تؤكد صحة ما نذهب إليه.
لا يفلح الراوي في اختراق الحدود كي يلتقي بأمه المريضة التي دخلت في مرحلة الغيبوبة ولم تعد تتذكر أحدًا. وحينما واجهت الأم مصيرها المحتوم قررت أمل أن تهربه إلى الضفة مهما كانت النتائج، لكن زوجها جمال كان يلاحقها وقبل أن يصلا إلى معبر «جبارة» قرب مستوطنة عناب حدث ما لا تحمد عقباه، إذ صفعها بقوة أمام منير وحذره من التدخل، لأنه سبب كل المصائب.
وقبل أن يعود الراوي إلى بلده تكتب له سمر على «الماسنجر» بصيغة استفهامية مفادها: «هل فعلاً صدقت أنني أحببتك؟»، ثم نكتشف أنها كانت تحب مجازاته، وكانت مبهورة بكتاباته وجنونه وفوضاه لا غير!



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لواحدة من أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذا العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى أن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفعالية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني وتستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقة تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسنح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

ومن جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين من أن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق كمكان لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».