انقسام بين المثقفين السعوديين بعد اعتماد اللائحة الجديدة للأندية الأدبية

مثقفون أبدوا ملاحظات.. وآخرون وجدوا أنها تدفع العمل الثقافي للأمام

أعضاء جمعية عمومية في أحد الأندية الأدبية.. التصويت للكفاءة أم الفئوية
أعضاء جمعية عمومية في أحد الأندية الأدبية.. التصويت للكفاءة أم الفئوية
TT

انقسام بين المثقفين السعوديين بعد اعتماد اللائحة الجديدة للأندية الأدبية

أعضاء جمعية عمومية في أحد الأندية الأدبية.. التصويت للكفاءة أم الفئوية
أعضاء جمعية عمومية في أحد الأندية الأدبية.. التصويت للكفاءة أم الفئوية

أحدثت لائحة الأندية الأدبية في السعودية، التي اعتمدها أمس الدكتور عادل بن زيد الطريفي، وزير الثقافة والإعلام، جدلاً في الساحة الثقافية، أسوة باللائحة السابقة التي اعتمدت في السابع من مايو (أيار) 2011.
ففي حين اشتكى مثقفون من أن اللائحة الجديدة لا تختلف في جوهرها عن اللائحة السابقة، لاحظ آخرون أن الفروقات التي تضمنتها اللائحة الجديدة جاءت شكلية ولا تراعي التطور الهام الذي شهدته المملكة، ويعيشه المشهد الثقافي السعودي.
رؤساء وأعضاء أندية تحدثوا لـ«الشرق الأوسط» ولاحظوا أنها تؤسس لتطور في أداء النشاط الثقافي، وتطلق العنان للمثقفين لكي ينهضوا بمؤسساتهم الثقافية، على أساس المشاركة، خاصة أنها أقرّت مبدأ تشكيل مجالس إدارات الأندية على أساس الانتخاب.
وترسم اللائحة الجديدة المكونة من 18 مادة، أهدافا رئيسية لعمل الأندية الأدبية وهي: خلق بيئة أدبية تفاعلية منتجة. ونشر الأدب باللغة العربية الفصحى. وإبراز واقع الأدب وتاريخه في نطاق النادي خاصة وفي المملكة عامة بما يعزز الانتماء الوطني. وتوثيق أواصر الصلات الأدبية بين الأدباء. والتعاون مع الجهات ذات الصلة. واستقطاب المواهب الأدبية الشابة ورعايتها وتشجيعها. وتمثيل الأدباء أمام الجهات ذات العلاقة فيما يتصل باختصاصات النادي. ودعم المبادرات الأدبية والثقافية ذات الصلة.
قلّصت اللائحة الجديدة وظائف الهيئة الإدارية للأندية، فألغت منصب نائب الرئيس وأبقت على رئيس النادي (رفعت مكافأته إلى 5000 ريال) شهريًا، والمسؤول الإداري (أصبحت مكافأته 4000 ريال) شهريًا، والمسؤول المالي (مكافأته 4000 ريال) شهريًا. كما أحدثت تغييرات في مكافآت أعضاء مجلس الإدارة (600 ريال لكل جلسة، بعد أن كانت 750 ريالا لكل جلسة). وقلّصت رسوم العضوية، فأصبحت عضوية العامل 200 ريال بعد أن كان 300 ريال، وعضوية المشارك 100 ريال بعد أن كان 200 ريال.
وفي شرط المؤهل، نصّت اللائحة الجديدة أن يكون العضو العامل «حاصلاً على مؤهل علمي يتصل باللغات وآدابها»، وكانت اللائحة السابقة خولت مجلس الإدارة تحديد المؤهل العلمي للعضو العامل. كما حددت اللائحة الجديدة أن يكون العضو العامل «قد أصدر كتابًا أدبيا مطبوعًا أو أكثر على أن يكون مفسوحًا نظامًا»، ولم يكن شرط الفسح منصوصًا في اللائحة السابقة.
قسمت اللائحة عضوية الأندية الأدبية إلى ثلاث فئات: عضوية عاملة، وهي متاحة للسعوديين فقط ممن يقيمون في نطاق النادي، ولا تقل أعمارهم عن 25 عامًا، ويشترط أن يكونوا حاصلين على مؤهل علمي يتصل باللغات وآدابها. أو أن يكونوا قد أصدروا كتابًا أدبيًا مطبوعًا أو أكثر، على أن يكون مفسوحًا نظامًا. وأن يدفعوا رسوم العضوية.
والعضو العامل هو الذي يتمتع بحق الترشح لعضوية مجلس الإدارة «وفق ضوابط اللائحة»، ويحق له أيضا انتخاب أعضاء مجلس الإدارة، وحضور اجتماعات الجمعية العمومية، والتصويت في اجتماعاتها.
أما الفئة الثانية من العضوية، فهي عضوية مشاركة، وهي تمنح للسعوديين والمقيمين من غير السعوديين من داخل نطاق النادي أو من خارجه، ولا يقل عمر العضو المشارك عن (18) سنة، وأن يكون قد دفع رسوم العضوية.
ويتمتع العضو المشارك بمميزات دون حق التصويت على القرارات أو حق الترشيح والانتخاب.
الفئة الثالثة هي عضوية شرفية، وتمنح للشخصيات الداعمة لنشاطات النادي وبرامجه معنويًا أو ماديا، وأوكلت اللائحة لمجلس إدارات الأندية تحديد حقوق العضوية الشرفية، وشروطها بما يخدم أهداف النادي بعد موافقة الوزارة.
الدكتور عبد الله الحيدري، رئيس النادي الأدبي في الرياض، قال لـ«الشرق الأوسط» أمس، إن اللائحة الجديدة أضافت هدفا جديدا تصدر أهداف الأندية، وهو: «خلق بيئة أدبية تفاعلية منتجة»؛ مما يعني رغبة الوزارة في أن تلبس الأندية الأدبية ثوبا جديدا، مع حث مجالس الإدارة القادمة على الاستفادة من معطيات التقنية، وهذا واضح من خلال كلمة «تفاعلية».
وأضاف: إن تحقيق هذا الهدف يحتاج من مجالس الإدارات الحالية إلى تحفيز من يرون أنهم قادرون على تحقيق هذا الهدف للالتحاق بالجمعيات العمومية.
الحيدري الذي كشف لـ«الشرق الأوسط» أنه يترشح للمجلس القادم، لاحظ أنه «في شروط الالتحاق بالجمعية العمومية نصت اللائحة الجديدة على أن يكون حاصلا على مؤهل علمي يتصل باللغات وآدابها، في حين كان الشرط في اللائحة الحالية: «مؤهل علمي يحدد مستواه مجلس الإدارة»، ولا شك أن الصياغة الجديدة أدق وأوضح.
كما لاحظ أن اللائحة الجديدة تضمنت تخفيضا لرسوم الحصول على عضوية النادي العاملة والمشاركة؛ «مما يعني أن هناك معالجة للعزوف عن التفاعل مع الأندية الأدبية، وتحفيز الشباب تحديدا على الانضمام لها».
ولاحظ الحيدري أنه في اللائحة الجديدة تقديم وتأخير فيما يخص وسيلة الانتخاب، ففي اللائحة الحالية جاءت العبارة: (إلكترونيا أو ورقيا)، وفي الجديدة (ورقيا أو إلكترونيا)، ومعنى ذلك أن صياغة الجديدة نظرت إلى بعض المشكلات التي نتجت عن انتخابات عام 1432هـ، وجعلت الأولوية للانتخابات الورقية ثم الإلكترونية، وهذه نقطة في الغاية من الأهمية.
في حين قال لـ«الشرق الأوسط» حسن الزهراني، رئيس نادي الباحة الأدبي، أنه من «المؤسف جدا أن ينتظر المثقفون كل هذا الوقت وتخرج اللائحة بهذا المستوى»، وأضاف: «أرى أن التغيير فيها عن السابقة لا يكاد يذكر»، ومضى يقول: «كنا ننتظر أن تكون صلاحيات الأندية والجمعيات العمومية أكبر، وكنا ننتظر تغييرا فيما يخص النشاطات والطباعة والمكافآت؛ خصوصا مكافآت المثقفين المشاركين في النشاطات ولكنني أعتقد أنها ستتغير قريبا كالمعتاد».
أما رئيس نادي المنطقة الشرقية الأسبق، القاص جبير المليحان، فقال لـ«الشرق الأوسط»: «اعتماد اللائحة خطوة إيجابية من الوزارة، ولعلها أولى الخطوات التي ينتظرها الأدباء والمثقفون من وزارة الثقافة، بعد انشغالها عن الشأن الثقافي مدة طويلة».
وأضاف المليحان: «لعلنا نذكر الوزارة بمتابعة تطبيق اللائحة بشكل سليم، خاصة ما يتعلق بالعضوية، وانعقاد الجمعيات العمومية. وكذلك إحياء جائزة الدولة التقديرية التي ترقد في غرفة الإنعاش. وكذلك تفعيل توصيات مؤتمرات الأدباء الأربعة».
ولفت المليحان إلى «حاجة المملكة الآن وبهذا الحجم السياسي والاقتصادي والعسكري إلى اتحاد للكتاب يمثل المملكة أدبيا وثقافيا».
الشاعر وعضو نادي الرياض الأدبي، الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن الزيد، قال لـ«الشرق الأوسط»: «ستبقى الأندية الأدبية ولوائحها ومشروعاتها رهينة للفشل، لأن هذه الأندية، وكل ما يتعلق بها تفتقر إلى الاستراتيجية الثقافية التي تحفظ الحقوق وتضمن النجاح لأي نشاط ومشروع».
ورأى الزيد أن هذه اللائحة «ينقصها من حيث المبدأ التخطيط والتنظيم اللذين هما ناتج تلقائي للاستراتيجية، وينقصها من قبل ذلك السند المرجعي القوي المتمثل في الوزارة.. وما رابطة الأدباء عنا ببعيد في هذه المسألة تحديدا»، وقال إن «لوائح الأندية تخضع للرؤى الفردية، ولا تستند إلى النظام الثقافي القوي»، مضيفًا: «عندما تقرأ نص اللائحة ستشدك الجمل المثالية والعناوين البراقة، ولكنها ستنتهي على أسطح مكاتب رؤساء الأندية إلى نوع من التعليمات المجانية التي ليس لها أي رصيد». وقال عبد الجليل الحافظ، من نادي الأحساء الأدبي، إن اللائحة الجديدة تضمنت شرط «المنتج الأدبي» وكذلك تم تقليص عدد الشهادات إلى حملة شهادات الآداب سواء أدب عربي أو أجنبي مما سيقلل من نسبة الدخلاء على مجال الأدب.
لكنه أضاف: «هناك بعض الأخطاء في اللائحة فهي مثلا تشترط وجود محاسب قانوني ثم تجعل الجمعية تصوت على وجوده، كما أن اللائحة أهملت وجود دور لأعضاء المجلس الآخرين غير قرارات التصويت وكان ينبغي إيجاد أدوار مسجلة ومطالبين بها لزاما»، وأضاف: «كما أن اللائحة لم تقرر مقدار الدعم الذي تتحصل عليه الأندية ولم تقر ميزانيات إدارية ومصاريف المباني للأندية».
من جهته قال الناقد يونس البدر، المحاضر في كلية الآداب بجامعة الملك فيصل، وعضو النادي الأدبي بالأحساء، شرقي السعودية: «اللائحة الجديدة تختلف بشكل طفيف جدا عن اللائحة السابقة؛ فمثلاً، اختلفت رسوم اشتراك العضويات لمبلغ أقل من السابق، كانت (300) وأصبحت (200) والمناصب الإدارية كانت أربعة مناصب (رئيس ونائب ومسؤول مالي ومسؤول إداري) والآن أصبحت ثلاثة فقط بإلغاء منصب نائب الرئيس».
وأضاف البدر: «الهاجس الأهم في الوسط الثقافي كان يتعلق بآلية تشكيل هذا المجلس وقد ظن الكثيرون أنه سيكون بالتعيين ولكن المفاجأة التي حملتها هذه اللائحة أنها أقرت آلية الانتخاب لجميع أعضاء المجلس وهذا مؤشر إيجابي يدل على ثقة الوزارة في أعضاء الجمعيات العمومية».



الهويّة... والحريّة الأدبيّة

سليم بركات
سليم بركات
TT

الهويّة... والحريّة الأدبيّة

سليم بركات
سليم بركات

ما الذي يحدّد هويّة الأدب: هل اللغة أم القضايا والمواضيع التي يعالجها؟ وهل يحقّ للأديب أن يختار لغةً غير لغته الأمّ من دون أن يُعدَّ خائناً لهويّته الثقافية؟ هل يمكن للغة وحدها أن تكون معياراً لتصنيف الأدب؟ بالنسبة للأدب الكردي المكتوب بالعربية أو التركية أو الفارسية، يواجه الكُتّاب تساؤلات حول انتماء هذا الأدب، وما إن كان يندرج ضمن الأدب الكرديّ أم أنّه يصنّف في مكتبة الأدب العربيّ أو التركيّ أو اللغة التي يكتب بها.

هذه التساؤلات تفتح الباب لنقاش أوسع حول مفهوم الأدب والحرّية الأدبية في اختيار اللغة وأبعادها، ذلك أنّ النظر إلى الأدب فقط من خلال لغة الكتابة يضيّق آفاق فهمنا لهويّته، لا سيّما في ظلّ احتدام العصبيّات اللغويّة التي تكون أصداء للصدامات السياسيّة والصراعات التاريخيّة المتجدّدة.

لا يخفى أنّ الكُرد عانوا عبر التاريخ من ظروف سياسيّة واجتماعية صعبة، جعلتْ من لغتهم وثقافتهم عرضةً للتهميش والتجاهل في الكثير من المناطق التي عاشوا فيها. هذه الظروف التاريخية كانت من بين الأسباب التي دفعت بالكثير من الأدباء الكرد إلى دراسة لغات أخرى غير لغتهم الأمّ، مثل العربية والتركية والفارسية، واستخدامها في كتاباتهم.

هذه الظروف أصبحت واقعاً مفروضاً على الأجيال المتعاقبة من الكُرد، إذ اضطرّ العديد من المثقفين والأدباء إلى الكتابة بلغات الآخرين - التي أصبحت لغاتهم الأمّ إلى جانب لغتهم الكرديّة - لتحقيق التواصل مع مجتمعات أوسع، أو حتى مع مجتمعهم نفسه، والبحث عن فرص لنشر أعمالهم في ظلّ القمع المفروض على لغتهم الأمّ.

هذه الضغوط التاريخية أثّرت على الكُرد، لكنّها لم تُضعف هويّتهم الثقافيّة أو تلغها، بل على العكس، الكثير من الكتاب الكُرد تمكّنوا من استثمار هذه اللغات الجديدة للتعبير عن قضاياهم وتجاربهم، مع الاحتفاظ بروحهم الكرديّة الواضحة في مضامين أعمالهم.

يشار كمال

عندما ننظر إلى الأدب الكرديّ المكتوب بلغات أخرى، نجد أنّه يعبر عن تجربة متنوّعة ومعقدة. الكاتب الكرديّ الذي يختار الكتابة بالعربية أو التركية أو الفارسية لا يتخلّى عن هويّته، بل يعبّر عن ذاته باللغة التي تمكّن منها واكتسب علومه ومعارفه ودراساته بها، ويبحث عن جمهور أوسع وتواصل أكبر مع العالم من خلال لغة قد تكون أداة أفضل لتحقيق ذلك. ومن هذا المنطلق، يجب الدفاع عن حريّة الأديب في اختيار لغته، وما يهمّ في هذه الحالة هو القضايا التي يعالجها الكاتب، وكيفية تناوله للتجربة الإنسانيّة.

والكاتب الكرديّ الذي يكتب بلغة أخرى لا يمكن فصله عن هويّته الكردية لمجرّد أنه لا يستخدم لغته، وهذه اللغة الجديدة تصبح وسيلة لنقل تجربته وثقافته إلى جمهور أوسع. وهنا نرى أنّ الهويّة الأدبيّة الإنسانيّة الرحبة ليست مرهونةً باللغة وحدها، بل بالتجربة والمضمون الذي يقدّمه الكاتب.

على سبيل المثال، سليم بركات، الكاتب الكرديّ الذي يكتب بالعربية - ومثله المئات من الأدباء الكرد من سوريا والعراق وأنا منهم - يظلّ وفياً لجذوره وهويّته الكرديّة، حتى وإن كانت لغته الأدبيّة هي العربية. مواضيعه ورؤيته الأدبية تعكسان ثقافته الكردية وتجربته الخاصّة في ميدان الأدب العربيّ الشاسع. ويَشار كمال، الذي كتب بالتركية، عالج قضايا كرديّة بحتة، ممّا يجعل أدبه كرديّاً في الجوهر، حتى وإن كانت وسيلة تعبيره التركية. ومن هنا فإنّ بركات وكمال وأمثالهما لا يعدون «خائنين» أو متنكّرين لهويّتهم لأنّهم يكتبون بالعربية، بل هم يستخدمون لغاتهم لتوسيع دائرة قرّائهم ونقل تجاربهم الخاصّة إلى جمهور أوسع.

من المؤسف أنّ الكاتب الذي يختار الكتابة بلغة أخرى غير لغته الأم يُتّهم أحياناً بالخيانة، أو يُنظر إليه على أنه دخيل على الأدب الآخر. هذا التفكير يغلق الأبواب أمام تعدّدية التجارب وثراء الأدب. والكاتب الذي يكتب بلغة «الآخر» ليس غريباً أو طارئاً، بل هو جزء من التجربة الأدبية العالميّة التي تجمع بين الثقافات وتتعالى على التصنيفات الضيّقة.

هنالك نوع من الازدواجيّة في التعامل مع هذه الظاهرة كرديّاً، إذ يميل بعض الكُرد إلى اعتبار الكتابة بلغة أجنبية مثل الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو الإسبانية نوعاً من «الفتح الأدبي». ويُنظر إلى هؤلاء الكُتّاب على أنّهم يحقّقون إنجازاً كبيراً، إذ يتمكّنون من الوصول إلى طيف عالميّ أوسع. وهذا يعكس اعترافاً بقدرتهم على اختراق الساحة الأدبيّة العالمية على أمل التأثير فيها. في المقابل، يُنظر إلى الكتابة بالعربيّة أو التركيّة أو الفارسيّة على أنّها نوع من الخيانة للغة الأمّ. ويُعاني بعض الكتّاب الذين يختارون هذه اللغات من ضغوطات اجتماعية وثقافيّة، إذ تُعدُّ خياراتهم بمثابة تراجع عن هويّتهم الثقافية وولائهم وانتمائهم للغتهم.

ويشعر العديد من الكُرد بأنّ العربية والتركية والفارسية تمثّل «أدوات» لإدامة التحكّم بهم وبخياراتهم الثقافيّة، إذ تُعدُّ هذه اللغات قوى مهيمنة تُلغي وتُهمّش لغتهم الأصليّة. في نظرهم، يُمثّل استخدام هذه اللغات نوعاً من الاستسلام والتبعيّة للغات الدول التي تضمّهم، ممّا يؤدّي إلى فقدان الهوية الثقافيّة واللغويّة.

تتجلّى هذه النظرة في الصراع اللغويّ للحفاظ على لغتهم وهويّتهم في مواجهة هذه اللغات السائدة، وتُساهم في تعزيز مشاعر الفقدان والحرمان الثقافيّ لدى الكرد. لذا، تعدُّ الكتابة باللغة الأمّ بمثابة دفاع عن الهويّة، في حين يُنظر إلى الكتابة بلغة أجنبية «بعيدة» وسيلةً للهروب من القيد الثقافيّ الذي تفرضه هذه اللغات الأخرى «القريبة».

بعيداً عن التصنيفات الجاهزة، فإنّ الأدب الكرديّ المكتوب بلغات غير الكرديّة يعكس التعدّدية الثقافية والتاريخية التي عاشها الكرد على مرّ التاريخ، والأدباء الكُرد الذين يكتبون بلغات الآخرين التي أصبحت لغاتهم، يعيدون تشكيل الهوية الأدبيّة عبر لغات جديدة، ويضيفون ثراءً وتنوّعاً إلى عالم الأدب بدلاً من تقليصه.

الكاتب الكرديّ الذي يكتب بالعربية أو التركية أو الفارسية لا يتخلّى عن هويّته بل يعبّر عن ذاته باللغة التي تمكّن منها

هذا التعدّد اللغويّ يعكس أيضاً واقع الكرد الذين عاشوا لقرون تحت تأثير حضارات وثقافات متعددة. بالتالي، فإن الكتابة بلغات أخرى تعدُّ استمراراً طبيعيّاً لهذه التجربة التاريخية المتعدّدة. لذلك لا يجب إقصاء الأدب الكرديّ المكتوب بلغات أخرى من هويته الكردية. فاللغة قد تكون وسيلة للتعبير، لكنها ليست المقياس الوحيد لتحديد هويّة الأدب. التجربة الإنسانية التي يعيشها الكاتب، والقضايا التي يعالجها، هي من ضمن ما يشكّل جوهر الأدب وهويّته.

لا بدّ من أن نخرج من دائرة التجريم هذه، وأن نبتعد عن وصف الكاتب بالخيانة أو التنكّر أو التعدّي لمجرّد أنه يستخدم لغة أخرى. الأدب أوّلاً وأخيراً ليس أسير لغة أو قوميّة، بل هو تعبير عن الروح الإنسانية بكلّ تنوّعها وغناها. وفي عالم الأدب، لا تقاس الأمور بتلك الحدّيّة الصِداميّة التصنيفيّة المقولبة، لأنّ الهويّة ليست سجناً أو قيداً، بل هي مساحة حرّة مفتوحة على التنوّع والاختلاف. والأدب الحقيقي يتجاوز الحدود الجغرافيّة واللغويّة ليصبح تجربة إنسانية شاملة. كما أنّ الكاتب الذي يختار الكتابة بلغة أخرى لا يتخلّى عن هويته، بل يعيد تشكيلها بطريقة تتيح له التواصل مع شرائح أكبر وتوسيع آفاقه.

ومن هنا فإنّ الهويّة الأدبيّة ليست ملكاً للغة واحدة، بل هي انفتاح على العالم وعلى التجارب الإنسانية. وإصرار البعض على تحديد هويّة الأدب بلغة واحدة أو ثقافة واحدة هو عائق أمام الحرية الأدبية وأمام انفتاح الأدب على العالم. هذه الحرّية الأدبية هي ما يجعل الأدب في جوهره حرّاً وخلّاقاً، إذ يتجاوز الحدود اللغوية والثقافية ليصل إلى جمهور أوسع ويتناول قضايا إنسانية مشتركة.

اللغة بلا شكّ تعدّ أحد مقوّمات الهوية الأساسية، وهي ركيزة من ركائز الهويّة الأدبيّة، لكنّها ليست هي الهويّة بمعناها الواسع والمنفتح. الهويّة الأدبية لا تُختزل في لغة معيّنة، بل تمتدّ إلى الأفكار، القضايا، والتجارب الإنسانيّة التي يطرحها الكاتب. والكاتب يمكن أن يحمل في كتاباته روح ثقافته وهويّته حتى وإن عبّر عنها بلغة أخرى.