الأدباء العرب المغتربون.. تابوهات متوارثة وحريات طارئة

هل يرافقهم «الشرطي» القديم في عقولهم أم يتخلصون منه؟

محمد المطرود و هيثم حسين و يوسف شحادة و أحمد ضياء
محمد المطرود و هيثم حسين و يوسف شحادة و أحمد ضياء
TT

الأدباء العرب المغتربون.. تابوهات متوارثة وحريات طارئة

محمد المطرود و هيثم حسين و يوسف شحادة و أحمد ضياء
محمد المطرود و هيثم حسين و يوسف شحادة و أحمد ضياء

هل تختلف رفة جناح الطائر حين ينتقل فجأة من قفص إلى فضاء أوسع؟ السؤال المعنوي ذاته ينطبق على موضوعنا الذي نتناوله الآن ولكن على الأدباء الذين ينتقلون من محيط عربي إلى فضاء أوسع في الغرب على صعيد الحريات في الكتابة. فهل ثمة تحولات تطرأ على كتابتهم، أم يبقى «الشرطي» ساكنًا في أدمغتهم، أم يتمردون عليه بمجرد وصولهم إلى واقع يتيح لهم التعبير بحرية أكبر؟ وكيف ينظرون إلى الأدب الذي كانوا يكتبونه سابقًا؟ وما التغيرات التي تحصل لهم بعد حصولهم على مساحات أكبر من الحرية في الكتابة؟
تلك التساؤلات نقلناها إلى أدباء عاشوا مرحلتين من الكتابة، واحدة في بلادهم العربية، والثانية في الغرب، فكيف وجدوا هذه النقلة؟
الشاعر محمد المطرود الذي غادر إلى فضاءات الغرب يتكئ على وصف جاء به إيمرسون: «الكتابة هي مجموع الأرواح السحرية في مكان ما»، ويرى أن هذه الأرواح لو حُبست وغيّبت عنها الحرية تغيب إحدى أهم ركائزها وتتحول بذلك إلى واجب وظيفي. ويعتقد محمد المطرود أن غياب الركيزة هو قتل لجوهر التلقي بحيث لا الكاتب ولا المتلقي يصلان إلى نتيجة أكثر من النتيجة التي يصل إليها كاتب العدل أو كاتب الاستدعاءات أمام المحكمة، وستكون العلاقة هنا قائمة على اللاجدوى واستهانة طرف بطرف آخر. ويضيف وصفًا آخر بقوله: «الجدار الكتيم الذي تبنيه سلطة ما والتابوهات الاجتماعية بوصف المجتمع آلة خنوع ومُسوقة لمقولات السلطة، يجعل من الرقيبين الظاهر والمستتر أكثر فعالية في تذليل الكتابة وخفضها دون المستوى، هذه الكتابة (المنضبطة) هي وسم منطقة ما - العربية مثلا - تذهبُ بنخبها وكفاءاتها إلى الانتحار المجازي الذي هو في أحد أشكاله: الاغتراب، خروج يحتمل المغامرة والفشل، قسري قبل أن يكون خيارًا شخصيًا، خصوصا في الآونة الأخيرة بفعل التفجُّرات الكبيرة».
ويعتقد المطرود بأن الفضيلة الأهم للاغتراب تكمن في التخلص من الرقيبين، وهو خلاص مشوب بما يقلل من وهجه في وضوح ذهنية المظلومية والصدمة الحضارية والحنين إلى مساقط الذكريات، وبالتالي أسر الكتابة في مساحة ضيقة بما يفعله المنتجُ هنا من مقابلات منطقية وغير منطقية بين مكانين يختلفان شكلاً ومضمونًا، غير أن هنا المساحة متوفرة لصالح حرية ظاهرة لكنها منضبطة قانونًا وليس استلابًا.
وعن تجربته الشخصية يقول المطرود: «شخصيًا تخلصت من الآخر الحسيب نحو فضاء الآخر المتلقي، فاكتسب نصي جسارة جديدة من خلال خياراته التقنية، وكذلك مواضيعه المنافسة لأدب كنا نقرأه على أنّه أدب يصنعهُ معلمون كبار. حالة التقزيم التي كنا فيها جعلتنا ننظر إلى كل مختلف عنا على أنه أكبر وأهم، أما بفعل القرب الذي نحن فيه اليوم وفرض علينا فرضًا فقد صرنا ندفع عن أنفسنا بالتي هي أحسن، وننظر إلى ذواتنا كمنتجين لا متلقين فقط، وكمعلمين وصانعي نصوص سنقرأها ويقرأها الآخر الذي نحن بين ظهرانيه الآن، نصوص أعتقد أنها لها الجَلد الكافي على الحضور والاستمرار».

التابو المقيت

الكاتب أحمد ضياء لا يبتعد كثيرًا عن قناعة سابقه، بل يبدأ كلامه بتأكيد الواثق: «بكل تأكيد للبيئة أثر كبير على حياة المثقف والكاتب بشكل عام، إذ من خلالها يمكن أن يتسلم المادة الخادم ويعجنها وفق ما تملي عليه الظروف الآنية، وكذلك وفق مرجعياته المعرفية، فلا بد على الكاتب أن ينهل عبر هذا الإطار المفاهيمي والبيئوي خميرته الأساس، وإن التكيفات التي تحدث مع ما كان أو يكون هي من الأمور الجيدة التي تحسب للكاتب، وإلا لو أنه لم يستطع أن يتفاعل مع هذه المدركات وظل ينتج في نفس الخانة أو الخطاب الذي كان ينتجه في الداخل، أي أنه لم يخرج من إطار بيئته التي تمثل بالدرجة الأولى التابو المقيت فوق عقلية وكتابات الفرد. شخصيًا أجد أن الفرد الذي لا يستطيع أن يغير هذه القولبة وهذه النمطية النسقية التي اعتاد عليها، هو كاتب أصيب بعوق فكري بحيث إنه لا يستطيع أن ينتج فضاءً جديدًا يغاير به الوضع القديم الذي كان فيه ببلده الأم، وهنا ينبغي الإشارة إلى جوهر المكان حيث الرائحة والجمال يلعبان أداء رسميًا في كينونتهما. وما تلك الكتابات التي كانت محصورة في خندق التابو والخوف إلا مراحل مران يعدها الكاتب، إذ به حالَما يخرج سينتج خطابًا مغايرًا أو موازيًا لما كان ينتجه».
ثم يعود أحمد ضياء ليستدرك بقوله: «هذا الأمر لا يعني أن كل من خرج خارج حدود الوطن هو كاتب أو شاعر أو ناقد مبدع، بل هناك استثناءات كتابية بالإمكان أن نشير إليها، والأمر هنا أيضًا عكسي، أي أنه ليس كل من بقي داخل الوطن هو غير مبدع، بل هناك ظروف حتمية هي من تحدد مواقف هذا وذلك ضمن خانات أو معطيات ترسمها خارطة الأرض وتعيد إنتاجها المرجعيات الفكرية التي يتمتع بها كل شخص، ويبقى النص سواء كتب بالداخل أو الخارج هو الفيصل الوحيد لعمل الكاتب، فمن خلاله يمكن التأشير على موهبة الفرد وتمايزه عمّا هو سائد.

التحرر من التأويل

الروائي والكاتب هيثم حسين يعتبر أنّ المكان الجديد يتمرأى بطريقة أو أخرى في الكتابة، وينعكس بدوره في الموضوعات المتناولة، ناهيك بالهموم الحياتيّة المستجدّة، ويشرح أكثر قائلاً: «ذلك أنّ التغيّر يكون بشكل تدريجيّ، لأن تفاعل الكاتب مع محيطه يكون أكثر حساسيّة من غيره، لذلك تراه يقوم بتظهير نموذج حياته الذي تغيّر في كتابته التي ستكون صدى لتلك التغيّرات. بالنسبة لي، أجد نفسي مقيّدًا بواقع بلدنا سوريا، وما يجري فيه من أهوال يعجز المرء عن توصيفها لفداحتها وفجائعيّتها، وأجد نفسي مسكونًا بالذاكرة، أعود إليها، أستقي منها وأبني عليها. هنا تحرّرت من حسابات التأويل المخابراتي ومخاوف الاستجواب ووساوس التحقيق. أذكر أنّني حين كنت في سوريا كنت أجد نفسي مضطرًّا إلى شرح بعض المقالات وتفسيرها، أو حتّى مقاطع من الروايات، لعناصر المخابرات في استجواباتهم لي، وكنت أضطر إلى تقديم إفادة لمَن لا يعترف بأيّة قيمة، لا للأدب، ولا للإنسان بذاته، وكان ذلك مثيرًا للأسى والقهر، ويحزّ في الروح والقلب. هنا لا خوف من تأويلات من هذا النوع. أتذكّر تلك الأيام التي كان رفع السقف المفروض على الكتّاب تحدّيًا، وكانت هناك جاذبيّة التعبير بعناد عمّا يقلق السلطة، لكن كانت تلك حرّية مجتزأة».
الحياة الجديدة تفرض إيقاعها وموضوعاتها وقضاياها على اللاجئ والمغترب، بحيث يجد نفسه في خانة بعينها، ويتحتّم عليه الدفاع عن نفسه، ويكون عرضة لسوء الفهم، أو التأويل، ومعرّضًا للتقييد بصور نمطيّة. ويرى هيثم حسين أن القضايا الإنسانيّة مشتركة بين الشرق والغرب، الإرهاب، اللجوء، الحرب، الحرّيّات العامّة، ناهيك بدهشة الاكتشافات المواكبة لنماذج مختلفة من البشر، كلّ ذلك يشكّل زادًا ثرًّا للتناول والمعالجة والمقاربة.
ويقول: «لكلّ مرحلة بهجتها، وسحرها، وكلّ كتابة هي ابنة زمنها. الحرّيّة المتاحة في التعبير كانت حلمًا عصيًّا على التحقّق حين كنت في سوريا، وهي مسؤوليّة كبرى هنا. أشعر بقذارة النظام الذي جاهد لحجب نسائم حرّيّة التعبير عنّا، وسعى لتكميمنا، وتعقيدنا، وإبقائنا أناسًا مكبوتين لا يجرؤون حتى على الحلم بالتعبير، لكنّ الثورة حطّمت تلك الأوهام، وفتحت نوافذ الحلم بالحرّيّة، وكان أن لجأ النظام بإجرامه الرهيب لتحويلها إلى نوافذ الجحيم».

لا يزالون يتحفظون اجتماعيًا

الشاعر الدكتور يوسف شحادة يوقن بوجود هذه التغيرات، ويقول: «لا شك أن معظم الأدباء العرب الذين غادروا أوطانهم واستقروا في المهاجر، لسبب أو لآخر، قد مروا بفترة تحولات في منطلقاتهم الفكرية، ونظراتهم إلى قضايا الوطن والعالم، هذه التحولات مشروعة، فالأديب ابن واقعه، والواقع المعيش له جبروته الذي يجر المبدع إلى مهب التغيرات». ويضيف شحادة: «عموما، الأدباء العرب يشعرون بحرية أكبر خارج عالمهم العربي، فتراهم يعبرون بتحرر كبير عن القضايا الفكرية والسياسية في أعمالهم. ولكن، إن نظرنا إلى القضايا الاجتماعية والحياتية المطروحة في إبداعاتهم وجدناها قد عولجت دون تغيرات تذكر من حيث جرأة الطرح وحرية البوح»، لكنه يرى في الأمر استثناءات: «لكي لا أقع في التعميم أؤكد أن فئة صغيرة من الأدباء العرب يمكن أن تستثنى من ذلك». ويكمل: «الموضوعات التي يخشى العرب طرحها في أعمالهم هي تلك التي تمس شخصية الحاكم العربي بسوء أو حتى بانتقاد غير عنيف، وينسحب ذلك على أجهزة الأمن أو ما يحب أن يسميه قضاء الأنظمة المستبدة «رموز الدولة وهيبتها».
وقد تكون المسائل الدينية، التي تثير الجدل، موضوعات تطرق إليها بعض الكتاب العرب خارج أوطانهم بجرأة أكبر لم يكن بوسعهم الاقتراب منها في مجتمعاتهم المتشددة دينيا أو طائفيا. ويصف المشهد بقوله: «يمكن القول إن الأدباء العرب في غالبيتهم ينظرون إلى أعمالهم المكتوبة في ظل غياب الحرية، أو نقصانها، أنها نتاج عسير أنجزوه تحت ضغط الرقابة الذاتية، وكبح الاندفاع وراء تعرية وجه الواقع، والاكتفاء بتعرية أطراف جسده، قدر المستطاع. مما لا شك فيه أن مساحات الحرية الجديدة أتاحت لهم البوح بصدق أكبر ومنحتهم نفسا مندفعا لا يهادن ولا يتردد في تعرية الجسد العربي كاملا».



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.