ديكارت والنزعة العقلانية الساعية إلى البساطة والوضوح

ثمة آراء كثيرة خاطئة تلقيناها ينبغي هدمها لتأسيس معرفة جديدة

ديكارت
ديكارت
TT

ديكارت والنزعة العقلانية الساعية إلى البساطة والوضوح

ديكارت
ديكارت

من المجازفة حصر إسهامات ديكارت المتعددة في الحقل الفلسفي وحده، ذلك أن روحه علمية بالدرجة الأولى. فقد استطاع أن ينتقل من روح سكولائية (تلقينية) وسطوية لاهوتية، إلى فكر عقلاني أسهم في بناء تصورات جديدة، بفضل التحولات العلمية التي عرفتها أوروبا آنذاك، وأساسا الانقلابات (الثورات) العلمية التي أحدثتها فيزياء غاليلي، على التصورات الفيزيائية والفلكية الكوبرنيكية والبطليموسية.
شكلت هجرة ديكارت إلى هولندا، موطن الحريات في أوروبا، آنذاك، محطة هامة دفعته إلى الفكاك من سلطة اليسوعيين، وأتاحت له نافذة جديدة لتأمل العالم. فقد جمعته الصدفة بالطبيب الهولندي إسحاق بيكمن Beckman الذي يعود له الفضل في بعث ديكارت إلى درس العلوم الطبيعية والرياضيات للبحث عن الصلات بينهما.
لقد كانت الحاجة إلى ديكارت في زمانه، حاجة إلى أسس جديدة (ميتافيزيقية وفلسفية) للعلم الحديث. ففي الوقت الذي ظلت فيه الميتافيزيقا الأرسطية سائدة بتحجرها وعقم مناهجها وتشعب استدلالاتها وقياساتها المنطقية، سعت العقلانية الديكارتية نحو البساطة والوضوح، نحو رسم منهج وقواعد جديدة لإرشاد العقل، لأن بإمكان هذا العقل أن ينتج المعرفة، وهو الأمر الذي يرفضه السكولائيون اعتقادا منهم بأن كل شيء معطى، وأن الإنسان مجرد متلق سلبي، لا دور له في عملية الإنتاج تلك. هذا التصور اللاهوتي الغارق في القدرية، لن يدوم كثيرا، لأنه سيتعرض لانتقادات ديكارت من أجل تقويضه. وبذلك، فالديكارتية هي بمثابة «بيان من أجل العقلانية»، «بيان من أجل العقل» دشن مرحلة جديدة محورها العقل والذات الإنسانية. بيان يقوم أولا، على الإقرار بالمساواة والعدل في توزع القدرات. فتقريره أن «العقل أعدل قسمة بين الناس»، هو تقرير بأولى مبادئ الديمقراطية أي المساواة، وأمام هذا المبدأ، لم تعد الحاجة إلى تقرير التراتبية أو ما شابه، لأنه حطم وقوض الأساس الذي تقوم عليه المعرفة التقليدية.
الاكتشاف الميتافيزيقي للإنسان
يعود هذا التعبير، إلى العقلاني الفرنسي فردناند ألكيي Ferdinand، Alquié، الذي درس النصوص الديكارتية وفحصها بدقة متناهية.
يشتهر ديكارت بقوله المتداول جدا «أنا أشك، أنا أفكر، إذن أنا موجود». وهو قول يؤسس لفهم جديد للذات الإنسانية، من خلال سعيه نحو قلب النظام المعرفي القديم، لصالح تصور جديد ينبني على الذاتية كمنطلق نحو العالم. والذاتية عند ديكارت، لا ينبغي أن تفهم كمقابل للموضوعية، بل كأساس ومبدأ كل شيء، بإمكانها الوصول إلى اليقين، بدلا من البحث عنه في شيء آخر. والغاية الكبرى لديكارت وراء هذا المفهوم هي التأسيس لميتافيزيقا جديدة تتمحور حول الإنسان كأسمى كائن ميتافيزيقي. فالحقيقة لا تقع خارج الذات الإنسانية بل في جوفها وفي قلبها، وهذا ما تستدعيه العلوم الحديثة التي تنطلق مع ميكانيك غاليلو غاليلي وفلك كوبرنيك، حيث لم يعد الكون فراغا تحكمه قوانين عمياء، كما لم يعد فضاء لا متناهيا. بل إن العلاقة بين الأجسام علاقة ميكانيكية (العلاقة بين السرعة والقوة).
رسم ديكارت تصوره الميتافيزيقي للعالم في كتابين هامين، من ضمن كتبه: كتاب مقال في المنهج، وكتاب التأملات الميتافيزيقية. لذا يصح القول إن فلسفته تنقسم إلى قواعد وتأملات.
يتأسس النظام الديكارتي على التمييز بين نظامين: نظام الأشياء ونظام الحججl’ordre des raisons، فنظام العلل والحجج غير نظام الأشياء، ويهدف إلى هدم النظام القديم، ويتضمن صنفين من الأحكام: النظام التحليلي: analytique والنظام التركيبي: synthétique.
يقر ديكارت بأنه كلما اتجهنا نحو القضايا التحليلية نكون أقرب إلى اليقين، والعكس صحيح، كلما اتجهنا نحو القضايا التركيبية نكون أقرب إلى الظن والشك والريبة. وعلى هذا الأساس، فالقضايا البسيطة أكثر يقينا من المركبة، وهو حال القضايا الرياضية المتميزة بالوضوح: المربع له أربعة أضلاع.
الشك طريق إلى اليقين
العقل «هو أعدل الأشياء توزعا بين الناس». فكل فرد له نصيبه منه، إلا أن طرق استخدام وتوظيف هذه الملكة، تختلف من شخص إلى آخر.
يقودنا الانطلاق من هذه الفكرة، إلى تأكيد مبدأ المساواة، لأن اعتبار العقل ملكة فطرية، أثار أيضا اهتمام التجريبيين الإنجليز، الذين رأوا في ذلك أكبر زلة للعقلانية. فالعقل في نظر هؤلاء، ليس إلا أداة يستخدمها الإنسان لإنتاج المعرفة، ولكنها أداة لا يمتلكها الناس بالفطرة، قدر ما هي مكتسبة ترتبط وترتهن بالتجربة الإنسانية. أي أن العقل مجرد صفحة بيضاء. وسيخترق هذا السجال الفلسفي بين الاتجاهين التجريبي والعقلاني كل التاريخ المعرفي للبشرية.
دشن ديكارت تفكيرا جديدا، لأن اتباع آراء الآخرين لا يقدم أي جديد بالنسبة له. لقد كان بإمكانه اتباع آراء أفلاطون وأرسطو، إلا أن اقتناعه بأن ذلك الطريق لم يعد مجديا، أفضى به إلى البحث عن طريق جديد. هكذا سار وحيدا في طريق الظلمات، بحثا عن منهج جديد لهدم الآراء القديمة وبناء آراء جديدة. وبهذا سيتوجه بالنقد الشديد لمختلف المعارف التي تلقاها منذ طفولته، بل سيطرحها جانبا وسينطلق من الشك.
لاحظ ديكارت أن معظم أحكامنا ترتبط بالحس وتتعلق به. وأن معارفنا تتكون من آراء تتعارض فيما بينها. وهذا ما يستوجب أولا الشك فيها، ولو مرة واحدة، بهدف السعي وراء بناء معارف جديدة كل الجدة. فالحواس في نظره مخادعة، بحيث لا يستطيع التمييز بين عالم الحلم وعالم اليقظة. وهذا ما يستوجب ثانيا الشك فيها. لكن السؤال الأساسي هنا هو: هل يمكن للشك أن يبلغ اليقين؟ هل يمكن الشك في البداهات واليقينات الرياضية (في الأعداد والأشكال) أن يؤدي إلى اليقين؟
يمكن للإنسان أن يخطئ بصدد هذه اليقينات الرياضية، مثلما يخطئ بصدد المحسوسات. وهذا ما يستلزم في نظر ديكارت، وجود إله كامل الضمان «يضمن عدم وقوعي في الخطأ، فالله وحده قادر على كل شيء، وهو صانعي وخالقي على نحو ما أنا موجود». ما يبرر الشك إذن، في نظر ديكارت، هو أنه لا يملك بعد الدعامة الميتافيزيقية للحدس العقلي، تلك الدعامة وذلك الضمان الذي لا يمكن أن يوجد إلا في الله.
صمم ديكارت عزمه على أن يعرف كيف يتصرف العقل على طريقة البرهان الرياضي. أي أنه عزم على أن يحلل المنهج الرياضي إلى عناصره العقلية. وهي العناصر التي يعرضها لنا في الجزء الثاني من مقال في المنهج: البداهة، التحليل، التركيب، المراجعة. وإجمالا، فإن الشك الذي يطبقه ديكارت في كتابه «مقال في المنهج»، يختلف عن الشك الذي يطبقه في كتاب التأملات، ذلك أن الشك في المقال، هو شك معرفي لا يتجاوز الحدود التي يرسمها له ويضعها للجمه. في حين أن الشك في التأملات، هو شك جذري hyperbolique لا حدود له، يدفعه إلى أبعاده القصوى، لذا من اللازم الوقوف على كتاب التأملات لبيان مدى وجاهة هذا القول.
ب - نحو شك جذري
يحكي ديكارت في التأمل الأول، عن معرفته التي تلقاها والتي انبنت على آراء خاطئة، معلنا عزمه وإصراره الدائم على بلوغ اليقين، وعلى وضع ما تلقاه منذ الطفولة موضع شك. وهكذا يبدأ بالحواس (أهم مصدر للخطأ لأنها مخادعة)، ثم يشك في إن كان في اليقظة أو في النوم، ويدفع به إلى أقصاه عندما يشك في القضايا الرياضية.
يقول في الفقرة الأولى، هناك كثير من الآراء الخاطئة التي نتلقاها منذ الصغر، وينبغي هدمها لتأسيس معرفة جديدة. لكن لا ينبغي أن نعمل على هدم كل رأي على حدة، وإنما ينبغي هدم الأسس التي تقوم عليها، وأهم تلك الأسس: الحواس التي إذا خدعتنا فإن معرفتنا ستكون خاطئة.
تتميز العقلانية الديكارتية بكونها عقلانية قطعية، يقينية، لا تستند إلى الاحتمال ولا وسط فيها. فالعقل عند ديكارت دوغمائي، لا يؤمن بالوسط بين الشك واليقين. فإما أننا نخطئ ونقع ضحية الخطأ، وإما أن نصل إلى اليقين. لذلك فالعلوم عنده إما مركبة أو بسيطة. وهناك نظامان كما سبقت الإشارة: نظام الأشياء، ونظام العلل، وهذا الأخير نوعان: نظام تحليلي: تتميز أحكامه بكونها بسيطة، يقينية، بديهية وصادقة، كما هو الحال في الهندسة وفي الحساب. ونظام تركيبي: لأن الأحكام التركيبية غير يقينية وأقل بديهية، كحال الفلك أو الطب.
دشن ديكارت الشك بالحواس، وانتقل إلى النوم واليقظة، وانتهى بالحقائق الرياضية. وكان يعتقد دوما أن هناك إلها كلي القدرة والاستقامة، وهو خالق الإنسان على ما هو عليه.



أوانٍ فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين

قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
TT

أوانٍ فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين

قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية

تحوي مملكة البحرين سلسلة من المقابر الأثرية، تُعرف باسم «تلال مدافن دلمون»، سُجلت ضمن قائمة التراث العالمي التابعة لـ«منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» (اليونيسكو) في صيف 2019. تضم هذه السلسلة في الواقع مجموعات عدة من المدافن، منها مجموعة تقع في أقصى جنوب مدينة حمد، وتجاور قرية دار كليب التي تبعد عن المنامة نحو 25 كيلومتراً. بدأ استكشاف «مدافن دار كليب» في عام 1965، حيث عمد باحثان يعملان لحساب «شركة نفط البحرين» (بابكو) إلى إجراء أول أعمال المسح فيه. وصل هذا الخبر إلى البعثة الدنماركية التي كانت تعمل في هذه الناحية من الخليج خلال تلك الفترة، فباشرت دراسة الموقع بشكل معمّق. توالت مواسم التنقيب خلال العقود التالية، وأدت إلى الكشف عن مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من الأواني الفخارية تعود إلى حقب متلاحقة من الزمن.

تحمل «تلال مدافن دلمون» اسم إقليم برز شرق الجزيرة العربية خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، كما تشهد المصادر السومرية، وكانت جزيرة البحرين حاضرة من حواضر هذا الإقليم الوسيط الذي شكل حلقة وصل بين بلدان الشرق القديم، الأوسط والأدنى. خرج من هذه المدافن عدد كبير من القطع الفخارية تعكس هذه التعددية، منها مجموعة من القطع مصدرها حقل «مدافن دار كليب» الذي يمثّل كما يبدو الطور الأخير من تلك الحقبة الغنية. تبرز في هذا الميدان بضع أوانٍ تتميز بحلل زخرفية تبدو غير مألوفة في محيطها، منها آنية على شكل زهريّة من الحجم الصغير، كشفت عنها بعثة محليّة في منتصف تسعينات القرن الماضي، وهي اليوم من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة. يبلغ طول هذه الزهرية المخروطية 12 سنتيمتراً، وعرضها 9 سنتيمترات، وهي من نتاج القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل الميلاد، كما يؤكّد أهل الاختصاص، وتكوينها بسيط، ويغلب عليه اللون العسلي المائل إلى الأخضر الزيتي.

تُزين القسم الأعلى من هذه الزهرية شبكة من الخطوط الأفقية الدائرية، تحوي في وسطها خطاً متعرّجاً. خُطت هذه الشبكة باللون الأسود، وتقابلها شبكة مشابهة مختزلة تزيّن القسم الأسفل منها. بين هاتين الشبكتين، تحضر شبكة عريضة تحتلّ القسم الأوسط، وقوامها زخرفة نباتية متناسقة تعتمد طرازاً مكرّساً، يُعرف في قاموس الفنون باسم «بيبال»، أي شجرة التين الهندسية المقدسة. خطّت هذه الزخرفة النباتية كذلك باللون الأسود، وتتشكّل من أربعة أغصان أفقية تحمل أطرافها سلسلة من الأوراق اللوزية المرصوصة بشكل تعادلي في بناء محكم، وفقاً لنسق فني اعتُمد بشكل واسع في المناطق الشمالية الغربية من جنوب آسيا، وبات من خصائص حضارة وادي السند التي توهّجت على مدى قرون من الزمن، وبلغت نواحي عديدة من الشرق الأدنى وجنوب آسيا.

تبدو زهرية دار كليب على الأرجح من نتاج وادي السند، وتشهد للروابط الثقافية المتواصلة التي جمعت بين هذا الوادي وإقليم دلمون. لا نجد ما يماثل هذه الآنية في هذا الميراث، غير أننا نقع على قطعة تشابهها بشكل كبير، مصدرها المناطق الشرقية من المملكة العربية السعودية، وهي قطعة شبه مجهولة، قدّمت عالمة الآثار غرايس بوركهولدر تعريفاً بها ضمن كتاب لها صدر عام 1984، تناول مجموعة من اللقى الأثرية تمّ اكتشافها في هذه المناطق الشرقية.

خرجت من مدافن دار كليب كذلك مجموعة من القطع الفخارية تعود إلى الحقبة التي أطلق فيها المستكشفون الإغريقيون على جزيرة البحرين اسم تايلوس، وهي الحقبة التي تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى فترة دخول الإسلام. تُشكّل هذه القطع مجموعة من مجموعات مشابهة خرجت من المدافن المجاورة، وتحوي قطعاً تتفرّد في بعض الأحيان في تكوينها، منها قطعة من الفخار المزجّج، عُثر عليها خلال حملة محليّة تمّت بين عام 1993 وعام 1994، وهي من محفوظات المتحف الوطني بالمنامة.

صُنعت هذه الآنية بين القرن الأول والقرن الثاني للميلاد على الأرجح، وفقاً لتقنية نشأت قديماً في جنوب بلاد ما بين النهرين، وهي على شكل جرة لها عنق طويل، طولها 32.5 سنتيمتراً، وعرضها 22 سنتيمتراً. تشابه هذه الجرة في تكوينها العام جرة معاصرة لها خرجت من الموقع نفسه، وتتميّز بعروة على شكل مجسّم حيواني، تحل مكان العروة التقليدية المجرّدة من أي شكل تصويري. يصعب تحديد نوعية هذه البهيمة، والأرجح أنها تمثل كبشاً ذا قرنين مستديرين، وتشكّل امتداداً لتقليد قديم، تبدو شواهده محدودة في هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر هذا الكبش في قالب جامد تغيب عنه أي حركة ظاهرة، وتبدو قوائمه الأربع ثابتة في وضعية واحدة ثابتة، يغلب عليها طابع التحوير والتجريد. يتبع تكوين رأس هذه البهيمة هذا النسق، ويتميّز بقرنين عريضين صيغا على شكل هلالين متوازيين.


آخر ما قاله سعد الله ونوس عن «الخفقة السوداء في الرأس»

سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
TT

آخر ما قاله سعد الله ونوس عن «الخفقة السوداء في الرأس»

سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم

مصعد المستشفى لا يكفّ عن الرنين، بينما المرضى وزوارهم يخرجون ويدخلون إليه. الممرات أشبه بنفق معتم. أطباء يعاينون صورة شعاعية، قبل أن تظهر لنا الكاميرا سعد الله ونوس على سرير المرض شاحباً، متعباً، هزيلاً، وقد فقد شعره، يتناول الدواء من يد شخص إلى جانبه، وتثبّت الممرضة إبرة المصل في ذراعه.

هكذا يبدأ «الوثائقي» المعنون: «هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء»، الذي صوره المخرج عمر أميرالاي، مع صديقه الكاتب المسرحي سعد الله ونوس، قبل فترة قصيرة من وفاته يوم 15 مايو (أيار) 1997، وعرض يوم 28/11، في سينما متروبوليس ببيروت.الكلمة الأخيرةالفيلم بمثابة وصية، أو لنقل الكلمة الأخيرة التي تركها لنا هذا الكاتب الكبير بنصوصه كما بانخراطه الكامل في القضايا التي أحاطت به. منذ البدء يصارح أميرالاي سعد الله ونوس، الواقف «على حافة تخوم رجراجة بين الحياة والموت»، أنه جاءه ليستنطقه كشاهد على مرحلة «لتكون لسان حال جيلنا في هذا الصراع».

الفيلم سجل بعد اتفاق أوسلو، ونوس متوجس مما سيأتي، مزاجه جنائزي، ليس فقط بسبب المرض، بل بسبب الحالة العامة أيضاً. ثمة شرطان للسلام لم يتحققا بالنسبة لسعد الله ونوس. أن يحصل تغيير جوهري وجذري في البنى الاجتماعية والسياسية في إسرائيل. وأن يحصل الشيء نفسه في البلاد العربية من جهة أخرى. عندها التاريخ قد يجبرنا وتحت وطأة اليأس على التغيير والتجدد. نكبة 1948 «أقولها حرفياً إن إسرائيل سرقت السنوات الجميلة من عمري، وأفسدت على إنسان عاش خمسين عاماً، مثلاً، الكثير من الفرح، والكثير من الإمكانات»، يقول ونوس في مطلع الفيلم الذي عرض في سينما «متروبوليس» في بيروت قبل أيام، إلى جانب فيلم آخر «إلِيبسِس» للمخرجة ساندرا إيشيه تتحاور فيه مع عمر أميرالاي ضمن فعالية «حواران على أهبة الموت» لـ«سينماتك بيروت».

مات «رائد المسرح السياسي»، سعد الله ونوس بعد صراع طويل مع سرطان في البلعوم كان يفترض ألا يمهله أكثر من ستة أشهر بحسب الأطباء، لكنه بقوة الكتابة تمكن من المقاومة خمس سنوات. ومن حسن حظنا أنها كانت من أغزر فترات حياته إبداعاً، كتب خلالها أروع مسرحياته، وشارك في هذا «الوثائقي» البديع الذي تحدث خلاله عن العلاقة العضوية التي ربطته بالقضية الفلسطينية، وأحداث المنطقة كيف عاشها بروحه وضميره ووجدانه، حتى لتشعر وهو يتحدث أن المآسي التي مرّت نهشت جسده، حتى أودت به، وهذا ما يعتقده هو نفسه.

عمر أميرالاي

أميرالاي الساخر حد البكاء بقدر ما يبدو سعد الله ونوس حزيناً ومكفهراً، نرى صديقه عمر أميرالاي حين تحاوره المخرجة الفرنسية، في الفيلم الثاني، ساخراً هزلياً بمرارة، حتى تختلط الدموع بالقهقهات. ويجيب على الأسئلة باعتباره يعيش في عام 2030 خاصة وأن كل التوقعات في الخمسين سنة الماضية، حصلت، ولم يعد من مكان للخيال. لقد أصبح كل شيء واقعاً، وما سيحدث غداً نعرفه اليوم. فهو كسوري - كما يقول - يعيش خارج الزمان والمكان. والسوريون واللبنانيون يتقاسمون الشيء نفسه. فهما توأمان سياميان لا يوجد جرّاح يمكنه أن يفصل مصير أحدهما عن الآخر، المقرون بـ«اليأس».

«أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء» (1997) يكتسب أهميته من حيث أنه اختصار لوجع جيل كامل في ساعة سينمائية مكثفة. تبدأ من نكبة 48 حيث فتح ونوس عينيه على قصة شابين من قريته «حسين البحر» تطوعاً في جيش الإنقاذ، ليحررا فلسطين من الذين جاءوا ليحتلوها. كان ترقّب مغمّس بالرهبة والخوف على مصيرهما. لكن الشعور تطور بمرور السنوات: «كنا نكبر وتكبر القضية معنا».

يسير الفيلم على وقع نقاط المصل وصوتها وهي تتدحرج ببطء إلى عروق ونوس. «كنا بلاداً فقيرة» لكن مع كل الهموم اليومية الكثيرة «كنا نحمل هموم القضية وتحولاتها على كواهلنا النحيلة، المتعبة».هزيمة 1967 لحظة حاسمة بعد أن استقر في الأذهان عبر سنوات الكذب والتدجيل أن نكبة 1948 كانت نتيجة الخيانة والأسلحة الفاسدة، وأنها لم تكن أبداً بسبب ضعف القدرة القتالية عند الجندي العربي. «زرعوا في أذهاننا أن مسألة هزيمة إسرائيل هي مسألة ممكنة، في أي لحظة».لذلك جاءت هزيمة 67 مدويّة. «لم أتصور أن القوات العربية في مصر بالذات، وكذلك في سوريا هي من الضعف والتفكك إلى الحد الذي بدت فيه خلال الأيام الستة». وعدت الأنظمة العربية بأنها ستحمي الوطن وأنها المؤهلة للقتال، ولم تفعل شيئاً إلا مراكمة الهزائم.

البكاء مع بلوغ النهاية مشاهد استسلام الجنود كانت مؤلمة. «الصدمة حادة وعنيفة، إذ أحس الجميع أنهم مطعونون بكبريائهم، أنهم مهانون حتى العظم». مشاهد تتخلل المقابلة، منها الأطفال المشردون في الخيام، يأكلون الخبز اليابس مع الشاي، عبد الناصر يعترف بمسؤوليته بعد الهزيمة ويتنحى، جنود إسرائيليون يقصفون بالطائرات، جنود عرب يستسلمون. تتالى المشاهد التي تدعو كلها لمزيد من الانكسار.يكاشفنا ونوس وكأنما يستعيد اللحظة حية. عندما تأكدت الهزيمة «شعرت أنني سأموت في تلك اللحظة، شعرت أنني أختنق.» بكى وبكى، وشعر أنها النهاية. وأن عمراً قد انتهى، وأن التاريخ قد توقف، وأن وجوده قد انطوى.

أهمية حرب 73 أنها كشفت بعد هزيمة ساحقة، أن إسرائيل ليست حصناً منيعاً لا يمكن مسّه، وليست تلك الدولة غير القابلة لأن تجرح وتخسر معارك. «لذلك صفقنا كثيراً. عندما قامت حرب 1973. مجرد شعورنا بأن جنودنا يستطيعون أن يقاتلوا، أعاد لنا شيئاً من الثقة المضعضعة والمعدومة بالذات».

لكن هذه الحرب، من ناحية أخرى، في رأي ونوس، أجهضت الفوران المبشّر بعد 67، وربما أنها كانت في ذهن بعض من شاركوا فيها مقدمة لما أتى بعدها.لم يبقَ سوى الانتحارحين زار أنور السادات إسرائيل أصاب ونوس الذهول. جلس وكتب «أنا الجنازة والمشيعون معاً». كان ذلك آخر نص، ومن بعده التزم سعد الله ونوس الصمت. كان متوتراً ولا يستطيع السيطرة على نفسه بعد أن أنهى كتابة ذلك النص. «تناولت حبة النوم، وحاولت أن أخرج من حالتي. بعد ساعتين أو أقل استيقظت أشد توتراً وضيقاً وكانت الظلمة شاملة أمامي. في تلك الليلة أقدمت على محاولة الانتحار الجدية».

في فترة الصمت الطويلة المغمسة بالاكتئاب، أمضى معظم وقته في القراءة والتأمّل، وفي مواجهة أسئلة التاريخ الموجعة، إلى أن أنعشت مشاعره انتفاضة 1989 وحفزته على كسر الصمت. في تلك السنة بدأ يخطط لكتابة مسرحيته «الاغتصاب». لم يكن غريباً أن يكسر صمته بمسرحية تتناول الصراع العربي الإسرائيلي، وتحاول تحليل بنية النخبة الحاكمة في إسرائيل.

عندما راودته فكرة المصالحةنهاية المسرحية، أثارت الجدل، لأنها تضمنت حواراً بينه وبين طبيب نفسي إسرائيلي، يردد طوال المسرحية مقتطفات من سفر إرمية مستنزلاً اللعنات على السياسة العدوانية للنخبة الحاكمة في إسرائيل، والتي لا تؤدي فقط إلى الإجهاز على الفلسطيني، وإنما على تدمير الإنسان اليهودي أيضاً.

يعترف أنه في تلك اللحظة، كان يفتح باباً على الصلح، وأن إسرائيل في مسرحيته لم تعد حُرُم. «مجرد أن أقدم في المسرحية شخصية يهودية إيجابية تحتج على ما يحدث، وعلى ممارسات (الشين بيت) إزاء الفلسطينيين وعمليات التعذيب التي يقومون بها، مجرد أن أقدم شخصية من هذا النوع إنما يحمل في طياته تعاطفاً مع الإسرائيليين».

المشكلة في البلاد العربية أيضاً، بهذه البنى المتخلفة التي لم تحدّث و«تجعل من شعوبها كماً بشرياً مهملاً» حيث لا يجد المواطن أمامه سوى أن «يطأطئ رأسه».

العلاقة بين القصف والسرطانيعتقد سعد الله ونوس أن ثمة علاقة مباشرة بين حرب الخليج التي أجهزت على بقية الآمال الموجودة لدى العرب، وبدء شعوره بالإصابة بالورم أثناء الحرب، وخلال القصف الجوي الوحشي الذي كانت تقوم به الولايات المتحدة الأميركية ضد العراق. ثم جاءت مفاوضات مدريد بعد هزيمة العراق التي يصفها بـ«الاستسلام» لأنها «لا يمكن أن تكون بداية لسلام حقيقي». الاتفاقات التي تمخضت عنها «ما هي إلا فصل من فصول هذه الحرب الدائرة التي يمكن أن تطول بيننا وبين إسرائيل».

إسرائيل غدت حقيقة تاريخية، غير أنه بقراءة متأنية يستنتج أنها لا تملك مقومات الاستمرار، هي مشروع خاسر. «لا حياة لها إلا إذا اندمجت كجزء في الكل، لا كمخفر مهمته أن يدمّر المنطقة، ويجعلها ممرغة باستمرار في الهزيمة والتخلف والتفتت».يسأله أميرالاي: «هل سنموت، وفينا العلة التي اسمها إسرائيل؟»يجيب: «على الأقل بالنسبة لي شخصياً، من المؤكد أن هذا سيحدث».

أميرالاي رحل هو الآخر عام 2011. ولم يشكّ ونوس بأن جيله كله سيمضي و«في رأسه تلوح هذه الخفقة السوداء الشبيهة بعلامة، هي علامة الخيبة التي تذوق مرارتها على مدّ عمره. لأن إسرائيل ستكون باقية حين يذهب جيلنا إلى نهاية حياته».


علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
TT

علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)

أعلن علماء الآثار البحرية، الاثنين، اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية.

ووفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية، عثر غواصون على هيكل السفينة الذي يزيد طوله على 35 متراً وعرضه نحو 7 أمتار، تحت المياه في ميناء جزيرة أنتيرودوس، حسبما أعلن المعهد الأوروبي للآثار البحرية في بيان.

ووجدت على السفينة كتابات يونانية «قد تعود إلى النصف الأول من القرن الأول للميلاد» و«تدعم فرضية أن السفينة بُنيت في الإسكندرية».

وأضاف المعهد ومقره في الإسكندرية أن السفينة «كانت على ما يبدو تضم مقصورة مزينة بشكل فاخر، وكانت تُشغّل بالمجاذيف فقط».

أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية عام 331 قبل الميلاد. وضربت سلسلة من الزلازل وأمواج المد ساحلها ما أدى إلى غرق جزيرة أنتيرودوس التي اكتُشفت عام 1996.

على مر السنين، عثر الغواصون على تماثيل وعملات معدنية وكنوزاً أخرى في الجزيرة الغارقة، بعضها معروض في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية.

ونشر مدير المعهد الأوروبي للآثار البحرية فرانك غوديو، مؤخراً، تقريراً عن أنتيرودوس ومعبد إيزيس فيها، استناداً إلى عمليات استكشاف تحت الماء أُجريت منذ تسعينات القرن الماضي.

وأكد المعهد أن الأبحاث المستقبلية حول الحطام المكتشف حديثاً «تبشر برحلة شيقة في حياة مصر الرومانية القديمة وديانتها وثرواتها ومجاريها المائية».

والإسكندرية موطن لآثار قديمة وكنوز تاريخية، لكن ثاني أكبر مدينة في مصر عرضة بشكل خاص لتداعيات تغير المناخ وارتفاع منسوب مياه البحر، إذ تغمرها المياه بأكثر من 3 مليمترات كل عام.

وتقول الأمم المتحدة إنه في أفضل السيناريوهات سيكون ثلث الإسكندرية مغموراً بالمياه أو غير صالح للسكن بحلول 2050.