نحن نعيش في حقبة كروية كل ما فيها زائف. لقد أدى تطور اللعبة إلى صعود مهاجمين وأجنحة، وصانعي لعب متقدمين، هم ليسوا في واقع الأمر مجرد مهاجمين، وأجنحة وصانعي لعب متقدمين. في المستوى الأعلى تزداد مراكز الهجوم الصريح ندرة، فيما أصبح اللاعبون المهاجمون أكثر ذكاء في تحركاتهم وأكثر تنظيمًا في تنفيذ واجباتهم الدفاعية. وفي هذه الظروف لا يلقى اللاعبون الذين يغلب على أدائهم الطابع التقليدي، ما يستحقون من تقدير. وربما لهذا السبب لم يحظ غونزالو هيغواين، وهو نموذج حقيقي لصاحب الرقم 9 بأسلوب لعبه القديم، بما يستحق من اهتمام، مقارنة بنظرائه الأكثر تمرسا.
سجل هيغواين يوم الأحد الماضي هدفه الـ22 في عدد مساوٍ من المباريات هذا الموسم عندما حقق نابولي مطلع هذا الأسبوع انتصارا كبيرا بفوزه على إمبولي 5 / 1 ليؤمن تصدره لجدول الدوري. وفي الجولة التي قبلها الواحدة والعشرين أحرز هيغواين أيضًا هدفا، وذلك عندما فاز نابولي بنتيجة 4 - 2 خارج أرضه على سامبدوريا، ليؤمن تصدره لجدول الدوري. وجاء هدفه بعد 9 دقائق، عندما تسلم كرة من لاعب وسط سامبدوريا المدافع إدغار باريتو، الذي كان تحت ضغط، ثم انطلق هيغواين بنفس السرعة والتصميم والمباشرة الذي ميز أسلوب لعبه على مدار الشهور السبعة الماضية. لم تكن عيناه ترمقان سوى المرمى، الذي عثر عليه بتسديدة قوية قبل أن يحتفل بصرخة حماسية. وكان هذا تذكيرا قويا بقدراته. ومع هذا، فقد أعادت هذه المباراة بالذات إلى الذاكرة كذلك فترات أخرى أكثر ظلاما في مسيرة هيغواين. أضاع فرصتين رائعتين أخرتين، وعندما عهد إليه بتنفيذ ركلة الجزاء التي جاء منها الهدف الثاني لنابولي، نقل المسؤولية - أو الفرصة - إلى لورينزو إنسيني. وفقًا لمدربه، ماوريسيو ساري، كان قرار هيغواين مخالفًا لما تم الاتفاق عليه قبل المباراة. وقال ساري: «قلنا قبل المباراة إن هيغواين هو من سينفذ ركلات الجزاء، يليه إنسيني. لا بد وأنهما توصلا لاتفاق فيما بينهما. والواضح أن غونزالو لم يشأ تنفيذ الركلة». الهدفان الأخيران اللذين أحرزهما هيغواين جاءا قبل أن يحل نابولي ضيفا على لاتسيو في المرحلة الثالثة والعشرين.
يتمتع هيغواين بالقوة البدنية، هذا شبه مؤكد. لكن يظل هنالك نوع من الهشاشة النفسية الكامنة التي قوضت مسيرته في بعض الفترات. لا يصدر وجهه تحديدا تعبيرات مختلفة، وهي تتراوح بشكل عام بين نظرة غضب ونظرة تعبير عن شعور طفيف بالضيق. وهذا المظهر المعذب هو نتيجة للمعايير الشخصية العالية التي وضعها لنفسه - وهو سقف لا يخفضه برقة مع زملائه بالفريق - لكن وراء النظرة التي يملؤها الوعيد يكمن لاعب ذو نفسية هشة، وماض من العروض المخيبة في المنعطفات المهمة.
كان هيغواين يبدو من نوعية المهاجم الأرجنتيني التقليدي - قويًا لكنه مكتمل الفنيات - عندما وطئت قدماه عالم كرة القدم الأوروبية مع ريال مدريد. لكن بداياته لم تكن مبشرة في إسبانيا، إذ لم يسجل سوى هدفين فقط في أول موسم له في الدوري الإسباني الممتاز «لاليغا». نضج بصورة تدريجية وسجل حصيلة معقولة من الأهداف، ولكنه لم يستمر طويلا مع الريال، فهو لم يكن من الأسماء الكبيرة، ومن ليس من الأسماء الكبيرة عادة ما يشقى حتى يثبت جدارته بالوجود ضمن كوكبة النجوم في ريال مدريد. وتسبب قدوم كريم بنزيما إلى برنابيو في صفقة بلغت قيمتها 24.5 مليون جنيه إسترليني في تآكل مكان هيغواين، إذ لم يكن استعراضيا مثل الفرنسي، ولم يكن محل تقدير كبير. كذلك، فإن وضع هيغواين كخيار ثان بعد بنزيما في ريال مدريد لم يختلف كثيرا عن المعاملة التي كان يلقاها على المستوى الدولي. كان يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه موهبة مفيدة، لكنه ليس باللاعب الذي يطغى على نجوم هم من أيقونات كرة القدم الأرجنتينية. ويقتضي الإنصاف بالنسبة لهيغواين أن نقول إن من الصعوبة بمكان أن تشارك وتتألق بينما يتنافس ليونيل ميسي وسيرجيو أغويرو وكارلوس تيفيز على مكانك. وعلى هذا النحو، فعند تقييم فترات هيغواين قبل الانضمام لنابولي، يجدر تخيل مدى شعوره بخيبة الأمل وهو بهذه الموهبة الواضحة، لكنه عاجز عن بلوغ القيمة المناسبة لهذه الموهبة. لقد كان هناك دائما من هو أفضل.
كانت السنتان الأوليان اللتان قضاهما في نابولي بمثابة استعراض لهذا الإحباط، وكل مباراة يشارك فيها كانت تجسد إطلاقا لمشاعر عداء مكبوتة. والآن، وبعد السنوات التي قضاها كأفضل اختيار ثان، فقد صار نجما. تعاقد معه نابولي نظير 38 مليون يورو، وهو مبلغ قياسي بالنسبة لتعاقدات نابولي. وحصل على عقد بقيمة 5.5 مليون يورو سنويا. وكان الناس يتباحثون في التأثير الذي يمكن أن يحدثه، في نفس الوقت الذي كانوا يذكرون فيه تأثير مواطنه الأسطورة، دييغو مارادونا، على النادي في الثمانينات. وقد كان مجرد إثبات جدارته بالأموال التي أنفقت للتعاقد معه مهمة عسيرة، ناهيك بتجاوز هذا المستوى من التقييم، وبدأت الضغوط تنتقل إلى أرض الملعب. اكتسب هيغواين سمعة سيئة بإهدار الفرص في اللحظات المهمة. في نهائي كأس العالم 2014، سنحت له فرصة تحقيق المجد بوضع الأرجنتين في المقدمة. لكنه سدد كرة من دون أية خطورة بعرض الملعب، وخسرت الأرجنتين أمام ألمانيا. وفي اليوم الأخير من الموسم الماضي، كان قد سجل هدفين جعلا نابولي يتساوى مع لاتسيو. وعندما ربح ركلة جزاء، تقدم لتنفيذها. وفي حال نجح في التسجيل سيكون «هاتريك»، وسيضع فريقه في نفس الوقت في مقدمة المنافسة على حجز مكان في دوري الأبطال الأوروبي. لكن كرة هيغواين علت العارضة، وخسر نابولي 2 - 4، ليكتفي بالمنافسة على كأس الاتحاد الأوروبي. وفي الصيف الماضي، أضاع فرصة من مسافة قريبة من المرمى، عندما سنحت له فرصة تسجيل هدف في وقت قاتل في نهائي كوبا أميركا، قبل أن يضيع ركلة جزاء أخرى، عندما خسرت الأرجنتين بركلات الجزاء أمام تشيلي.
وقد كان هذا التسلسل الفظيع من الفرص المهدرة كفيلا بالقضاء على مسيرات أبرز اللاعبين الواعدين، ولكن هيغواين عثر في الصيف الماضي على التوفيق أخيرا. عندما غادر رافا بينيتيز - وهو الرجل الذي أقنعه بالانتقال إلى إيطاليا - إلى ريال مدريد، كان هناك اعتقاد بأن هيغواين سيغادر إثره. لكن قبل أن يترك الفريق، وصل المدرب ساري، وهو رجل قضى سنوات كثيرة في عالم المال قبل أن يولي وجهته شطر التدريب وتنظيم لاعبي كرة القدم. نجح ساري، الذي لم يكن يحمل من خبرة العمل في دوري الدرجة الأولى الإيطالي «سيري إيه» سوى عام واحد قبل تعيينه، في إطلاق قدرات هيغواين التي لم يسبق أن خرجت بالكامل أبدا. كان صريحا مع تميمته الهجومية، إذا شجعه، لا من خلال التدليل، وإنما بالتقييم الصادق الذي جاء في شكل تصريحات من قبيل: «سيكون هيغواين غبيا لو لم يفز بالكرة الذهبية». بلغ هيغواين مستوى جديدا تحت قيادة مدربه الجديد. سجل في أول موسم له في إيطاليا 17 هدفا؛ وفي الموسم الثاني تخطى هذه الحصيلة بهدف. والآن وقد تجاوز لتوه نصف مدة تعاقده، فقد تخطى بالفعل هاتين الحصيلتين مجتمعتين. وهو بالطبع على أعتاب أكثر مواسمه تهديفا، في مسيرته الكروية. ولا يزال غضبه مستعرا، غير أنه لم يعد مجرد ذلك الاختيار الثانوي. لقد تمكن أخيرا من التعبير عن ما بداخله وصبه على دفاعات المنافسين، وفي كثير من المباريات كان لا يمكن إيقافه.
تكهنت بعض التقارير بأن الدافع لمحو الذكريات السيئة والحمية الغذائية الجديدة التي تتضمن القليل من اللحوم الحمراء والكثير من المأكولات البحرية والعسل هي سر تحسن حالته البدنية، لكن من المستحيل تجاهل التأثير التكتيكي للمدرب ساري. بعد بداية متواضعة، لم ينجح نابولي خلالها في تحقيق الفوز في أي من المباريات الثلاث الأولى، وسجل هيغواين في مباراة واحدة، تخلى ساري عن طريقة لعبه المفضلة، 4 - 3 - 1 - 2 التي استخدمها بنجاح كبير في إيمبولي، ولعب بطريقة 4 - 3 - 3. وضعت الطريقة هيغواين مهاجمًا صريحًا، مع لاعبين اثنين على الأجناب - إنسيني وخوسيه كاليخون. ومنذ تغير طريقة اللعب، قدم نابولي كرة قدم تعد من بين الأروع في القارة، وسجل هيغواين بمعدل غير مسبوق. وجد هيغواين طريق الشباك في 13 من أصل 18 مباراة في الدوري، منذ التعديل التكتيكي الذي أجراه ساري. وشكل مع إنسيني وماريك هامسيك ثلاثيا مدمرا، هو مثلث برمودا الخاص بنابولي والذي يختفي فيه المنافسون باستمرار من دون أن يكون لهم أي أثر. يقطع إنسيني نحو العمق، ويندفع هامسيك للأمام، بينما يجتمع هيغواين - الذي عادة ما يكون ظهره للمرمى - مع الثنائي، وتكون النتيجة مذهلة. وليس هذا هو أبرز الجوانب في أداء هيغواين، رغم ذلك، فهو يتحرك بشكل أسرع ويحتفظ بالكرة بقوة متجددة. وباختصار، يؤدي هيغواين دور رقم 9 الحقيقي بما يشبه الكمال.
يفتقر هيغواين للجماليات التي يتمتع بها كثير من أقرانه، فهو لا يمتلك نفس فنيات بنزيما وأغويرو، أو اللمسات الساحرة لروبرت ليفاندوفسكي وزلاتان إبراهيموفيتش. كما وأنه لا يتحرك بسرعة ومهارة، مثلما يفعل لويس سواريز وبيير - أميرك أوباميانغ. هو بالأساس لا أكثر ولا أقل من صاحب الرقم 9 التقليدي، وكل ما هنالك أنه يمتع بكفاءة استثنائية في أداء هذا الدور. ويرى المدرب ساري في هذه التوليفة في أداء هيغواين، والتي تجمع بين القوة البدنية الوحشية، والرزانة في إنهاء الهجمات، والخلق القائم على العمل الدؤوب، شيئا لا يراه كثيرون غيره. قال: «إنه يتحول إلى ما أردت له دائما أن يكون، وبمعنى آخر، أفضل مهاجم في أوروبا وربما في العالم». وأضاف: «لن أتخلى عنه، ولو مقابل ليفاندوفيسكي». قد تظن هذه الكلمات منحازة، لكنها ليس من دون دليل يؤيدها. من بين كل المهاجمين المذكورين، لم يتفوق على هيغواين سوى إبراهيموفيتش وبنزيما، سواء في عدد الأهداف أو التمريرات الناجحة وخلق الفرص على مدار تسعين دقيقة من اللعب. ومع هذا، فالمثير للاهتمام بشكل أكبر، هو أن هيغواين نفذ مراوغات أكثر من هذين اللاعبين. وواقع الأمر أنه تخلص من الرقابة أكثر من أي من المهاجمين الآخرين المذكورين سالفا، ولم يقترب منه أي لاعب آخر في هذه المنطقة سوى ليفاندوفسكي وأغويرو. ولا تعد هذه صورة للمكانة المتفردة التي كافح هيغواين للوصول إليها في إطار طريق لعب ساري فحسب، بل إنها تعطي لمحة عن عقلية اللاعب المتجددة. ولأنه أصبح أكثر ثقة وتصميما عن أي وقت مضى، فقد صار يتحمل عبء الضغط بسهولة أكبر عن ذي قبل.
وعلاوة على هذا، فثمة شيء يستحق التوقف أمامه، وهو أن هيغواين يحقق هذه الأرقام من دون أن يكون إلى جانبه كريستيانو رونالدو، أو ليونيل ميسي، أو توماس مولر. وفي حين أن إبراهيموفيتش هو أبرع المهاجمين من ناحية الإحصائيات، فمن الأهمية بمكان أن نلاحظ أن الأخير يحقق أرقامه بمساعدة فريق تكلف إعداده أموالاً طائلة في باريس سان جيرمان، وهو فريق لا يواجه نفس القدر من المنافسة الشرسة في الدوري الفرنسي. على النقيض يشق هيغواين طريقه في دفاعات «سيري إيه» التي وإن لم تكن بنفس صلابتها المعهودة قبل بضعة عقود، فإنها تظل واحدة من أكثر الدفاعات تنظيما وتمرسا في أوروبا. وإضافة لهذا، لعب هيغواين دقائق أكثر من أي من المهاجمين البارزين المنافسين له، حيث خاض كل مباريات نابولي في الدوري، وقدم مستوى ثابتًا ولافتًا خلالها.
وقد بدأت أغنى أندية كرة القدم في الانتباه إليه في الوقت المناسب. كان بايرن ميونيخ الأكثر جدية في الحديث عنه، حيث قال المدير التنفيذي للنادي، كارل هاينز رومينيغه للصحافيين: «هيغواين لاعب رائع، ونحن في البايرن معجبون بأدائه». وهذا التصريح ينسجم مع تصريح لكارلو أنشيلوتي، الذي من المنتظر أن يتولى تدريب البايرن خلفا لبيب غوارديولا. وأثار المدير الفني الإيطالي التكهنات عندما قال: «من سآخذه معي إلى فريقي الجديد؟ من بين الأجانب في (سيري إيه) أختار هيغواين». ومؤخرا كانت هناك شائعات حول اهتمام باريس سان جيرمان بضم هيغواين مع قرب انتهاء مدة عقد إبراهيموفيتش في الصيف. وحتى روبرتو مانشيني في إنتر ميلان انضم لجوقة الإعجاب بالأرجنتيني، حيث قال مداعبا لصحيفة «لاستامبا»: «سأكون في غاية السعادة إذا حصلت على خدمات هيغواين على سبيل الإعارة».
ويشير هذا الصخب حول المهاجم الأرجنتيني إلى الإجماع المتزايد على أن هيغواين انتقل تماما من دائرة لاعبي النخبة الثانويين إلى المرتبة العالمية. لقد بات يعربد في بؤرة الضوء. وهو بفضل توافق مثالي لسماته الفردية وتكتيكات ساري، يقود نابولي نحو اقتناص أول ألقابه في الدوري منذ 1990. وسواء تحقق الفوز باللقب أم لا، فإن الحالة الفنية التي وصل إليها هيغواين هذا الموسم قد وضعته على رأس الحديث عن أفضل مهاجمي العالم. قد يكون أسلوب لعب غونزالو هيغواين قديم الطراز، ولكنه تقريبا يسجل هدفا في كل مباراة في الدوري الإيطالي «سيري إيه»، ويقود نابولي نحو تحقيق أول ألقابه منذ عام 1990.
من جهة أخرى، اعتبر نجم كرة القدم الأرجنتيني السابق دييغو أرماندو مارادونا بأن يوفنتوس هو المشكلة الوحيدة أمام نابولي الذي قاده في الماضي إلى تحقيق أفضل إنجازاته، لإحراز لقب الدوري الإيطالي هذا الموسم. وقال مارادونا في تصريح له عشية انطلاق طواف دبي الدولي للدراجات: «قد يكون هذا الموسم هو الأفضل لنابولي للفوز باللقب لكن أمامه مشكلة، وهذه المشكلة هي يوفنتوس». وأضاف مارادونا الذي قاد نابولي إلى لقبيه الوحيدين في الدوري عامي 1987 و1990: «يوفنتوس لا يخسر أبدًا! وفي حال واصل على هذا المنوال سيكون الأمر صعبًا على نابولي».
هيغواين.. من أفضل اختيار ثانٍ إلى النجم الأول في نابولي
لاعب يملك موهبة واضحة عجز عن إبرازها في ريال مدريد أو منتخب الأرجنتين
هيغواين.. من أفضل اختيار ثانٍ إلى النجم الأول في نابولي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة