فضل شاكر.. من «أمير الرومانسية» إلى «مطلوب للإعدام»

مسيرة الفنان اللبناني الشهير صاحب الصوت العذب.. انقلبت خلال سنتين رأسا على عقب

فضل شاكر.. من «أمير الرومانسية» إلى «مطلوب للإعدام»
TT

فضل شاكر.. من «أمير الرومانسية» إلى «مطلوب للإعدام»

فضل شاكر.. من «أمير الرومانسية» إلى «مطلوب للإعدام»

من «أمير الرومانسية» إلى «مطرب متطرف مطلوب للإعدام».. هكذا يمكن اختصار مسيرة الفنان اللبناني صاحب الصوت الراقي والعذب فضل شاكر.
هذا التحول الجذري في حياته جعله يترك بصمة صادمة لدى جمهوره ومحبيه في لبنان والعالم العربي، فهو الذي يجمع عارفوه على أنه كان بعيدا كل البعد عن العنف والتعصب الديني، تحول خلال سنتين إلى متطرف لا يفارق الشيخ السلفي أحمد الأسير الداعي إلى «نصرة أهل السنة»، رافعا لواء الدفاع عن الثورة السورية.
شيئا فشيئا، بدأت مواقف شاكر تتصاعد مذهبيا وسياسيا على طريق الأسير، لتصل إلى التصويب المباشر على حزب الله اللبناني وأمينه العام حسن نصر الله الذي يدعم النظام السوري. أما الصدمة الكبرى فكانت في يونيو (حزيران) الماضي، إثر المعارك التي شهدتها صيدا (في جنوب لبنان) بين عناصر الأسير والجيش اللبناني، والتي انتهت بفرار كل من الأسير وشاكر إلى جهة مجهولة، وتحولهما إلى مطلوبين للعدالة، إلى أن أصدر الأسبوع الماضي، قاضي التحقيق العسكري الأول رياض أبو غيدا، قراره الاتهامي بملف حوادث عبرا طالبا الإعدام لهما ولـ55 آخرين. وفي رد منه على هذا القرار، علق شاكر، المتواري عن الأنظار، عبر موقع «تويتر» قائلا: «هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. هذا افتراء وظلم ما بعده ظلم، لم أقاتل ولم أقتل أحدا يوما ما». وفيما ترجح بعض المعلومات هروب كل من الأسير وشاكر إلى مخيم عين الحلوة الفلسطيني في صيدا، بات مؤكدا مقتل شقيق شاكر، عبد الرحمن، الذي كان يشغل منصب المسؤول العسكري لدى الأسير، الذي كان له الدور الأبرز في التبدل الذي طرأ على حياة أخيه.
ومنذ أحداث صيدا، لا يزال ظهور شاكر مقتصرا على مواقع التواصل الاجتماعي لا سيما «تويتر». وقد أطلق في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أنشودة بمناسبة «عيد الميلاد»، وأصدر بعدها بيانا، معلنا فيه عدم صلته بالحسابات التي تحمل اسمه، باستثناء واحد، لا سيما أن المزيفة منها تظهره في صورة المحرض على القتل والتفجيرات ومحاربة الجيش اللبناني. وقال شاكر إن إطلاقه الأنشودة جاء لتوضيح ما يحمله الدين الإسلامي من احترام للدين المسيحي. وختم بيانه: «أنا لست إرهابيا أو تكفيريا.. أنا لبناني مسلم، وحقي أن أعيش فيه بكرامتي، رافضا الظلم من أحد أو على أحد».
هذا التحول الذي طرأ على حياة شاكر، والذي وإن لاقى ردود فعل سلبية من عدد كبير من عارفيه وأصدقائه في الوسط الفني والشعبي في لبنان والدول العربية، لا يزال يشكل صدمة بالنسبة لبعض من عمل معه.. «منذ بدايته الفنية عرف شاكر برقته وكرمه ومحبته لأصدقائه من مختلف الطوائف. لم تكن يظهر عليه أي إشارات أو سلوك يعكس تعصبه أو تطرفه»، بهذه الكلمات يصفه ناصر الأسعد، قائد أوركسترا شاكر السابق، الذي رافقه منذ عام 1995 حتى عام 2010. فيما يعد الموزع الموسيقي بلال الزين صورة شاكر التي أظهرته مجرما أنها لا تمت إلى حقيقة هذا الفنان بصلة، مؤكدا «لا يمكنه أن يقتل صرصورا».
ويقول الأسعد لـ«الشرق الأوسط»: «فضل من أكرم وأطيب الأشخاص الذين عرفتهم في حياتي، لكنني أعتقد أنه ضحية الوضع السياسي والطائفي المتردي في لبنان. كان محبا وصادقا وصدوقا مع كل من حوله. معظم أصدقائه المقربين منه كانوا مسيحيين، ومدير أعماله كان كذلك. رغم أنه إنسان مؤمن، فإنه لم يكن يتعامل بطائفية أو تعصب مع أحد»، مضيفا: «التحول الأكبر في حياة شاكر بدأ يظهر في عام 2010، حين أعلن في برنامج (تاراتاتا) أنه سيعتزل الفن عندما ينتهي تعاقده مع شركة (روتانا)». ولا يخفي الأسعد انزعاجه وتأثره من هذا التحول في حياة صديقه وكذلك اعتزاله، وهو ما سبق له أن عبر له عنه مرارا خلال اللقاءات التي كانت تجمعهما، لافتا إلى أنه بقي على تواصل دائم مع شاكر، وكان آخر اتصال بينهما قبل ثلاثة أيام من أحداث صيدا، لكن شاكر كان يبدو مقتنعا وواثقا بما يقوم به رافضا كل ما هو عكس ذلك.
ويعزو سبب التطرف الذي وصل إليه شاكر في الفترة الأخيرة، إلى تأثير وضغوط نفسية ومعنوية ومذهبية تعرض لها من الذين حوله. وبتأثر وحزن يعبر الأسعد عن صدمته من رؤية صديقه في مشاهد لا تعكس حقيقة هذا الإنسان، وفق تعبيره، لا سيما تلك التي ظهر فيها حاملا السلاح، واصفا الفيديو الذي ظهر فيه يعلن عن مقتل اثنين من حزب الله، بـ«الخطأ الكبير».
بلال الزين، الموزع الموسيقي الذي تعاون مع شاكر في أعمال كثيرة حققت نجاحات مميزة، يقول: «ما وصل إليه شاكر هو نتيجة لما يحصل في لبنان، ومن الظلم تصويره مجرما بهذه الطريقة. لا يمكن الحكم على ما حصل انطلاقا من وجهة نظر شخصية، بل الأمر يتطلب تحقيقا شفافا لإظهار الحقيقة». واستنكر الزين الأصوات التي علت متهمة شاكر بـ«المجرم»، كما أبدى استغرابه من الصورة التي ظهر فيها شاكر وكأنه يفاخر بقتل شخصين، واصفا إياه بـ«الحساس والهادئ، وهو ليس عنيفا، ولا يمكن أن يكون كذلك». ويعرب عن اعتقاده أن «أمورا كثيرة أدت إلى استفزاز شاكر وإلى هذا التحول في تفكيره وحياته، لكن ما يمكنني قوله هو أن شهرته وامتلاكه المال انعكس عليه سلبا، ووقع في حفرة حفرت له».
وعلى الرغم من أن شاكر لم يكن عضوا في نقابة الموسيقيين أو الفنانين، فإن نقيبة الفنانين المحترفين في لبنان سميرة بارودي رأت أن «الفنان كأي شخص آخر حر في تصرفاته وخياراته السياسية والدينية. كما تعتزل بعض الفنانات وترتدي الحجاب، قرر شاكر الاعتزال، لكن ما نرفضه هو حمل السلاح»، مضيفة: «بصفتنا مواطنين لبنانيين نحن ضد أي شخص يحمل السلاح في لبنان، وهذا الأمر لا يمكن تبريره. فحماية الناس هي مسؤولية الدولة والجيش، وعلينا تركهما يقومان بمهمتهما كما يجب».
ويبدو واضحا أن نشأة شاكر (45 عاما) وتربيته في مخيم عين الحلوة في صيدا ساهمت إلى حد كبير في هذا التبدل، فهو الذي ولد من أم فلسطينية وترعرع بين أحياء المخيم مغنيا على أسطح مبانيه وفي أعراسه الشعبية، عاد وبعدما اعتلى أهم المسارح العربية والعالمية إلى بيئته الأولى، متخليا عن نجوميته وممتلكاته، وأهمها مطعم «ألحان» الذي كان يملكه في صيدا، ومنزله الفخم، ليسكن في إحدى الشقق فيما عرف بـ«المربع الأمني» التابع للأسير. وقبل «اختفائه» بفترة قصيرة، كان قد بدأ بحملة لمساعدة المدمنين على المخدرات في منطقته وتقديم الدعم المادي لهم ومعالجتهم في مراكز متخصصة.
حتى زواجه لم يكن عاديا، فهو الفنان الرومانسي.. اختار أن يطلب يد الفتاة التي كانت حاضرة في إحدى حفلاته بأن تطلب أغنية لجورج وسوف كموافقة منها على الزواج به، وكان له ذلك في عام 1989، وهو في سن العشرين.
حياته وتربيته الفقيرة التي سبق لشاكر أن تكلم عنها، شكلت في ما بعد مادة دسمة لمعارضي مواقفه السياسية، لا سيما المتطرفة منها، مما جعل بعض الأصوات ترتفع لإدانته، بحجة أنه فلسطيني ولا يحق له التدخل في السياسة اللبنانية، وهو ما نفاه مرات عدة، مؤكدا أنه لبناني ولكن له الشرف أن يكون فلسطينيا، وهو الأمر الذي جعل الرئيس الفلسطيني محمود عباس يمنحه جنسية فخرية، لتعود بعدها وتظهر مطالبات بسحبها منه.
ظهور شاكر للمرة الأولى بصورته الجديدة «ملتحيا سلفيا» كانت في شتاء عام 2012، وهو ما فاجأ الجميع، واستدعى ردود فعل متناقضة تبعتها شائعات كثيرة تفيد باعتزال شاكر، ليعود بعدها وينفيها، مؤكدا أن لديه رسالة عليه تأديتها، وبأنه سيغني للحصول على المال ودعم الثورة السورية. ولم يتردد في الدفاع عن السلفيين بالقول: «أؤيد السلفيين وأنا معهم، هم مسلمون ليسوا متشددين، بل تابعون للسلف الصالح وللنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)»، مضيفا: «كنت قد أعلنت أنني سأعتزل الفن لأنه محرم، لكن أؤمن بأنني أحمل رسالة لا بد من إيصالها قبل الاعتزال، وسأدعم الثورة السورية والنازحين السوريين وكل شخص مضطهد».
ومنذ ذلك الحين، توالت إطلالات شاكر، ومنها تلك التي أكد فيها اعتزاله، عبر حسابه الشخصي على موقع «تويتر»، قائلا: «انتصارا لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، واعتذارا منا لتقصيرنا بحقه، أعلن اعتزالي من دون تردد أو رجوع، وذلك قربةً إلى الله عز وجل».
وفي نهاية يناير (كانون الثاني) 2013 أطل شاكر على قناة «روتانا خليجية»، عبر برنامج «لقاء الجمعة» متحدثا بشكل صريح ومباشر عن اعتزاله الفن، ومواقفه السياسية والدينية، مشيرا إلى أنه سيوظف صوته الجميل في الأناشيد الدينية، وشاركه في الحلقة الشيخ الأسير الذي قال إن فضل كان ولا يزال الداعم الأساسي والمباشر له ولأنصاره.
وفي الإطلالة نفسها لم يسلم الوسط الفني من انتقادات شاكر واصفا إياه بـ«الوسخ» وبأن قلوب الفنانين سوداء وأن الغيرة تسيطر على العلاقات فيما بينهم. وذكر أنه وصل إلى مرحلة صار يعد نفسه فيها شريكا في الدعوة إلى الإثم لإيقاع الناس بالمعصية، كونه كان يدعو في أغانيه إلى الحب والغرام. وأقسم بأن رصيده من أموال الفن بلغ 400 أو 500 ألف دولار، صرفت بشكل كامل، مشيرا إلى أن «أموال الفن تخلو من البركة»، وأكد أنه باع جميع العقارات التي كان يملكها من مدخول الفن باستثناء عقار واحد. وفي إطلالة ثانية على «قناة الرحمة»، في مارس (آذار) 2012، أعلن أن قرار الاعتزال كان نتيجة تردده على مسجد بلال بن رباح، والاستماع الجيد للشيخ الأسير، كاشفا عن تعرضه لعمليات تهديد من قبل النظام السوري ومن الموالين له في لبنان.
علاقة «شاكر - الأسير» تعمقت أكثر فأكثر مع التحركات السياسية و«الترفيهية» التي قام بها الأخير، حاملا لواء «الانفتاح على الآخر» ومواجهة سلاح حزب الله ودعم المعارضة السورية في الوقت عينه، قبل أن تصيبهما سهام الشائعات التي تمحورت حول خلافات مالية و«نسائية»، لافتة إلى خلاف بين الطرفين، وعزز هذه الفرضية مشاركة شاكر في مهرجان نظمته الجماعة الإسلامية في صيدا، الأمر الذي نفاه شاكر لاحقا، وأكده المسؤول السياسي لدى الجماعة الإسلامية في صيدا بسام حمود لـ«الشرق الأوسط»، قائلا: «علاقتنا بشاكر لم تتعد مشاركته في مهرجان صيدا حيث كان أحد المنشدين فيه». وفي حين أكد حمود ألا معلومات لديه عن مصير شاكر والأسير، لفت إلى أنه التقى شاكر مرة واحدة، وكان واضحا من سلوك الأخير أنه لا يملك الثقافة السياسية ويتكلم بعفوية بعيدا عن أي عمق أو خلفية سياسية، مضيفا: «وقدمت حينها نصيحة له بعدم التهور واعتماد أسلوب الإهانات الذي قد يؤدي به إلى الملاحقة القانونية، مهما كان الخلاف السياسي كبيرا مع أي طرف كان، وأبدى حينها تجاوبا، إلى أن فوجئنا بما حصل في عبرا».
وكان شاكر يتباهى بعلاقته مع الأسير من خلال نشره على مواقع التواصل الاجتماعي، عددا من الصور التي تجمعهما في مناسبات عدة، وهي تعكس مدى العلاقة التي كانت تربط هذا الثنائي. وكما في الاعتصامات واللقاءات السياسية في عدد من المناطق اللبنانية، كانت هذه الصور تظهر الاثنين وهما يلعبان «بينغ بونغ»، كما في رحلة التزلج إلى «فاريا» التي حملت بدورها علامات استفهام وأدت إلى مواجهات بين الأسير وأنصاره من جهة والقوى الأمنية وبعض أهالي المنطقة الذين وصفوا الزيارة بـ«الاستفزازية»، إضافة إلى ذهابهما إلى طرابلس في شمال لبنان، في شهر ديسمبر (كانون الأول) 2012، لاستقبال جثامين اللبنانيين الذين سقطوا فيما عرف بـ«كمين تلكلخ» في سوريا.
ومن ضمن المواقف المؤيدة للثورة التي وصلت إلى أقصاها خلال الأشهر الأولى من عام 2013، كان مقطع الفيديو الذي ظهر فيه معلنا «عن تشكيل كتائب مقاومة حرة لنصرة أهل سوريا وتجهيز الشباب المسلم الذي يريد الدفاع عن أعراض المسلمات في سوريا»، مطالبا «الراغبين في تقديم الدعم المعنوي والمادي للجهاد في سوريا بالتواصل معه على بريده الإلكتروني».
لكن وفي شهر مايو (أيار) الماضي، خرق مطرب الرومانسية قرار اعتزاله بمشاركته في مهرجان « موازين» المغربي، معتليا المسرح ومغنيا العديد من أغنياته، من دون أن يتخلى عن «قضيته» في دعم المعارضة السورية، فإذا به يطلب فجأة من جمهوره أن يردد بعده «آمين» على بعض الأدعية التي أطلقها ضد بشار الأسد، مكررا مرات عدة «منك لله يا بشار» و«الله يدمر الأسد».
ومما لا شك فيه أنه كان لهذه المواقف الهجومية نتائجها السلبية على شاكر الذي لم يكن يتنقل في الفترة الأخيرة من دون مرافقين، وبدا ذلك واضحا من خلال الاعتداء الذي تعرض له منزله في صيدا، إثر معارك عبرا الأولى التي وقعت في 18 يونيو (حزيران) الماضي، بين حزب الله وأنصار الأسير، واتهم شاكر حزب الله وحركة أمل بتدبير هذا الاعتداء، وتوعد بالانتقام إذا لم يجر رد المقتنيات التي قال إنها تقدر بمليون دولار أميركي.
ورغم أنه كان قد عرض هذه الفيللا للبيع ليدعم بثمنها المعارضة السورية، فإنها لم تصمد طويلا، وأخذت نصيبها من الإحراق يوم اشتباكات عبرا في 23 يونيو الماضي، بعدما كانت قد صدرت بحقه في 8 يونيو الماضي، مذكرة توقيف بتهمة محاولته مع شقيقه قتل رجل الدين السني الموالي لحزب الله ماهر حمود، في مدينة صيدا.
أما ردود فعل جمهور شاكر لبنانيا وعربيا، فكان تناقضها واضحا عبر وسائل التواصل الاجتماعي.. ففي حين لقي دعم جزء منهم، واصفين إياه بـ«البطل»، كان الجزء الأكبر له بالمرصاد، واصفين إياه بـ«الإرهابي»، بينما ردد بعضهم عبارة: «من التأثير إلى الأسير ونهايته الأسر».
لكن، ومهما كانت ردود الفعل حول تحول هذا الفنان الرومانسي إلى مقاتل، فإن مسيرته الفنية و«الاعتزالية» ستبقى، على خلاف غيره، راسخة في أذهان جمهوره؛ كل حسب وجهة نظره. فهو نجح على امتداد نحو 20 عاما، أن يرسم هوية خاصة به لم يستطع أحد منافسته عليها، وعندما قرر أن يتوقف عن الغناء لم يكن أيضا اعتزاله عاديا.. هو القائل: «فني لم يعد يشرفني»، وطالب جمهوره بعدم سماع أغنياته لأنه يشعر أنه يشارك في الإثم، ولا تكاد صورته ممسكا بيد الفنانة يارا في «فيديو كليب» أغنية «خذني معك»، تغيب عن ذاكرة محبي أغنياته الرومانسية وهم يشاهدون مطربهم في صورته الجديدة.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.