في الغرب وُلد مفهوم «الدولة القومية» بعد مخاض دموي شهدته القارة العجوز. وفي الشرق ما زال هذا المفهوم ملتبسًا، وما زالت الأفكار «الديماغوغية» ترى مفهوم الوطن بذاته شكلاً من الهرطقة.
منتصف القرن السادس عشر الميلادي، وضعت الحروب الدينية في أوروبا أوزارها، لكنها رغم فواجعها أفرزت مفهوم الدولة القومية، الذي أنهى طموح الإمبراطوريات في التوسع خارج حدودها، معتمدة على مد ظلها نحو الجماعات التابعة آيديولوجيا. فقد أصبح لكل دولة حدود متعارف عليها، وسيادة على أراضيها، وأصبح لها شعب يشكل هوية وطنية مهما تنوعت انتماءاته الفرعية.
الدولة القومية كانت بديلاً عن شكل آخر للدولة ما زال بعض الإسلاميين والقوميين يدعون إليه، وهو «دولة الأمة»، وهو مفهوم ظلّ يحرّض الأوروبيين على خوض الحروب الدينية التي شهدتها القارة العجوز في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر، من بينها حرب الثلاثين عامًا بين الكاثوليك والبروتستانت، وكانت ألمانيا مسرحا لها، ثم امتدت لتحرق القارة بأكملها، وأدت لارتكاب الفظائع وتهجير الناس، وأفرزت التعصب الديني الذي أضرّ بالبشرية جمعاء.
بالنسبة للأوروبيين كان مفهوم الدولة القومية ملاذا لمغامرات السياسيين ورجال الدين المصابين بهوس التمدد، وقد دفعوا ثمنًا غاليًا في سبيل إنجاز هذا التطور السياسي والاجتماعي، وكان مفهوم الدولة القومية في وقته يوصم بالفاشية، لأنه يعطي الأكثريات سلطة لا تراعي الأقليات في تلك البلدان، لكن مع المدة تبيّن أن الغربيين أقاموا نظامًا قابلاً للتطور، ليتحول مفهوم الدولة القومية تدريجيًا إلى «دولة الأمة»، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وإقرار ميثاق الأمم المتحدة الذي يمنع «التدخل في الشؤون الداخلية للدول»، ومعه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يضمن لمواطني الدول حقوقهم داخل بلدانهم.
في القرن العشرين استغل النازيون في ألمانيا والفاشيون في إيطاليا الروح الوطنية في إذكاء التعصب والتطرف معتمدين على بدعة رقي وطهر ونقاء العرق، مثلما يستخدم القوميون اليوم في أوروبا هذه المشاعر لإثارة الكراهية ضد الأجانب. وهذا يدل على أن الفكرة مهما كانت سليمة، فسيأتي من يستخدمها لأغراض خاطئة. كانت مشكلتنا في الثقافة التي ضخها التيار الديني، والتي توهن الانتماء الوطني لصالح فكرة الأمة، وتبني كيانًا لا يعترف بالحدود السياسية للدول، ويتجاوزها ويتعالى عليها نحو حدود أخرى دينية ومذهبية وأحيانًا قومية ولغوية، ثم ورثنا مشكلة أخرى هي اختطاف مفهوم الوطن واستملاكه، ليصبح مفصلاً على مقاسات دون غيرها.
فيما يخصنا اليوم، ينبغي مجددًا الإيمان، بقناعة، بحتمية الانتماء لمشروع الدولة القومية، بديلاً عن أي انتماءات عابرة للحدود، والعمل داخله ليستوعب جميع أبنائه ويعبر عن طموحاتهم وتطلعاتهم، ومن ثّم تحصينه من أي اختراق أو استهداف. فالخطر لا يأتي من الخارج دائمًا، فثمة نتوءات تعبر عن نفسها عن قصد أو جهل تؤدي إلى إحداث التفتيت والانقسام الداخلي وإضعاف روح الانتماء للوطن، الذي يجب أن يبقى ملاذا نهائيًا لجميع أبنائه.
الحاضن الوطني
الحاضن الوطني
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة