لم تأخذ الحكومات العراقية التي تشكلت بعد احتلال العراق عام 2003 على محمل الجد ما تنشره أو تحذر منه المنظمات الدولية والوطنية بشأن ارتفاع مؤشرات الفساد وانعدام الشفافية وارتفاع معدلات ونسب خط الفقر، معتبرة كل ما يقال بهذا الشأن مؤامرة تستهدف التجربة الجديدة في العراق.
ولعل السبب الذي يعود إلى إخفاء الساسة العراقيين رؤوسهم في الرمال حيال مثل هذه التقارير المتواترة هو الارتفاع الهائل في أسعار النفط خلال السنوات الماضية مما كان يشكل بمثابة غطاء هزيل يخفي العورة الاقتصادية والسياسية التي سرعان ما انكشفت عند بدء انخفاض أسعار النفط العالمية وعدم وجود احتياطي مالي تتمكن بواسطته البلاد من تغطية العجز بالإضافة إلى عدم وجود موارد أخرى بديلة كالصناعة أو الزراعة أو حتى السياحة الدينية التي لم يجر استثمارها بطريقة سليمة فضلا عن عدم وجود نظام ضريبي فاعل.
العراق الذي يملك ثاني أكبر احتياطي نفطي بعد السعودية ورابع دولة في الإنتاج العالمي للنفط يواجه اليوم طبقا لآراء السياسيين والخبراء الاقتصاديين أكبر أزمة مالية - سياسية - اقتصادية - اجتماعية بسبب تناقص الاحتياطي المالي للبلاد واستمرار ارتفاع العجز في الموازنة المالية لعام 2016 بأكثر من 23 مليار دولار في حين تبلغ رواتب الموظفين والمتقاعدين نحو 40 مليار دولار سنويا. ومع أن موازنة عام 2014 اختفت تماما ولم يعرف أين ذهبت الأموال التي جرى تخصيصها وتزيد على الـ140 مليار دولار قبل هبوط الأسعار فإن رئيس الوزراء العبادي حين شكل حكومته بعد تنحي سلفه نوري المالكي وجد مبلغا قدره ثلاثة مليارات دولار فقط.
وإذا كانت موازنة 2014 قد اختفت تماما فإن ميزانية عام 2015 لم تتضمن أي حصة للاستثمار حيث كانت ميزانية تشغيلية بالكامل (رواتب وأجور). أما ميزانية عام 2016 التي لا تزال موضع جدل بين الحكومة والبرلمان فإنها تعاني من عجز حقيقي وليس مخططا. كما أنها لا تتضمن أي فقرة للاستثمار فحسب بل ربما تكون غير قادرة على تأمين الرواتب والأجور وبالتالي تجري الآن مناقشة مقترح برلماني بخفض رواتب الموظفين والمتقاعدين بنسبة 3 في المائة.
ويرى الخبير الاقتصادي العراقي باسم جميل أنطوان في حديث لـ«الشرق الأوسط» أنه «رغم الحجم الكبير للثروة النفطية في العراق قبل انخفاض أسعار النفط والتي كانت تشكل نحو 95 في المائة من الموازنة التي بلغت نحو 140 مليار دولار أميركي فإن ما حصل وما يحصل اليوم نتيجة انخفاض الأسعار إنما يعود بالدرجة الأولى إلى عدم التفكير بالأيام اللاحقة وبالتالي لم تفكر الطبقة السياسية والحكومات التي شكلتها بتنويع مصادر الدخل والبحث عن بدائل غير النفط». ويضيف أنطوان أن «المشكلة تكمن أيضا في سوء الإدارة حيث هناك في الواقع إدارة عشوائية للاقتصاد العراقي وغالبية الساسة الذين تصدوا للحكم يجهلون إدارة الملف الاقتصادي ولم يفكروا في خلق احتياطي استثماري».
مع ذلك فإن وزير النفط عادل عبد المهدي وفي إطار رده على الانتقادات التي وجهت إلى جولات التراخيص النفطية التي قام بها سلفه حسين الشهرستاني كون أن كلف إنتاج النفط بموجبها أعلى من المردود المالي بعد أن كان دخل العراق بموجب تلك الجولات نحو 340 مليار دولار بين عامي 2009 و2014 وهو مبلغ ضخم جدا لم يجر استثماره بطريقة صحيحة في وقت أكد الوزير أن ذلك كان بمثابة إنقاذ للعراق، وهو ما يعني من وجهة نظر خبراء الاقتصاد أن العراق وفي ظل هذه الإدارة العشوائية لاقتصاده سيبقى بحاجة إلى «إنقاذ مالي فقط ومن مورد واحد هو النفط لكي يدفع الرواتب والأجور».
ورغم استمرار تنامي صادرات العراق النفطية من 2.4 مليون برميل يوميا عام 2003 إلى نحو 4 ملايين برميل حاليا فإن انخفاض أسعار النفط يجعل حتى النفط غير قادر على إنقاذ العراق ما لم يتم اتخاذ تدابير صارمة في كل المجالات والميادين.
ولا يزال الجدل بين الأرقام التي تعلنها وزارة التخطيط العراقية وما تعلنه بعثة الأمم المتحدة في العراق يؤشر فارقا في التعامل مع حقيقة الأوضاع المعيشية في البلاد والتي بدأت تنعكس بشكل خطير على الفئات الاجتماعية الأقل دخلا في البلاد سواء من شريحة المتقاعدين أو المشمولين بشبكة الحماية الاجتماعية أو سكان العشوائيات التي تحيط بالعاصمة بغداد ومعظم المحافظات العراقية باستثناء محافظات إقليم كردستان.
المتحدث الرسمي باسم وزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي يوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «ربع سكان العراق ما زالوا يعيشون تحت خط الفقر بينهم 5 في المائة يعانون من الفقر المدقع». الهنداوي أضاف أن «النسبة تبلغ نحو 23 في المائة علما أن خط الفقر يمثل الحاجات الأساسية الغذائية وغير الغذائية». ويضيف أن «الوزارة أخذت على عاتقها القيام بمهمة رسم سياسة تنموية تستهدف الفئات الأقل دخلا من أجل تخفيض معدل خط الفقر».
في السياق نفسه، تؤشر أرقام الأمم المتحدة إلى مستوى آخر على صعيد ما يعانيه العراقيون لا سيما على صعيد خط الفقر بينما تصنف بلادهم رابع منتج للنفط وثالث مصدر. وتقول بعثة الأمم المتحدة «يونامي» في بيان لها إن «ستة ملايين عراقي من أصل 33 مليونا ما زالوا يعيشون تحت خط الفقر في بلد تتجاوز موازنته المالية السنوية 100 مليار دولار»، مشيرة إلى أنها «تريد التركيز على أهمية العمل في القضاء على الفقر من خلال برامج تنمية مستدامة تهدف إلى خلق مجتمع أكثر شمولية في العراق». وأشار البيان إلى أن «هناك تفاوتًا طبقيًا واضحًا في البلاد من حيث الدخول نتيجة تفشي الفساد على نحو واسع بعد عام 2003 وغياب العدالة الاجتماعية». ودعت الأمم المتحدة إلى أهمية «وضع سياسات شمولية تخفف من الفقر وتطوير وسائل عيش مستدامة لجميع العراقيين بالتزامن مع مساعي السياسيين لمواجهة التحديات الأمنية».
رغم ثرواته النفطية.. العراق يواجه أكبر أزمة سياسية ومالية واجتماعية
الحكومات المتعاقبة لم تأخذ على محمل الجد التحذيرات الدولية من الفساد
رغم ثرواته النفطية.. العراق يواجه أكبر أزمة سياسية ومالية واجتماعية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة