الحقيقة ومواطنها.. من كهف أفلاطون إلى عصر الصورة

كل شيء حدد لنا سلفًا ولسنا دائمًا أحرارًا كمستهلكين

الحقيقة ومواطنها.. من كهف أفلاطون إلى عصر الصورة
TT
20

الحقيقة ومواطنها.. من كهف أفلاطون إلى عصر الصورة

الحقيقة ومواطنها.. من كهف أفلاطون إلى عصر الصورة

يعتقد جميع الناس أن ما يعرفونه ويرونه، هو الحقيقة بالنسبة إليهم وإلى الجماعة التي ينتمون إليها. لكن العلم يقلب، في كل مرة أوهامنا، ويكشف لنا أن أغلب ما اعتقدنا بأنه حقيقي، ليس سوى رأي، ومعرفة تلقائية وظنية، وصور متغيرة. وقد عالج الفيلسوف اليوناني أفلاطون، إشكال الحقيقة في أسطورة سماها بأسطورة الكهف، في كتابه الشهير «الجمهورية». في تلك الأسطورة، يدعونا أفلاطون، إلى تخيل مجموعة من السجناء المحبوسين في هذا الكهف، مقيدي الأيدي والأرجل، بحيث لا يستطيعون الفكاك أو الالتفات إلى الخلف، بينما توجد خلفهم كوة يدخل منها نور الشمس، وتوجد كل الأشياء الحقيقية، لكنهم لا يستطيعون رؤيتها لأنهم مقيدون. لذا فإنهم يكتفون بالنظر أمامهم، ويرون ظلال الأشياء الموجودة خلفهم منعكسة في شكل صور أمامهم. وهكذا يألفون مع الوقت والعادة، رؤية تلك الظلال وكأنها حقائق. وهكذا حسب أسطورة الكهف، فإن السجناء يرمزون إلى كل الناس الموجودين في هذا العالم، بينما الظلال تشير إلى أشباه الحقائق، أو ما ألفوا هم اعتباره حقيقة، وكان شرط الوصول إلى الحقيقة، حسب أفلاطون، هو التخلص من تلك القيود التي تكبلهم في الكهف. هذه القيود التي لن تكون سوى العادات والتقاليد والمعارف الشائعة التي تعلمناها من الكهف الذي نعيش فيه. والكهف هنا، هو المحيط والعالم الذي تربى فيه الفرد وتطبّع به. هذه الظنون والمعارف الظنية، لا يمكن التخلص منها، إلا عن طريق الحكمة، والشك الذي يشتغل به الفيلسوف من أجل الوصول إلى العالم الحقيقي، الذي سماه أفلاطون في أسطورته، بعالم المثل. ونحن نتأمل التصور الأفلاطوني ونشاهد البث الكثيف للصور الإعلانية التي تغزو وتملئ عالمنا، نعيد تأمل هذا التفكيك والانتقال الاستراتيجي الذي عرفه تصورنا للعالم من كهف أفلاطون إلى رينيه ديكارت، وصولا إلى عصر الاحتفال بالصور والاستهلاك، في عصر وسم بعصر الصورة.
هناك عبارتان مشهورتان في تاريخ الفلسفة الحديثة والمعاصرة، تلخصان لنا وتكثف كل التحولات الجذرية التي مست عالمنا. فمن الكوجيتو الحداثي لديكارت (يرى ديكارت أن الأنا، أو الوعي، أو التفكير، أو الذات، أو العقل، هو كل الوجود، وهو القائل «أنا أفكر، إذن أنا موجود»)، إلى الكوجيتو المابعد حداثي: «أنا أستهلك، أنا موجود»، هناك توصيف دقيق لانتقال جذري من مرحلة تاريخية قامت على تصور للإنسان باعتباره مركزا للكون، وباعتباره مركز الثقل الذي تستمد منه كل الموضوعات قيمتها، سواء تعلق الأمر بالطبيعة أو الجمال أو الميتافيزيقا. لكن الإنسان لم يعد في عالمنا اليوم، الثابت الذي تستمد منه الأشياء قيمتها. بل أصبحت الأشياء في مركز الصدارة. لذلك نجد لوك فيري يعلن في كتابه «الإنسان المؤله»، أن الكوجيتو المابعد - حداثي لعصر الصورة، قائم على الاستهلاك، والإفراط في الاستهلاك. وفي سياق هذا الانقلاب، تحضر الصورة باعتبارها الوسيط الذي تشتغل عبره كل الخطابات المعاصرة حول الأشياء. فإذا كان الخطاب الإنساني اشتغل عبر وسيط الكلمة والحامل الورقي منذ أفلاطون، فإن الخطاب حول الأشياء، يشتغل عبر وسيط الصورة البصرية والكلمة. في هذا السياق، يمكننا أن نستحضر الخطابات الإعلانية والصورة الإعلانية، باعتبارهما جزءا لا يتجزأ من عالمنا اليومي. فكل خطاب إعلاني يقدم نفسه باعتبار غايته الأولى: الاهتمام بصحتنا وجمالنا ورشاقتنا. وقد انتبه جان بودريار إلى هذا التوظيف الاستراتيجي والمدروس للنجوم، وخاصة جسد المرأة، حيث يقول انطلاقا من حديثه عن فلسفة الإغواء والإغراء: «يتمثل الإغواء بالنسبة لنا في الشيطان، وقد كان من بين الحيل التي يوظفها، تلك النساء الساحرات الماكرات، الشريرات، أو تلك النساء الجميلات القادرات على الإيقاع والغواية بالرجال. لقد كان الإغواء دائما مرتبطا بالشر والانهماك في الأمور الدنيوية، على حساب الجوانب الروحانية. هكذا كانت النظرة إلى النساء وما تزال في كثير من الثقافات والأساطير المؤسسة». وهو ما يعمل الخطاب الإعلاني على تغذيته، من أجل ضمان السيطرة واستمرار العين المحدقة، التي عبر عنها مشال فوكو، من أجل خلق أجساد طيعة، واستدماجها في صيرورة النظام، وفي قيمه واتجاهاته ومواقفه، حتى نسلك وفق ما يريده القائمون على الصورة الإشهارية، لا كما نختار نحن بإرادتنا. وهذه وظيفة الخطاب الإشهاري، إنه «شرطة جديدة للفكر» وللمواقف والاتجاهات، وهو خالق للحاجة والرغبة والقيمة. ويمكنني أن أتجرأ أكثر، وبتواضع وحذر علمي شديد وأقول: إن الإشهار جعل العالم مليئا بالآلهة، ولم يعد هناك إله واحد، وهذه هي آيديولوجية الإعلان والصورة الإعلانية. فقد بلغ الاهتمام بالنجوم والأيقونات التي يوظفها الخطاب والصورة الإعلانية، إلى حد التقديس، ويكفي أن ننظر إلى عارضات الأزياء ولاعبي كرة القدم.
وحسب السيميولوجي - المهتم بعلم العلامات، سعيد بنكراد: «إن الوصلة الإعلانية لا تبتعد كثيرا في صياغتها لمضامينها عن هذه الصور. فحتى في الحالات التي تحاول فيها إيهامنا أنها تستند إلى قواعد العقل التي تتحكم في الشراء، فإنها تفعل ذلك استنادا إلى منطق صوري، يخفي الدافع والغريزة والانفعال وراء كل فعل شراء. إن الأمر يتعلق بعملية تحرير لهذا الفعل من القيود التي تفرضها المراقبة العقلية والقذف داخل عالم الاستهلاك، متسلحا بانفعالات مستوحاة من مناطق نفسية بالغة التنوع. إن الشراء مرتبط في أغلب الحالات بالانفعالات لا بقرارات عقلية صاحية، ولو تعلق الأمر بمادة استهلاكية نفعية». ورغم أهمية هذا الجانب الإخباري، والبعد الاقتصادي الذي يتضمنه الخطاب الإعلاني، علينا البحث فيما قبل الإخبار والحياد المزعوم للخطاب الإشهاري، من أجل تفكيكه وتحليله والكشف عن خلفياته الآيديولوجية، وكيف يوحد ويوجه ويشكل، ويخلق الحاجة والمواقف والسلوكيات. وإلا فكيف يمكننا تفسير هذا الارتباط الجماهيري مع فريق مثل «البارصا» (برشلونة)، وريال مدريد؟ هذه الفرق التي أصبحت مرتبطة بعلامة «بيبسي» كسلعة أو بـ«كوكا كولا». إن إثارة الرغبات وخلق الحاجة هما بؤرة الرسالة الإعلانية. وعلى هذا الأساس، فإن الرغبة هي في الأصل، ما يمكن أن يحدد باعتباره منتجا للصورة الإعلانية. لذلك وجب التمييز بين الرغبة والحاجة. فالحاجة تستدعي الإشباع، أما الرغبة فتقود إلى أنتاج حالات الاستيهام. وهذا الترابط بين الحاجات وبين الرغبات المتولدة عنها، هو الممر السري الذي يقود إلى فهم المضمون الحقيقي لاستراتجيات الإشهار والصورة الإعلانية التي يشتغل عبرها. وهو ما يمكن أن يتحقق من خلال تحول المنتج إلى قيمة، فأن تشتري «شيئا» لا يعني تلبية حاجة ضرورية وحسب، بل يعني العيش من خلال هذا المنتج ضمن وضعية كل الذين يقتنون منتجا مماثلا.
إن الصورة الإشهارية تمنح مشروعيتها انطلاقا من التفكير في المستهلك، وذلك بتوفير حاجياته وفرضها عليه. بل الأمر يصير كذلك، عندما يفكر في مستقبله وأفق انتظاره، وعندما يحدد نظرته لمعنى الحياة والوجود. فهو قريب منه في جميع أحواله الاجتماعية، ويرافقه في المناسبات حين يحتاج إليه. وهو الحل والبديل، يجيبه عن تساؤلاته التي لم يطرحها أو التي تتبادر لديه، ويملك مفاتيح الإشباع، انطلاقا من آليات اشتغاله وفي بنيته. فهو يحاول أن يخترق الوعي وذلك بإلزام المتلقي وتوجيهه نحو فعل الشراء: «حيث يشير فعل الشراء، أحيانا، إلى التطهير أو إثبات الذات أو الإنفاق كنوع من الخلاص. إن الأمر يتعلق بالصور الأولية التي لا يفسرها السلوك الفردي نظرا لعموميتها، فهي مشتركة بين كل أفراد النوع البشري. وهي صور غامضة، ولا يدركها الفرد بشكل واع، ويطلق عليها سيغموند فرويد (S.freud) البقايا المهجورة»، أي تلك الأشكال النفسية التي لا يمكن لأي حدث في حياة الفرد تفسيرها. إنها تبدو وكأنها فطرية وأصلية، وهي بذلك تشكل إرثا للذهن البشري. «وليس غريبا أن يتوقف الدارسون وهم يحاولون تفكيك آليات الاستراتيجية الإعلانية، عند أبعاد داخل الكائن الإنساني من دون الاهتمام بما تقوله الوصلة عن المنتج وخصائصه. فكل ما تقوله الإرسالية الإعلانية، موجه، في المقام الأول، نحو إرضاء بعض الميول الداخلية التي قد لا يلتفت إليها المستهلك بشكل واع. فهو يعيشها على شكل صور مبهمة، تستوطن لاشعوره في غفلة منه. وهي التي تحدد ردود أفعاله في كثير من الأحيان. فداخل الإنسان تتعايش مجموعة من النزاعات التي لا يحققها دائما بشكل صريح». «فالإشهار والصورة الإعلانية ترومان أن يكون جذابا ومغريا. إنه يمزج داخل الوصلات بين العاطفي والعقلي»، إذ تحكمه ميكانيزمات منطقية وإستاتيكية حتى يقوم بوظيفة الإقناع والتأثير، وذلك عن طريق فك مغالق البنية الذهنية للمستهلك. وهكذا يبدو أن ما كان يراه السجناء هو الحقيقة، وما اعتقده أفلاطون بكونه وهما، أراه اليوم بفعل قوة الخطاب والصورة الإشهارية حقيقة. فانقلب الوهم حقيقة وسارت الحقيقة وهما. وحينما تغيب الحقيقة تصبح الحرية موضع سؤال؟ هل الحرية هي الاختيار حينما نذهب للتسوق بين الأبيض والأسود؟ يجيبنا تيدور أدورنو: «إنها الابتعاد عن الخيارات المحددة سلفا»، وكل شيء في عصر الصورة الإشهارية حدد سلفا، مما يعني أننا لسنا أحرار إلا نادرا!.
مراجع: ميشال مافيزولي، «تأمل العالم، الصورة والأسلوب في الحياة الاجتماعية»، ترجمة فريد الزاهي، الرباط، منشورات المعهد الجامعي، سلسلة ترجمات، 2005. سيغموند فرويد، «علم النفس الجماهيري»، ترجمة جورج طرابيشي، «دار الطليعة»، بيروت، 2006. سعيد بنكراد، «الصورة الإشهارية»، الرباط، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى. شاكر عبد الحميد، «عصر الصورة»، الكويت، سلسلة «عالم المعرفة»، العدد 311 سنة 2005.

* أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي بالمغرب



الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟

الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟
TT
20

الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟

الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟

نقلتْ إلينا «ثقافية الشرق الأوسط» بتاريخ 5 - 4 - 2025 مباراة «ندِّيِّة» بين مساعد الذكاء الاصطناعي والكاتب الفرنسي هيرفي لوتيلي تحت عنوان «روائي فرنسي يواجه روبوت الذكاء الاصطناعي... والنتيجة مذهلة».

وهيرفي لوتيلي حاز جائزة الكونغور عام 2020 عن روايته «الخلل»، وهو من المشهود لهم بالبراعة والبداعة الأدبية، وكان موضوع التباري بين الطرفين كتابة قصة قصيرة بوليسية. لماذا بوليسية والكاتب لوتيلي الذي حاز «الكونغور» ليس كاتباً بوليسياً؟ فروايته التي أحرز بها «الكونغور» سوريالية فيما وُصفت روايته البوليسية «وصية حجر الذئب» بالتقليدية؟ وإذا كان قد أثبت براعته في الرواية، فلماذا لا يكون التباري في الرواية؟ أرغبةٌ في الحصول على النتيجة في وقت أسرع، فلن يكون معقولاً ولا ممكناً أن نطلب من روائي أن ينجز رواية في أسبوع؟ وهذا مؤشر قوي على عدم انطلاق المباراة على أُسس عادلة، وكذلك على تصميم سابق للحصول على النتيجة وإعلانها «إعلامياً»، وهي فوز مساعد الذكاء الاصطناعي «كلاود Claude» على «الروائي» هيرفي لوتيلي في كتابة «قصة قصيرة» بوليسية! وروايته الكونغورية موصوفة بالسريالية! فمن الثابت نقدياً في عالم السرد أنه ليس شرطاً أنَّ مَن يبرع في كتابة الرواية يبرع في كتابة القصة القصيرة، وكذلك لا يحصل العكس. وثابت أيضاً أن ماركيز لم يبرع في كتابة القصة القصيرة كبورخس، ولا الثاني برع في كتابة الرواية كالأول. ومحمد خضير لم يبرع في كتابة الرواية كألبير كامو، ولا الأخير برع في كتابة القصة القصيرة كمحمد خضير. والأمر لا يختلف كثيراً عن براعة السياب في منجزه الشعري الكبير، وتواضع ما كتبه من قصص قصيرة، أو تفوُّق منجز حسب الشيخ جعفر الشعري على ما كتبه سردياً ومسرحياً. ولكن ليس في هذا حسب اللاعدالة التي انطلقت بها مباراة لوتيلي وكلاود، فمن اللامنطقي تحديد البداية وتحديد النهاية لطرفي التباري في كتابة عمل أدبي؛ فمن المعروف أن البداية والجملة الأولى تحديداً أصعب ما يواجهه كاتب القصة، وجملة البداية هي البوابة التي تتدفق عبرها الجمل التالية.

القاصُّ يفكر ملياً في جملة البداية، أما ما يليها من جمل فستنساب كأنها مسحوبة بمغناطيس جملة البداية؛ وقد يتوقف القاص كثيراً قبل أن يختار جملة عمله الأولى؛ فهي منطلقه في مشواره لإبداع ذلك العمل، وهي وحدها التي تتفرد بالتسمية من دون كل جمل النص القصصي ما عدا جملة النهاية التي لا تقلُّ معاناة الكاتب في اختيارها عن الجملة الأولى، فهي المرسى الذى يراه مناسباً لرسوِّ سفينته الناقلة حمولة قصته إلى شاطئ متلقيها. ولذا فتحديد جملة النهاية في مباراة هيرفي - كلاود تجسِّد اللاعدالة فيها وبالاً على الكاتب، بينما هي نوال لكلاود؛ فالأخير غُذْيَّ إلكترونياً كي يبني على ما يقدَّم له من معطيات وتحديداً جملة البداية وجملة النهاية الممتلئتين بحمولة قصصية تُفضي الى محتويات المتن.

مُنح كلاود امتيازاً فيما قيِّدت مخيلة هيرفي وأُثِّر سلباً في حرية خياراتها. ثم إن «مُلقِّن» كلاود رافقه طيلة فترة عمله «فوق رأسه» يوجهه نحو ما غُذْيَّ به، نحو مخزوناته التي يجاريها، لكن هل عملُ المخيلة البشرية المبدعة هو مجاراة ما أُبدِعَ سابقاً؟ كيف إذن سنحصل على أعمال أدبية مبتكرة لا مثيل سابقاً لها؟!

إن تاريخ تطور الأدب والفن هو تاريخ ابتكار اللامُبتكَر واجتراح اللامُجترَح «براءة اختراع»، وهذا هو الأساس في وصول الإبداع إلى عوالم جديدة، ومدارس جديدة، وتقنيات جديدة. ما أتى به جويس وفرجينيا وولف ومارسيل بروست لم يكن مماثلاً لسابق؛ لم يكن مثله ما قد سبقه.

إنها طفرة كالطفرات الوراثية البيولوجية، وكذلك الحال لما أبدعه كافكا، وكتَّاب أمريكا اللاتينية بغرائبيتهم، وفرسان حركة الشعر الحر في أدبنا العربي. والأمر ذاته في كل ابتكار للأساليب والتقنيات الفنية التي تبتكرها المخيلة الإبداعية لأول مرة؛ كاللامعقول والشيئية والفانتازية، التي اجترحتها المخيلة لتُغاير ما مضى لا لتجاريه او تجتره كما يحصل في منتجات الذكاء الاصطناعي. إن وقفة نقدية جادة ستوضح لنا أنه سيُخفق إخفاقاً ذريعاً في تحقيق أقل مما طلبناه فيما تقدم. وهذا ما أثبتته الباحثة الجادة الدكتورة نادية هناوي في تجربة اختباراتها للذكاء الاصطناعي وأعلنته في مقالها «فشل الذكاء الاصطناعي في مضاهاة الخلق الأدبي والفني» المنشور في جريدة «المدى» بتاريخ 30 - 6 - 2024، مُثبتةً فشل الذكاء الاصطناعي في مضاهاة الأعمال الأدبية المتميزة -على الرغم من أن المطلوب منه ليس مضاهاة ما هو مُنجَز، بل تجاوزه لكي يحل محل مخيلة الإبداع البشري التي من طبيعتها تجاوز نفسها بالابتكار.

وفيما يلي نص ما توصلت إليه د.هناوي: «سألنا الذكاء الاصطناعي أن يكتب دراسة نقدية عن قصة (صحيفة التساؤلات) للقاصِّ المعروف محمد خضير، وأخرى عن رواية (المخطوط القرمزي) للكاتب الإيطالي أنطونيو كالا، وثالثة عن قصيدة مالك بن الريب الشهيرة (ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً)، ورابعة عن قصيدة محمود درويش (خطبة الهندي الأحمر)، فكانت إجابات chatGPT-4o ساذجة وبسيطة وإحالات عبارة عن شروح ومعلومات لا جديد فيها البتّة؛ كونها تقوم على تجميع بيانات متوفرة أصلاً على الشبكة العنكبوتية وتجري محاكاتها بطريقة التنظيم والتخطيط مما لا يقدر الإنسان القيام به، لكن ما يميزه عليها أنه قادر على الإبداع وابتكار ما هو غير مودع داخل تلك الشبكة».

وتأسيساً على ما تقدم يمكننا الاستنتاج أن برمجيات الذكاء الاصطناعي لن تُنتج لنا رواية تغيِّر مسار السرد الروائي كـ«يولسيس»، ولا قصيدة تعمل ما عملته «الأرض اليباب» في الشعر الإنجليزي والعالمي، ولا رواية بالرموز والدلالات الفكرية التي ابتدعها نجيب محفوظ في «أولاد حارتنا»، لعل تجارب مماثلة لما قامت به د.هناوي تخفف من غلواء المنبهرين والمروجين لفكرة موت الإبداع الأدبي والفني على يد الذكاء الاصطناعي، الذين قد لا يكون باعث بعضهم الانبهار وحده، فربما يخالطه شيء من الحساسية من المبدعين -أدباء وفنانين- وما يحظى به تفردُهم آنياً وتاريخياً.

وقد أعقبت ذلك تقارير علمية من مواقع العمل الميداني في مراكز الذكاء الاصطناعي تثبت بوضوح عجز الذكاء الاصطناعي في ميدان الأدب والفن، منها ما أكده بيل جيتس المؤسس المشارك في شركة «مايكروسوفت» من أن «بعض المهن ستظل بمنأى عن استبدال الآلات بالبشر»، وقال عن الذكاء الاصطناعي تحديداً: «لن يحل محل العقل البشري في المجالات التي تتطلب إبداعاً وذكاءً عاطفياً»، (موقع البيان رضا أبو العينين 30 - 3 - 2025). كما وصف علماء مختصون، مثل إميلي بندر، عمل النماذج اللغوية الكبيرة بأنها ببّغاوات عشوائية.

أما دوكلاس هوفستاتر، عالم الإدراك الأمريكي فيقول إن كل ما تقدمه هذه النماذج «فراغٌ مذهلٌ مخفيٌّ تحت مظهره البرَّاق والسطحي». أما الباحثة مارلين كنعان، أستاذة الفلسفة والحضارات، فتجزم بأن الذكاء الاصطناعي لن يُشكل خطراً على الفنون والآداب. وتخلص الدراسة إلى «أن الإبداع الحقيقي ينبع من الإنسان، وأن هذه النماذج مجرد أدوات يمكن أن تساعدنا في عملنا»، وأيضا يكمن جوهر الإبداع البشري في وجود أفكار ورؤى فريدة يسعى الفرد إلى نقلها والتعبير عنها، (من دراسة بعنوان: لماذا لا يستطيع الذكاء الاصطناعي التفوق على البشر في مجال الكتابة الإبداعية - موقع البوابة التقنية في 7 - 4 - 2025). المسابقة مؤشر على تصميم سابق للحصول على النتيجة وإعلانها «إعلامياً» وهي فوز مساعد الذكاء الاصطناعي