إعلان بلفورالحلقة3-3 : دخول أميركا الحرب العالمية الأولى دفع الصهاينة إلى التركيز على فلسطين

دعم الرئيس ويلسون وصديقه لويس براندايس لخطط بلفور عجل بحسم المواقف

لويس براندايس  ...الرئيس وودرو ويلسون  ...السير مارك سايكس  ...موسى كاظم الحسيني
لويس براندايس ...الرئيس وودرو ويلسون ...السير مارك سايكس ...موسى كاظم الحسيني
TT

إعلان بلفورالحلقة3-3 : دخول أميركا الحرب العالمية الأولى دفع الصهاينة إلى التركيز على فلسطين

لويس براندايس  ...الرئيس وودرو ويلسون  ...السير مارك سايكس  ...موسى كاظم الحسيني
لويس براندايس ...الرئيس وودرو ويلسون ...السير مارك سايكس ...موسى كاظم الحسيني

في الحلقة الثالثة والأخيرة من سلسلة «إعلان بلفور»، نعرض لتغير صورة المطالبة بوطن لليهود بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى في أغسطس (آب) 1914، ودخول تركيا طرفًا في الحرب مع الألمان ضد بريطانيا في نوفمبر (تشرين الثاني) من السنة نفسها. فبداية اقترحت أسماء بلاد متفرقة طرحتها الحكومة البريطانية، وتبنى تمويلها الأغنياء اليهود البريطانيون. ولم يكن يومها اسم فلسطين مطروحًا آنذاك بل العريش في سيناء، وأوغندا والأرجنتين، لأن فلسطين كانت جزءًا من الإمبراطورية العثمانية التي تربطها علاقات ومصالح مع بريطانيا. ولكن بعد تفجر الحرب بدأت الحركة الصهيونية تبذل جل نشاطها في جعل قضيتهم المركزية تتمحور حول فلسطين. ولذا احتدمت المعارك الدبلوماسية في المحافل المدنية والدهاليز الحكومية، فنشط خصوصًا حاييم وايزمن ومجموعته في لندن، وحاييم سوكولوف في باريس وروما، والقاضي لويس براندايس والصهاينة الأميركيون المقربون من الرئيس وودرو ويلسون في واشنطن لتكتمل الحلقة.
ما كانت الولايات المتحدة الأميركية قبل الحرب العالمية الأولى مهتمة بالحركة الصهيونية على الرغم من ازدياد أعداد المهاجرين اليهود إليها، ولكن تداعيات الحرب لم تعترف بالبعد الجغرافي عقبة، فألقت بظلالها لتدخل في المعمعة أسوة بالآخرين. لقد التزمت واشنطن الحياد طيلة سنوات تلك الحرب ضد ألمانيا لأسباب كثيرة، منها أن هناك أعدادا كبيرة من الأميركيين من أصول ألمانية وآيرلندية لا تحبذ المشاركة. وكذلك لأن كثرة من اليهود المهاجرين الذين ذاقوا آلام الحروب في أوروبا لفترات طويلة، فضلوا استقرار وهدوء حياتهم الجديدة في المهجر. ثم إن سياسة أميركا المتمثلة بالنأي عن سياسات الهيمنة والسيطرة والاستعمار التي عانت هي منها قبل استقلالها، انسجمت مع انصراف الرأي العام الأميركي عما يجري بعيدا عنه، ناهيك بأن أميركا كانت ضد التحالفات والمعاهدات السرية التي كانت شائعة في أوروبا، وتشكل جزءا من فصول مناخها السياسي. لكن الوضع بدأ يتغير عندما بادرت ألمانيا بحلول عام 1917 إلى التضييق على بريطانيا ومحاولة خنقها اقتصاديا، فباشرت بحرب الغواصات في المحيط الأطلسي لقطع طرق الإمدادات عنها.
ولفترة ما تغافل الأميركيون عن بعض ما أصابهم من خسائر بشرية ومادية. لكن برقيات من وزير خارجية ألمانيا آرثر زيمرمان التقطتها بريطانيا عن مشروع عقد حلف مع المكسيك، يتعهد بتزويدها بالسلاح والمساعدات لإقحام المكسيك - بعدما ساءت علاقتها مع أميركا - بحرب لاستعادة الولايات التي احتلها الأميركيون، وهي آريزونا وتكساس ونيومكسيكو، أثار الرأي العام الأميركي. عندها أعلنت أميركا الحرب على ألمانيا في 6 أبريل (نيسان) 1917، وتعهد الرئيس وودرو ويلسون أنه بهذا الإعلان سيوقف كل التحالفات والمعاهدات السرية في أوروبا بعد انتهاء الحرب.

التفاهم الأنجلو - أميركي

أثلج هذا صدر بريطانيا، ورأت فيه قرب نهاية ألمانيا وانتهاء الحرب، وعبر عنها وزير خارجيتها بلفور: «بأنها فرصة رومانتيكية لم أحظ بمثلها في حياتي كلها»، مغتنما المناسبة بترتيب زيارة تنسيق وتعاون حربيين لواشنطن بأسرع وقت ممكن. وجاءت موافقة ويلسون يوم 19 أبريل، مقترحا أن تكون المهمة دبلوماسية وليست عسكرية، ولكن بلفور كان قد غادر لندن بصحبة وفد من 25 عضوا من ضمنهم حاكم البنك المركزي، وجنرال وأميرال ومبعوث من وزارة التسليح. وأحيط سفر الوفد من ميناء غرينوك في اسكوتلندا على الباخرة «أولمبيك» بسرية بالغة، درءا من أخطار الغواصات الألمانية. وانتهت الرحلة البحرية في ميناء هاليفاكس بكندا يوم 20 أبريل، وانتقل الوفد بعدها صباحا، وغادر بواسطة قطار خاص إلى واشنطن، فوصلها بعد يومين، ولقي فيها استقبالا حافلا. وفي اليوم التالي قابل ويلسون، وعقدت المباحثات طوال إقامة دامت لمدة أربعة أسابيع، وكان سبق لبلفور أن أخبر وايزمن في 22 مارس (آذار) عن نيته زيارة أميركا خلال أبريل ومايو (أيار)، كما أطلعه على أن أميركا ستعلن الحرب على ألمانيا، وهو ما حدث في 6 أبريل.

لويس براندايس

كانت زيارة بلفور لمقابلة ويلسون شخصيا ذات أبعاد سياسية تتصل بالتعاون الأنجلو - أميركي المستمر إلى يومنا هذا، على الرغم من أن دخول أميركا بجانب حلفائها ضد ألمانيا تأخر بعض الشيء، إذ خمدت نيرانها بعد إعلان الهدنة يوم 11 نوفمبر 1918. لكن بلفور كان يريد أيضًا التأكد شخصيا من تأييد واشنطن منح الحركة الصهيونية ما تصبو إليه وتبتغيه، ويرغب أيضًا في التعرف عن قرب على القاضي لويس براندايس، أول يهودي يعين في المحكمة العليا الفيدرالية وأحد أشهر أقطاب الحركة الصهيونية الأميركية، والمستشار المقرب للرئيس الأميركي الذي لا يخفي تأييده بما يتعلق بمصالح اليهود في العالم.
بلفور سمع من براندايس عندما التقاه يوم 7 مايو كلمات «أن الآمال متعلقة بوطن قومي، وإسناد دعوة الحركة الصهيونية في تحقيق ذلك، وفقا لقيم الأخلاق والمبادئ الإنسانية لإيجاد وطن لليهود حسب الأماني التي تدعو إليها الطائفة اليهودية بأجمعها»، وهنا طمأنه بلفور بقوله «أنا صهيوني». ولاح بعد رده بأن براندايس كان مرتاحا لما سمعه عندما التقيا يومي 7 و10 مايو، وتعهد بلفور الصريح: «سأفعل كل ما بوسعي لتحقيق تلك الأماني». وكان سبق لويلسون أن أخبر براندايس يوم 6 مايو أنه «ينظر بعين الموافقة على أن تكون فلسطين تحت الحماية البريطانية»، وأنه طمأن الصهاينة الأميركيين لتأييده الأفكار الصهيونية. وهكذا تأكد بلفور بأن واشنطن مع إعلانه، علما بأن بريطانيا كانت تحتاج إلى إرضاء أميركا، لأنها كانت مثقلة بديون الخزانة الأميركية، لدفع نفقات الحرب الباهظة التي بلغت خلال سنواتها 850 مليون جنيه إسترليني.

رسالة روتشيلد

لدى وصول بلفور لندن تسلم رسالة من اللورد روتشيلد قبيل منتصف يونيو (حزيران) يطلب موعدا لمقابلته بصحبة وايزمن، الذي كان تلقى تطمينات براندايس حول لقائه بلفور. وعقد اللقاء بعد يومين في مكتبه بوزارة الخارجية. وكانت مبادرة روتشيلد بأن الوقت بات مناسبا للحكومة البريطانية، لإصدار إعلان يحقق أمل اليهود وأمانيهم، فجاء رد بلفور بالموافقة السريعة على المبدأ، وطلب إعداد مذكرة تحوي ما يحمله هاجسهم. ويذكر وايزمن في مذكراته «التجربة والخطأ» عن ذلك «قابلنا وزير الخارجية، ووضعنا أمامه حتمية الظروف، وأن الوقت مناسب لتقوم الحكومة البريطانية بإعلان مؤكد لتأييد مساعينا، وقد وعدنا السيد بلفور بأنه سيفعل ذلك، وطلب وضع مسودة لإعلان يناسبنا ليرفعه إلى (مجلس الحرب)». ويذكر أن لويد جورج قد ألف بعد تشكيل وزارته 7 ديسمبر (كانون الأول) 1916، لجنة صغيرة أطلق عليها «مجلس الحرب» مكونة من خمسة أعضاء برئاسته، وضمت وزير الحربية ألفرد ميلنر، ووزير الأسطول إدغار بونار لو، وكذلك رئيس الأركان، وممثلا عن حزب المعارضة، وأحيانا وزير الخارجية (بلفور) إذا دعت ضرورة ما يطرح لأخذ القرارات التي تحتاج إلى البث السريع ومنها مسودة الإعلان.
وعند تسلم الضوء الأخضر بدأ الصهاينة اتصالاتهم لتشكيل مجموعة لصياغة المسودة، وكانت مؤلفة من أركان «مدرسة مانشستر الصهيونية» برئاسة حاييم وايزمن وناحوم سوكولوف وإسرائيل سيف وسايمون ماركس وليون سايمون وآحاد حاعام، وأحيانا هاري ساخر، وأطلق على فريق العمل هذا اسم «اللجنة السياسية الصهيونية». وبدأت اجتماعات اللجنة في فندق «إمبريال هوتيل» بساحة راسل سكوير القريبة من محطة يوستون للسكك الحديدية بوسط لندن في بداية شهر يوليو (تموز) 1917. واكتملت المسودة في 17 من الشهر نفسه، ودفعت إلى اللورد روتشيلد يوم 18 يوليو الذي رفعها بدوره إلى بلفور وأرفقها برسالة يقول فيها:
(نص الرسالة - بتاريخ 18 يوليو 1917)
«عزيزي السيد بلفور.. وأخيرا تمكنت من أن أرسل إليك المسودة التي طلبت إعدادها، وأرجو أن تقوم حكومة صاحب الجلالة بإرسال رسالة لي على ضوء هذه المسودة إذا وافقت وأنت عليها، وسأسلمها إلى اللجنة الصهيونية، فيكون إعلانها باجتماع خاص لذلك، كما أنني آسف للقول بأن تحريضات مناوئينا هي لغرض إثارة المشكلات بين اليهود بريطانيا واليهود الأجانب، وقد ابتدأوا بذلك منذ يوم الأحد الماضي، حيث اجتمع مجلس المندوبين (اليهود) وتحدوا أعضاءها المنتخبين الجدد أن يثبتوا إذا كانوا مواطنين إنجليز بالولادة وأنا واحد منهم.. المخلص روتشيلد».
كانت المسودة التي صاغتها «اللجنة السياسية الصهيونية» عبارة عن مادتين؛ تحتوي الأولى على 19 كلمة، والثانية على 27 كلمة وترجمتها كما يلي:
1 - أن تقبل حكومة صاحب الجلالة مبدأ أن فلسطين يجب أن تشرع وطنا قوميا للشعب اليهودي.
2 - إن حكومة صاحب الجلالة ستسعى بكل ما في وسعها من أمانيه لبلوغ تلك المساعي، وتتباحث في الوسائل الضرورية من أجل تحقيق ذلك مع المنظمة الصهيونية.
وزعت نسخ من رسالة روتشيلد المؤرخة في 18 يوليو 1917 على أعضاء «مجلس الحرب» لمراجعتها في بداية أغسطس، وبعد ثلاثة أسابيع أبلغت وزارة الخارجية بأن المسودة موضع اهتمام. وفي بداية سبتمبر (أيلول) وضعت اقتراحات لعمل بعض التعديلات، بينما كان وايزمن، المعروف في أروقة السلطة بحكم عمله مسؤولا عن مختبرات تطوير المتفجرات ومستشارا في وزارة الأسطول، يستغل علاقاته الجيدة مع أغلبية أعضاء «مجلس الحرب» وسكرتاريته من ذوي الميول الصهيونية المعروفين بـ«الصهاينة الإنجليز». وكان العضو الوحيد المعارض هو اللورد كيرزون، وهو أكثرهم خبرة بشؤون الشرق الأوسط.
وايزمن كان يتابع التطورات، ويخشى أن يؤثر رأي كيرزون على البعض، خصوصًا أن أحد الوزراء، إدوين مونتيغيو، كان من أشد المعارضين لمنح الصهيونيين - على الرغم من يهوديته، وهو من أسرة يهودية غنية معروفة - أي تسهيلات لإعلان فلسطين دولة قومية لليهود، لأنه ضد أن يتجمع اليهود في وطن واحد، بل يحبذ أن يكون ولاء اليهود، خصوصًا البريطانيين منهم لوطنهم فقط، وأن يذوبوا في مجتمعه مع بقائهم على ديانتهم.
وبلغ النزاع أشده في اجتماعات مجلس الوزراء عندما شكل مونتيغيو عقبة شديدة أثناء نقاشات منح فلسطين وطنا قوميا لليهود، أدت إلى تأجيل البت في إعلانه بضعة أشهر، أجريت خلالها اتصالات بشخصيات يهودية بارزة سياسيا واقتصاديا، لأخذ وجهة نظرها بهذا الخصوص. وشارك مونتيغيو في هذا الرأي إلى حد ما ممثل حزب العمال المؤيد لسياسة الحزب الاشتراكي الروسي ضد الصهيونية ومشاريعها القومية والعنصرية. أما وايزمن فكان يجمع المعلومات ويرسلها إلى زملائه الصهاينة في أميركا، وعلى رأسهم براندايس.

مجندون يهود

أثناء تلك الفترة تشكلت كتيبة عسكرية من اليهود البريطانيين أطلق عليها كتيبة «درع داود». وكان عدد اليهود عام 1914 ما يقارب 300 ألف نسمة، وعدد الجنود اليهود المنخرطين في المجهود الحربي ما يفوق 10 في المائة من تعدادهم، وكان بعضهم يشغل مناصب قيادية وإدارية في الإدارة أثناء الانتداب على فلسطين، مما هيأ نواة قوة عسكرية استعانت بها في مخططاتها المستقبلية. وحين سئل لويد جورج عن وضع اليهود الروس في بريطانيا أخبره وايزمن أنه مستعد لتجهيز ألفين منهم، فهم مقاتلون جيدون كما أثبتتها «كتيبة البغال اليهودية» بقيادة زيئيف جابوتنسكي في «حملة الدردنيل»، ولديهم الآن الرغبة في الحرب بفلسطين. ارتاح لويد جورج لذلك، وقال إن «هذا نحتاجه في البلاد كما في أيام يوشع قبلهم». ومن خلال ذلك تظهر الطائفة بدورها هذا انتماءها للذود عن وطنها، ونيتها المخلصة خطوة للذوبان في المجتمع البريطاني، لتخفيف المعاناة من شعور الكره واللاسامية من جهة، بالمقابل جلبت الحرب الرفاهية لليهود المهاجرين الذي رفض بعضهم الخدمة في الجيش لأسباب دينية، ولكن معظمهم كانوا يعملون في صناعة ملابس الجيوش وصناعة الأحذية العسكرية، فالغالبية كانت تمتهن حرفا لسد تلك المتطلبات.
قدمت المسودة إلى «مجلس الحرب» مجددا في 3 سبتمبر 1917 أي بعد شهر ونصف الشهر من إعدادها (18 يوليو 1917)، وكان قد أجري عليها تعديلان خلال شهر أغسطس؛ التعديل الأول من قبل بلفور الذي جعل المادتين المنفصلة بنص واحد كرسالة تحتوي على 55 كلمة بإضافة بسيطة هي عبارة عن ست كلمات. وعند نهاية الشهر، أحالها للمراجعة إلى زميله ميلنر، عضو «المجلس»، الذي أجرى لها تعديلات خففت من لهجة المسودة الأولى، لكنه لم يكن متأكدا من حيثيات النصوص القانونية والبروتوكولية، فأحالها في 4 أكتوبر (تشرين الأول) إلى مساعد وزارة الحرب ليوبولد آيمري (جدته لأمه يهودية) السياسي والصحافي المراسل لجريدة «التايمز» لتغطية حرب جنوب أفريقيا عام 1899 - 1902 مع زميله وينستون تشرشل آنذاك. فأتم آيمري المهمة بتعديل أكثر شمولية وأدق محتوى من سابقيه بلغت كلماته 77 كلمة، وأنهى عمله هذا في 24 أكتوبر إلى المجلس الذي اعتمد 68 كلمة منه، وغيّر كلمة واحدة، وحذف تسع كلمات في نهاية النص تتعلق بالتابعية. كذلك غير عبارة «العنصر اليهودي» إلى «الشعب اليهودي»، و«وطن» إلى «وطن قومي»، وحذفت جملة «الاتصال بالمنظمة الصهيونية»، فاعتمدها المجلس بعد مداخلات الوزير اليهودي المعارض إدوين مونتيغيو (ولمن يريد الاستزادة مراجعة كتاب «الصهيونية.. مديات الافتراءات» لمؤلفه د. أحمد سوسة).
أرسلت نسخة من المسودة النهائية إلى ويلسون في 6 أكتوبر لاطلاعه وتوجيهاته، وكان وايزمن على اتصال مستمر ببراندايس للمتابعة والتنسيق حتى وصلت الموافقة في 16 أكتوبر لاعتمادها. وكانت بعض النسخ قد أرسلت إلى مجموعة من زعماء اليهود البريطانيين، ومن ضمنهم هربرت صمويل.

معارضة كيرزون

وفي الجلسة التي عقدت في 26 أكتوبر فوجئ أعضاء «المجلس» الذي كان ينوي التصويت النهائي بالاعتراض الذي قدمه اللورد كيرزون بمذكرة تحت عنوان «مستقبل فلسطين»، شارحا سلبيات الإعلان الذي رأى أنه يسيء إلى سمعة بريطانيا، والإجحاف الذي سيلحق بالعرب، ومغبة إنكار وجودهم المستقبلي بوصفهم أغلبية ساحقة لسكان فلسطين التي زارها شخصيا، وهو على معرفة بها، كونه مندوب الملك في الهند لعدة سنوات وله بالشرق الأوسط وأقطاره، خصوصا الخليج وبلاد فارس، أبحاث وكتب. وطرح توقعات صدقت لاحقا. ولعل ما يؤسف له أن المهتمين بالموضوع أهملوا هذا الجهد أو لم ينتبهوا إليه.
أصبح يوم 31 أكتوبر1917 الذي صادف الجمعة يوما تاريخيا، حيث جرى في الاجتماع الثالث والأخير لمناقشة مسودة الإعلان بتصويت شمل الغالبية من الأعضاء الخمسة، ماعدا كيرزون كما كان متوقعا. وحينما انفض الاجتماع هرع مارك سايكس (أحد كبار مستشاري مجلس الوزراء و«مهندس» الاتفاق السري الشهير لاقتسام البلاد العربية الواقعة تحت الهيمنة العثمانية الذي يحمل اسمه ورفيقه الدبلوماسي الفرنسي فرنسوا جورج - بيكو، وكان معروفا بميوله الصهيونية) مسرعا نحو وايزمن الذي كان يذرع أحد الممرات القريبة من قاعة الاجتماع كزوج ينتظر ولادة زوجته، ناقلا البشرى «إنه صبي»، فانطلق وايزمن لتهنئة زملائه من زعماء الحركة الصهيونية المجتمعين في بيته بشرق لندن. ويذكر شموئيل تلكوفسكي الذي كان بصحبته بأنه (وايزمن): «كان يتصرف مثل الطفل»، وقبلني لمدة طويلة، وألقى برأسه على كتفي ضاغطا على يدي مرددا عبارة «ما زل توف» (أي «مبروك» باليديش)، ورقص الجميع ابتهاجا، إذ حقق الصهاينة بذلك قيادتهم لليهود.
وفي 2 نوفمبر أرسل بلفور ردا لرسالة للورد ليونيل روتشيلد المؤرخة في 18 يوليو جاءت كما يلي:
«وزارة الخارجية: الثاني من نوفمبر 1917
عزيزي اللورد روتشيلد: أعلمكم بمنتهى السرور، نيابة عن حكومة صاحب الجلالة، بالإعلان التالي المعبر على التآزر مع الطموحات الصهيونية والذي عرض على المجلس، الذي وافق عليه: إن حكومة صاحب الجلالة تنظر وتؤيد تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهودها لتسهيل تحقيق تلك الغاية، على أن يفهم جليا بأنه لن يقوم عمل من شأنه أن ينقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق والوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى، وسأكون ممتنا إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علما بهذا الإعلان.
المخلص: آرثر بلفور».

لم يعلن نبأ فحوى الرسالة (الإعلان) أو ينشر بالصحف يومها. وكان رأي بعض كبار المسؤولين في الدولة انتظار نتائج سارة لمجرى المعارك الدائرة في غزة، إلى أن انتهت بسقوطها في 7 نوفمبر، وكذلك بأن تكون أسبقية النشر لجريدة «الجويش كرونيكل» الأسبوعية التي تصدر يوم الجمعة عادة. وصادف الإعلان الرسمي يوم 9 نوفمبر لتأخذ الجريدة الأسبقية. فالخبر بالدرجة الأولى يخص الطائفة اليهودية في بريطانيا، وليس الرأي العام البريطاني. كما أن الأسبوع كان مليئا بالأحداث الكبرى، مثل تقدم الجيش البريطاني نحو القدس الذي بات احتلالها وشيكا، وصادفت فترة الإعلان أيضًا اندلاع ثورة البلاشفة وسقوط الملكية القيصرية في روسيا.

مشاركة عربية

احتفل يهود بريطانيا بالمناسبة بعد شهر من تاريخ الإعلان، أي في 2 ديسمبر، إذ أقيم تجمع كبير لهم في دار الأوبرا بلندن، حضره جمع كبير من الصهيونيين والمؤيدين لهم من الساسة البريطانيين. وكان غريبا حضور نفر من العرب منهم المدعو إسماعيل عبد الله العكي الذي ألقى كلمة بالعربية وترجمها إسرائيل سيف، ووديع كسرواني الذي ألقاها بالفرنسية، ونشرت تفاصيلها في عدد كامل لجريدة «الجويش كرونيكل» الصادرة يوم الجمعة 7 ديسمبر 1917. أما في فلسطين فإن شدة المعارك فيها لم تترك مساحة أو فرصة لانتشار الإعلان، ومن ثم احتلال البلاد بالكامل بعد سقوط القدس 9 ديسمبر 1917، الذي أطلق عليه اسم «هدية عيد الميلاد». وحجبت سلطات الاحتلال البريطاني (التي حكمت البلاد عسكريا حتى يونيو 1920) أي ذكر له، معولة على الاعتقاد بأن الفلسطينيين سينسونه. ولقد تعاقب على حكم فلسطين حينذاك ثلاثة جنرالات أولهم إدموند أللنبي، إلى أن دخلت فترة الانتداب، وأسست فيها إدارة مدنية يدعمها وجود القوات العسكرية المحتلة، وتعيين الوزير اليهودي السابق هربرت صمويل مندوبا ساميا لفلسطين حتى عام 1925. لقد شبه أرثر كوستلر في كتابه «فلسطين 1917 - 1949: الوعد والتحقيق»، الصادر عام 1949، «إعلان بلفور» بقوله «هنا دولة تهب دولة أخرى تعود إلى دولة ثالثة، إنه تصرف غير ممكن، وإقحام غير طبيعي» كقول «الأبيض الأسود». لكن الحركة الصهيونية عرفت كيف تعطي تلك المناسبة بعدا وقداسة توراتية بقولها «منذ قورش الكبير لم يحدث في السجلات الماضية، حادث ولد منه حاسة عالية لسياسة واعية ونظرة بعيدة لدولة راسخة راعية للعدالة الإنسانية نحو اليهود بمنح هذا الإعلان الخالد»، كما ورد في رسالة وايزمن إلى بلفور بتاريخ 19 نوفمبر 1917.
من جهة أخرى، لئن احتفل اليهود بهذه المناسبة في كل أرجاء العالم، إلا أنهم في فلسطين سمعوا بذلك مصادفة. إذ يصف ناحوم غوتمان، الكاتب والفنان، في كتاب «مدينة صغيرة وسكان قليل» عن تل أبيب عام 1918 «أن ضابطا أستراليا من ضمن القوات البريطانية المحتلة سمع بينما كان في جولة تفتيش ليلية مع مجموعة من الجنود في تل أبيب، موسيقى تنبعث من بيت عازف كمان يعزف ألحانا مشهورة. وكان الضابط من عشاق الموسيقى الكلاسيكية، فأخذ ينصت بشغف إلى أن توقف العازف. عندها طرق الباب ليشكر العازف على حسن أدائه، ولما عرف أنه يهودي تطرق في كلام عابر لـ(إعلان بلفور)، فسرى الخبر سريان النار في الهشيم من بيت إلى بيت». ويكمل غوتمان: «هناك كثيرون لم يصدقوا قصة هذا الأسترالي، ولكن ناقلها العازف يصر على مصداقيتها بقوله (إن عشاق الموسيقى لا يكذبون). ولكن بين نسيج الكذب والخيال وبين الرواية والأسطورة، يمكن لمثل هذه القصة أن تجد حتما لها مكانا بينهما».

ردة الفعل العربية

وما إن بدأت موجات الهجرة اليهودية تنهال على البلاد تخللها انتشار الخبر، فكانت كالصاعق لبداية الاحتجاجات والاحتقان الجماهيري عام 1919. تلتها أعمال العنف في بداية 1920، حين انطلقت بمناسبة دينية صادفت عيدي «الفصح» و«علم النبي موسى» الذي يحتفل به المسلمون والمسيحيون، وهو تقليد ابتدأه صلاح الدين الأيوبي بعد هزيمة الصليبيين.
كان الصهاينة عازمين على تأسيس دولة إسرائيل منذ عام 1919، ولقد وصف هذه الحالة الجنرال البريطاني بورن الذي زار فلسطين حينها برسالة إلى بلفور بقوله «إن اليهود يفرضون أنفسهم في كل اتجاه ومنحى، ويطالبون أن تكون المناصب الرسمية لمؤيديهم ومناصريهم، ويتدخلون في كل صغيرة وكبيرة». وهو ما جعل السلطة البريطانية تقلل من دعمها لدعوة تأسيس دولة صهيونية، لأن ذلك يفرض على أرض الواقع ردة فعل العرب الذين تبلغ نسبتهم أضعاف السكان اليهود. ومن المحاولات اليائسة لصد التيار المندفع لفرض الصهاينة للأمر الواقع، كتب العرب رسائل شخصية إلى ملك بريطانيا معتقدين بإمكانية تدخله لصالحهم في القرار السياسي بالشكوى بأن المهاجرين من اليهود الروس ينشرون الشيوعية في البلاد، وأن السلطة المحتلة لم تأخذ أي تدابير للحيلولة دون وقوع ذلك. كذلك لم تثمر محاولة الوفد الفلسطيني الذي سافر إلى لندن في 25 يونيو 1921 برئاسة موسى كاظم الحسيني لتغيير الأمر وحلحلة الموقف. وبعد سنة صدر «الكتاب الأبيض» الرقم 1700 بتاريخ 22 يونيو 1922.
وبعد مؤتمر باريس قامت بعثة أميركية لتقصي الحقائق يرأسها هنري تشرشل كينغ وتشارلز كرين (من 10 يونيو إلى 18 أغسطس 1919). رفعت تقريرها بأن أهل فلسطين (العرب) عارضوا التوسع الصهيوني، وأضافت أن فكرة تأسيس وطن مستقل لليهود مشروع غير مجد، لكن لا أحد في الحكومة الأميركية أبدى أبسط اهتمام لما جاء في تقرير اللجنة، فركن ثلاث سنوات قبل إعلانه في ديسمبر 1922، ولم تعلن الأسباب وبقي ذلك اللغز العنيد الذي لم يحل بعد. ولكن قد يمكن تفسيره بما كتبه هرتزل في يومياته في يونيو 1901: «في يوم ما، وحين تتحقق إقامة دولة اليهود، كل ما يدور عنها سيظهر تافها لا قيمة له. وقد يكتب مؤرخ محايد أنه وجد شيئا قام به صحافي يهودي مفلس يعيش بين أعماق قهر الشعب اليهودي وقمة اللاسامية البغيضة، قد خلق علما من خرقة، وجعل من ذلك الرعاع التعيس أن يلم شعثه حول ذلك العلم».
* باحث كويتي



«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
TT

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

فوجئ الغزيون منذ أشهر قليلة، بإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي لمؤسسة غامضة اسمها «المجد أوروبا»، تحفزهم على الهجرة وتعدهم بالوصول إلى أوروبا.

ورغم كثير من الشكوك والتساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، لم يتوانَ البعض عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم. وبالفعل، سيّرت المؤسسة 3 رحلات جوية لنحو 300 فلسطيني خرجوا من القطاع في ظروف استثنائية ورحلة يكتنفها الكتمان والسرية. لكن الوجهة لم تكن بلدان أوروبا الموعودة؛ وإنما جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.

«الشرق الأوسط» تحدثت إلى إحدى المسافرات على متن تلك الرحلات، وتعقبت تفاصيل تسجيل الأسماء والمبالغ المدفوعة، ورصدت انطلاق الركاب بحافلات صغيرة من دير البلح، تحميها مسيّرات حتى لحظة الوصول إلى مطار رامون الإسرائيلي، ومن هناك تقلع الطائرات نحو نيروبي، ثم جوهانسبرغ، لتترك المسافرين أمام مصير مجهول.

وبين اتهامات دولية بأن المؤسسة تنفذ خطة إسرائيلية - أميركية لإفراغ غزة من سكانها، ورغبة المدنيين بالفرار من جحيم الحرب والجوع، تستمر الإعلانات على وسائل التواصل، ويستمر كثيرون في محاولات النجاة بأي ثمن.


رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

TT

رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)
طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)

لأشهر عديدة استمرت جنين (ب)، من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، تتواصل مع قائمين على إعلان ممول عبر «السوشيال ميديا»، يهدف لاستقطاب الغزيين للهجرة إلى الخارج. وعمد الإعلان إلى تحديد الوجهة «إلى أوروبا» لتحفيزهم بشكل أكبر، باستغلال الحرب الدامية في القطاع.

الإعلان الممول عبر «فيسبوك» حمل اسم مؤسسة «المجد أوروبا»، التي يسمع بها الغزيون داخل القطاع للمرة الأولى، ما أثار الكثير من التساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، إلا أن البعض لم يتوانَ عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم، أو بصيص أمل يمنحهم حياة مختلفة بعيداً عن أصوات القصف وأهواله التي لم تتوقف على مدار عامين.

 

رحلة محفوفة بالكتمان

لم يكن الوصول إلى أحد الغزيين الذين استقلوا تلك الرحلات بالأمر اليسير؛ ففضلاً عن السرية المطبقة التي أحاطت وتحيط بخروجهم من القطاع وسط ظروف أمنية وإنسانية سيئة للغاية، فإن ظروفهم الحالية وأوضاعهم القانونية لم تتثبت بعدُ في البلدان التي وصلوا إليها. ومن قريب إلى آخر، وبشبكة ثقة عبر أفراد الأسرة المقربين، تواصلنا عبر «واتساب» مع جنين التي تحدثت إلينا بعد تردد كثير، وفضّلت عدم ذكر هويتها كاملة، خشية الملاحقة من الدولة الموجودة فيها حالياً.

صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

وتقول جنين لـ«الشرق الأوسط» إنها للوهلة الأولى كانت مترددة جداً في التواصل مع الرقم الذي وضعته المؤسسة في إعلانها، ثم قررت المجازفة والتواصل، وبعد التأكد من أنها تتحدث مع أشخاص يستعملون أرقاماً إسرائيلية، قررت وضع اسمها وزوجها وثلاثة من أبنائها، ضمن من قرروا الهجرة من غزة، بحثاً عن حياة آمنة.

تشير جنين إلى أنها كانت تخشى أن تقع ضحية عملية نصب كما جرى مع الكثير من الغزيين خلال وقبيل الحرب، إلا أنها تلقت تطمينات ممن كانوا يتحدثون معها بأن دفع المال بالنسبة لهم يأتي كـ«خطوة أخيرة ولا يهتمون به»، وهذا ما شجعها على استكمال خطواتها نحو البحث عن أمل جديد لها ولعائلتها التي عانت كثيراً خلال الحرب.

وكشفت السيدة أن الإجراء بدأ بإرسال معلومات تفصيلية عنها وعن أفراد عائلتها الراغبين في السفر، مثل الاسم الرباعي ورقم الهوية ورقم جواز السفر، ومعلومات شخصية متكاملة، ثم قالت إنه طُلب منها مبلغ 1500 دولار عن كل فرد بمن فيهم الأطفال، وإنها أبدت استعدادها لدفع المبلغ عند اكتمال الإجراءات.

تدقيق أمني في الأسماء

وبقيت جنين تتواصل بين الفينة والأخرى مع القائمين على المؤسسة لمعرفة تفاصيل عن مواعيد السفر، مشيرةً إلى أنها كانت تتلقى «تطمينات بأن العملية مستمرة وفق الخطوات المطلوبة»، ولافتةً إلى أن المؤسسة أوضحت لها أن «هناك إجراءات فحص أمني مشددة تجري حول كل شخص» سيخرج من القطاع، حتى لا يكون «بينهم عناصر من (حماس) أو أي فصيل فلسطيني آخر يوصف بأنه إرهابي».

وذكرت أنه بعد 3 أشهر ونصف الشهر تلقت رسالة مفاجئة على هاتفها الجوال، وكذلك هاتف زوجها، تبلغهم بالاستعداد خلال 6 ساعات للتجهّز، وألا يجلبوا إلا الأوراق الثبوتية اللازمة، مشيرةً إلى أنه تم تحويل الأموال المطلوبة للسفر قبل ذلك بأيام عبر حسابات تتعامل بشكل أساسي مع العملات المشفرة، وعبر التطبيقات الإلكترونية للمحافظ الخاصة بالعملات الأجنبية.

من دير البلح عبر مطار رامون

وبحسب جنين، خرجت العائلة بحافلة صغيرة من مكان قرب دير البلح وسط قطاع غزة، نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، حملتها وعائلتها مع نحو 40 شخصاً آخرين، وتوجهوا إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وصولاً إلى نقطة عسكرية في ما يبدو أنها شرق خان يونس أو رفح، ومنها نُقلوا إلى داخل معبر كرم أبو سالم، ثم إلى مطار رامون الإسرائيلي في النقب، ومن هناك سافروا إلى جنوب أفريقيا. ولفتت جنين إلى أنه كان هناك عدد آخر من سكان القطاع وصلوا قبلهم من خان يونس.

ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الحافلة حتى وصولها للموقع الإسرائيلي ما بين خان يونس ورفح، حلقت طائرتان مسيّرتان فوق الحافلة ورافقتاها حتى وصولها لنقطة العبور إلى الداخل الإسرائيلي.

فلسطينيون يمرون قرب عربة عسكرية إسرائيلية مدمرة في مدينة غزة الخميس (أ.ب)

وكانت جنين (ب) وأفراد عائلتها جزءاً من الرحلة الأولى التي تنظمها مؤسسة «المجد أوروبا»، وتمت عملية وصولها ودخولها إلى جنوب أفريقيا عبر دولة أخرى، أسهل بكثير مما واجهه فلسطينيون آخرون احتُجزوا ساعات طويلة في طائرة أقلّتهم من نيروبي بعد أن اكتشفت السلطات أنهم لا يمتلكون أوراقاً كاملة، منها تذاكر عودة، وكذلك ختم جوازات سفرهم من قبل إسرائيل، كما كان في الرحلة التي على متنها جنين (ب).

 

رحلات «المجد أوروبا»

 

وتظهر بعض الشهادات لفلسطينيين أن مؤسسة «المجد أوروبا» نجحت في تسيير 3 رحلات جوية لفلسطينيين من داخل قطاع غزة، من مايو (أيار) حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2025، وكانت الأولى وجهتها إندونيسيا، وعلى متنها 57 من سكان القطاع، بعد أن هبط من كانوا على متنها في بودابست، انطلاقاً من مطار رامون نفسه، في حين كانت الرحلة الثانية في أكتوبر الماضي للانتقال من مطار رامون باتجاه نيروبي، ومنها إلى جنوب أفريقيا، وهي الحال ذاتها مع الرحلة الأخيرة خلال الشهر الماضي.

وأثارت هذه الرحلات العديد من التساؤلات حول مؤسسة «المجد أوروبا»، التي تعرّف نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها «منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا، متخصصة في تقديم المساعدات وجهود الإنقاذ للمجتمعات المسلمة في مناطق النزاع والحروب».

عرب في إسرائيل خلال مظاهرة ضد تهجير الغزيين في 8 فبراير من العام الحالي (أ.ف.ب)

وأشارت المؤسسة إلى أن مقرها الرئيسي في القدس، وتحديداً حي الشيخ جراح، لكن زيارة صحافيين فلسطينيين في القدس إلى الموقع المذكور كشفت أنه لا يوجد أثر فعلي للمؤسسة، وأن المقر الذي وضعته تبيّن أنه لمبنى مهجور.

وتزعم المؤسسة أنها منذ العام الماضي تركز جهودها بشكل أساسي على دعم أهل غزة، مع التركيز على مساعدة الجرحى والمصابين، بما يشمل تسهيل وصول المرضى إلى الرعاية الطبية الحرجة، وتأمين السفر إلى الخارج للعلاج، وضمان مرافقة ذويهم لهم طوال فترة العلاج.

هل «الصحة العالمية» متورطة؟

يفتح هذا الأمر تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت مؤسسة «المجد أوروبا» هي مَن أدارت وتدير فعلياً عمليات خروج بعض الجرحى ومرافقيهم من داخل قطاع غزة، تحت ستار التنسيق مع «منظمة الصحة العالمية»، للعلاج في الخارج، ومن ثم مغادرتهم لدول أوروبية وغيرها.

وتفيد مصادر أمنية من غزة لـ«الشرق الأوسط» بأنه في الحقيقة كان هناك العديد من الرحلات التي تم تسييرها من داخل القطاع في خضم الحرب، وكان هناك استغلال واضح للظروف الأمنية وملاحقة رجال الأمن والمقاتلين وغيرهم، الأمر الذي سهّل عمليات السفر بهذه الطريقة المشبوهة.

وصول عائلات فلسطينية من غزة إلى مطار جنيف لتلقي العلاج في مستشفيات سويسرية بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (إي بي أي)

وتشير المصادر إلى أن هناك عائلات خرجت بذريعة المرض والحاجة للعلاج، وهناك أيضاً مرضى فعليون سافروا إلى دول عربية وأوروبية للعلاج، وذلك من خلال آلية رسمية وعبر منظمة الصحة العالمية التي كانت جهزت قوائم للمرضى ذوي الأولوية، ومنهم جرحى الحرب.

بالعودة إلى مؤسسة «المجد أوروبا»، فإنه عند فتح موقعها الإلكتروني تظهر تنويهات، منها وضع أرقام شخصين حملا اسم «عدنان» و«مؤيد»، وأحدهما يحمل رقماً فلسطينياً والآخر إسرائيلياً، في حين وُضع رقمان آخران من إسرائيل للمؤسسة للتواصل عبر «واتساب»، داعيةً في التنويه من يدخل الموقع إلى ضمان سير إجراءات التنسيق بشكل سليم، ودفع الرسوم عبر الأرقام التي وُضعت، وعدم التعامل مع أي أرقام أخرى. كذلك تحذّر المؤسسة في تنويه آخر من التعامل مع أي وسيط خارجي، مؤكدةً أنه لا يوجد وساطة في عملية التسجيل، أو تسريع الحصول على تصريح أمني للسفر، أو تفضيل شخص على آخر، في طريقة تهدف إلى تنبيه من يسجل للسفر من الوقوع في الاحتيال أو النصب.

تنفيذ لخطة إسرائيلية

ذهب البعض في قطاع غزة وخارجه إلى التأكيد أن المؤسسة تتبع بشكل مباشر جهات رسمية إسرائيلية، وتأتي في إطار تشجيع الهجرة من غزة لتفريغها. وبالإضافة للأخطاء الإملائية الكثيرة التي ترد في تعريفها بنفسها، وحتى في اسمها، فإن الأرقام المستخدمة إسرائيلية، والأهم أن المؤسسة تقوم بالحصول على موافقات أمنية للسفر إلى الخارج، ما يؤكد أنها على صلة وثيقة بالسلطات الإسرائيلية، وتنطلق رحلاتها من مطار إسرائيلي، ونشاطاتها بدأت تبرز بشكل أساسي بعد سيطرة إسرائيل بشكل أكبر أمنياً على القطاع .

وأكثر من ذلك، كشف مختصون في التكنولوجيا، بينهم فلسطينيون وعرب، أن الموقع التابع للمؤسسة تم إنشاؤه في الثاني من فبراير (شباط) من العام الجاري، وتم تسجيله في آيسلندا.

وأقرت مصادر إسرائيلية في تقرير لصحيفة «هآرتس» العبرية بأن مؤسسة «المجد أوروبا» سلّمت الجيش الإسرائيلي ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية قوائم مسبقة تتضمن بيانات الفلسطينيين الراغبين في الهجرة، والذين سجلوا أنفسهم عبر الموقع الإلكتروني أو بالتواصل مع القائمين على المؤسسة.

وبحسب تحقيق صحيفة «هآرتس» العبرية، فإن مؤسسة «المجد أوروبا» مرتبطة بشركة «تالنت غلوبس»، وهي شركة مسجلة في إستونيا، ومؤسسها تومر جانار ليند، وهو إسرائيلي - إستوني. وأشارت الصحيفة إلى أن المؤسسة تنسق مع إدارة في وزارة الدفاع الإسرائيلية أُنشئت بدورها في فبراير من العام الجاري، بهدف «تسهيل الهجرة الطوعية» للغزيين، وقد تم استحداثها بشكل أساسي في أعقاب اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترمب فتح باب الهجرة الطوعية لسكان القطاع.

أب وطفله يصلان إلى مطار جنيف في سويسرا ضمن رحلة علاجية شملت 13 طفلاً و51 عائلة فلسطينية خرجت من غزة بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (أ.ف.ب)

في الثامن عشر من نوفمبر من العام الجاري أصدرت المؤسسة بياناً أكدت فيه أنها تتعرض لحملة تشويه وتشهير كبيرة، بهدف تجريد سكان غزة من حريتهم في اختيارهم وتقرير مكان عيشهم، وإجبارهم على البقاء تحت خطر مباشر ومعاناة يومية، وحرمانهم من أي فرصة لإنقاذ حياتهم أو تأمين مستقبل أفضل لأطفالهم، مؤكدةً أنه لا علاقة لها بإسرائيل سوى تنسيق عمليات الخروج معها، ومشددةً على أنه لا علاقة لها بـ«الموساد» أو أي جهة استخباراتية.

 

تبادل اتهامات ومصاير مجهولة

واتهمت المؤسسة دبلوماسيين يتبعون السلطة الفلسطينية باستدعاء المسافرين الذين غادروا من خلالها للاستجواب والتهديد.

ويقول أحمد (غ) البالغ من العمر (33 عاماً)، مفضّلاً عدم ذكر هويته، والذي غادر عبر الرحلة الثانية لمؤسسة «المجد أوروبا»، إنه لم يتلقَّ أي تهديدات من أي جهة فلسطينية عقب مغادرته قطاع غزة. لكنه أشار في المقابل إلى أنه تلقى تحذيرات من بعض العاملين في إحدى السفارات الفلسطينية من التعامل مع هذه المؤسسة، وأنه تم الاستفسار منه عن آلية التسجيل والخروج، والأشخاص الذين قابلهم في مطار رامون، بحسب ما أوضح لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح أحمد أن رحلته انطلقت من مطار رامون إلى جنوب أفريقيا عبر نيروبي، مشيراً إلى أنه «كان سعيداً جداً بالهجرة مع زوجته ومغادرة قطاع غزة»، وإن اصطدم بواقع حياتي صعب نسبياً.

صورة مقتطعة من فيديو لطائرة ركاب تحمل فلسطينيين من غزة هبطت في مطار جوهانسبرغ ورفضت السلطات إدخال المسافرين القادمين على متنها (وسائل تواصل)

ويلفت الشاب إلى أنه بعد مغادرتهم مطار نيروبي لم يعد أحد من المؤسسة يتابع ظروفهم، وبقي مصيرهم مجهولاً، دون أن يكون هناك من ينتظرهم في جنوب أفريقيا، مشيراً إلى أن وفداً من المؤسسة استقبلهم فقط في مطار رامون، وفي مطار نيروبي، وبعد مغادرتهم الأخيرة لم يكن أحد برفقتهم على متن الطائرة أو في مطار «أو آر تامبو» في جوهانسبرغ. وقال: «تُركنا نواجه مصيرنا وحدنا بعدما نقلتنا مركبات كانت تنتظرنا أمام المطار إلى بيوت ضيافة بسيطة وعلى نفقتنا الشخصية». علماً إن السلطات في جنوب أفريقيا اعلنت رفضها استقبال مزيد من الوافدين الفلسطينيين على متن هذه الرحلات خوفاً من أن تكون فعلاً تنفيذ لمخطط إسرائيلي بإفراغ غزة والقطاع من السكان.

ولكن على الرغم من كل ذلك كله، ما زال أحمد وزوجته سعيدين بخروجهما من الواقع المأساوي الذي يعيشه السكان في قطاع غزة، كما قال.

 

بين «حماس» والسلطة

تقول المصادر الأمنية بغزة، وهي من حكومة «حماس»، إنها لم تكن تعلم بحقيقة تلك الرحلات والجهة التي تقف خلفها، وكان الاعتقاد السائد أنهم من المرضى، أو ممن لديهم أقارب في أوروبا، ويتم تسهيل سفرهم عبر سفارات تلك الدول للمّ الشمل.

وأكدت المصادر أنها لم تستجوب أو تتواصل مع أي من المسافرين للحصول على المعلومات اللازمة لهم، ولكنها تعمل حالياً لمنع محاولات جديدة من السفر.

العمليات الإسرائيلية تسببت في تهجير 40 ألف فلسطيني حتى الآن بشمال الضفة الغربية (رويترز)

وبينما لم يصدر تعقيب رسمي من السلطة الفلسطينية على الأحداث أو الاتهامات التي وُجهت إليها من مؤسسة «المجد أوروبا»، اكتفت «الخارجية الفلسطينية» بإصدار بيان حذرت فيه من «الوقوع فريسة لشبكات الاتجار بالبشر وتجار الدم ووكلاء التهجير»، مؤكدة عزمها على ملاحقة المنظمة واتخاذ الإجراءات القانونية ضدها.

وكانت سفارة فلسطين لدى جنوب أفريقيا أصدرت في الرابع عشر من نوفمبر من العام الجاري تحذيراً شديد اللهجة من استغلال جهة «مضللة ومشبوهة»، كما وصفتها، الأوضاع الإنسانية لسكان القطاع، وخداعهم لتنظيم عملية سفرهم بطريقة غير قانونية وغير مسؤولة. كما قالت في أعقاب أزمة الرحلة الأخيرة التي وصلت إلى جوهانسبرغ، مؤكدةً أن تلك الجهة حاولت التنصل من أي مسؤولية بمجرد ظهور التعقيدات والإجراءات الروتينية عند وصول المسافرين إلى الدولة المحددة لهم للسفر إليها.

وتقول مصادر أمنية من حكومة «حماس» إنه بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ورغم أن الظروف الأمنية غير مستقرة وتحاول إسرائيل رصد أي تحركات، فإنها ستسعى لمنع مثل هذه الرحلات المشبوهة، وإنها ستتصدى لمثل هذه المحاولات، لكنها لن تعترض أي رحلات هدفها سفر المواطنين للعلاج أو حالات إنسانية، لكن مثل هذه العمليات التي تقف خلفها جهات مشبوهة ستتصدى لها وستعمل على منعها، لمنع تنفيذ الخطة الإسرائيلية - الأميركية، الهادفة إلى تهجير السكان.

الملاحقة والاستمرارية

ويبدو أن المؤسسة تعاني من ملاحقة حقيقية، وتتعرض لحملات إلكترونية مثل الاختراق، ولإجراءات قانونية تُتخذ ضدها من قبل بعض الجهات، الأمر الذي دفع تطبيق «واتساب» لحظر أرقامها المعلنة عبر وسائل التواصل وعبر موقعها الإلكتروني.

فلسطينيون يحملون لافتات كُتب عليها: «لا للتهجير» و«غزة تموت» خلال احتجاج في مخيم النصيرات بغزة (د.ب.أ)

واتهمت المؤسسة في منشور لها عبر «فيسبوك» جهات لم تسمها بأن عملية حظر أرقامها جاءت كجزء من «الهجمة» الموجهة ضد نشاطاتها، مؤكدةً الاستمرار في عملها، وأنها تعمل على معالجة هذه القضية وترتيب أرقام جديدة للتواصل، وأنها ستتواصل مع متابعيها من أرقام بديلة عند جهوزيتها.

وعلى الرغم من كل هذا الضجيج حول المؤسسة وعملها، فإنها ما زالت تواصل استقبال طلبات المسافرين من سكان قطاع غزة، كما يظهر على موقعها الإلكتروني، ومن خلال صفحتها على «فيسبوك»، إلى جانب استمرار الإعلانات الممولة التي تظهر للغزيين عبر شبكات التواصل.

الغزي نادر (ع)، من سكان مدينة غزة، والذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو يبلغ من العمر (41 عاماً)، ومتزوج ولديه 4 أطفال، كان أحد من تسابقوا للتسجيل مجدداً لدى المؤسسة، منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، وما زال في عملية تواصل مستمر مع الأرقام التي وضعتها المؤسسة.

غروب شمس خريفية في غزة (رويترز)

ويقول نادر إن الظروف الحياتية الصعبة أجبرته على التفكير في الهجرة، والبحث عن مستقبل أفضل له ولعائلته، معرباً عن أمله أن تنجح مساعيه في السفر، وأن يحالفه الحظ كما حالف آخرين.

وأضاف: «كل ما أريده أن أخرج من قطاع غزة إلى أي دولة، ومنها سأغادر إلى أي جهة كانت... ما يهمني أن أرتاح من حياة الخيام، وأن أبحث عن حياة آمنة لي ولزوجتي وأطفالي».


فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
TT

فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)

فاز محمد الحلبوسي، أحد أكثر الفاعلين السنة في العراق تعقيداً، بعشرة مقاعد برلمانية عن بغداد، و35 مقعداً من أصل 329، عن عموم البلاد في الانتخابات التي أُجريت في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

تبدو هذه الأرقام استثنائية لرجل أُقيل في مثل هذه الأيام قبل عامين من منصبه رئيساً للبرلمان، وهو أعلى موقع خصصه العرف السياسي للعرب السنة بعد الرئيس الراحل صدام حسين.

ما الذي جرى في مسيرة رئيس حزب «تقدم» خلال فترة كانت مزدحمة بالعواصف منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023؟ بينما كانت فصول عنيفة تُطوى في الشرق الأوسط، كان عراقيون يزورون محافظة الأنبار، مسقط رأس الحلبوسي غرب العراق، يلتقطون الصور لشوارع معبّدة وملاعب وأبنية جديدة، ويتساءلون: «أليست هذه نفسها صحراء الرجل الذي عاقبته إيران؟».

أظهرت الأرقام النهائية للانتخابات، أن الحلبوسي الذي تنافس للمرة الأولى على أصوات الناخبين في بغداد قد تفوق فيها بنحو 72 ألف صوت على نوري المالكي، زعيم ائتلاف «دولة القانون» الذي جمع أصواتاً أقل بنحو 20 ألفاً. في المشهد الحزبي، فاز «تقدم» منفرداً بفارق 8 مقاعد على الحزب الديمقراطي الكردستاني الخبير في لعبة الاقتراع منذ 3 عقود.

تشكل عودة الحلبوسي نموذجاً فريداً لعلاقات القوة بين الجماعات الطائفية في العراق، وكيفية النجاة من أشدّ معاركها ضراوة. ومثلما تثير العودة أسئلة حول كيفية التعامل أو التعايش مع النفوذ الإيراني في البلاد، تسلط الضوء على نموذج حزبي صارم يتنامى في مجتمع سني لم يعهد خبرة في العمل السياسي، لكنه يستعيد شيئاً من التقاليد الكلاسيكية في احتكار النفوذ وتصفية المنافسين.

الحلبوسي مهندس مدني في منتصف عقده الرابع من بلدة «الكرمة» بمحافظة الأنبار. ومن شركة كانت تُنفذ مشاريع محدودة للبنى التحتية في الفلوجة، وجد طريقه إلى استثمار أشد صعوبة وتعقيداً في السياسة، تتقاطع عنده جماعات شيعية وسنية، تتنافس تحت ظلال إيرانية.

دخل الحلبوسي البرلمان عام 2014. انتقل من لجنة «حقوق الإنسان» التي همّشتها الحياة السياسية، مباشرة إلى المعركة الأساسية؛ صار عضواً في لجنة المال عام 2015 ورئيسها عام 2016. هناك تعرّف على وسطاء الموازنة، إذ يمثلون شبكات الولاء مقابل المنفعة، والخطأ فيها قاتل في لمح البصر.

لم ينتبه اللاعبون الأساسيون يومها إلى شاب سني بلحية خفيفة وتسريحة حديثة، لم يبد لهم أنه قد يثير القلق. الحلبوسي نفسه لم يكن قد اكتشف بعد أين ستقوده أحلامه، لكنه سرعان ما بدأ يعبر عن نفسه. بعد سنوات وجدته قوى شيعية مرتابة وسنية ناقمة، على حد سواء، خطراً عليها. وتم وصفه على نطاق واسع برأس تلعب فيه شياطين «الزعامة»، فلعب معها.

محاولات دامية

بعد 2003 عاد الحلبوسي إلى جامعته في بغداد لإكمال دراسته العليا. كان العرب السنة خارج مطبخ السياسة في أعقاب الغزو الأميركي. تسرد وقائع عديدة على مدى العقدين الماضيين كيف قادت محاولات نخب سنية لدخول الحياة العامة إلى نهايات مميتة، سُفكت فيها دماء.

في يونيو (حزيران) 2005 توسعت لجنة كتابة الدستور لتضم 15 ممثلاً عن العرب السنة الذين كانوا بعيدين عن أهم نقاشات حول مستقبل البلاد. التوسع شمل مجبل الشيخ عيسى وضامن حسين عليوي وعزيز إبراهيم، الذين انخرطوا فوراً في معارضة صياغة بنود في الدستور. في يوليو (تموز) من العام نفسه، كان الثلاثة يتناولون وجبة غداء في أحد المطاعم وسط بغداد، قبل أن يفتح مسلحون النار على سيارتهم، ويُقتلوا في الحال.

على طريق مزدحم بحي الداوودي غرب العاصمة، كان عصام الراوي، وهو أستاذ علوم الأرض في جامعة بغداد، في طريقه إلى مكان عمله حين قتله مسلحون في أكتوبر 2006. كان الرجل، في أعقاب تفجير المرقدين العسكريين في سامراء، قد قطع الطريق راجلاً إلى مرقد «الكاظم» المقدس لدى الشيعة، ليصلي، في محاولة لإطفاء فتنة تتفجر في كل مكان. يقول كثيرون إن جماعة أصولية عاقبته على ذلك.

في العام نفسه، قتل شاكر وهيب، القيادي في تنظيم «القاعدة»، زعيمَ قبيلة كبيرة في محافظة الأنبار كان يدعو إلى إشراك السكان المحليين في الحياة السياسية، وانخراطهم في مؤسسات الأمن بالتزامن مع انسحاب كان مأمولاً للقوات الأميركية.

في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2009، شنّ تنظيم «القاعدة» هجوماً على مبنى حكومة الأنبار، أسفر عن مقتل نحو 30 مسؤولاً وعنصر أمن وإصابة العشرات. من بين الجرحى المحافظ قاسم الفهداوي الذي اقترب منه انتحاري خمسة أمتار.

وشاهد سكان الرمادي يومها مروحيتين فوق سطح مستشفى المحافظة لنقل الفهداوي إلى منشأة طبية أكثر تخصصاً، لعلاج إصابات خطيرة في القدم والساق.

نجا الفهداوي وانتكست المدينة خلال محاولتها التعايش مع النظام الجديد.

الطريق بين الكرمة وبغداد

خلال تلك الأيام الدامية، كان الحلبوسي يتنقل بين مسرحين قاتلين، بغداد والكرمة. الطريق الذي يُقطع براً بينهما بساعة ونصف يربط بين ملعبين لانتحاريين وأحزمة ناسفة وميليشيات، ومئات الآلاف من الضحايا من كل الطوائف.

غادر الحلبوسي بغداد عام 2010 ناجياً بشهادة ماجستير في الهندسة إلى مدينة ينشط فيها سياسيون من «الإخوان المسلمين» والقوميين العرب وبقايا من «حزب البعث». كانوا جميعاً محبطين، يقدمون أجندة سياسية قائمة على المظلومية، ويفتقدون الفاعلية. كانت قائمة «العراقية» بقيادة إياد علاوي التي راهنوا عليها «سنياً»، قد تلقت ضربة موجعة بإعلانها الفائز الخاسر في انتخابات 2010.

مع هؤلاء، جاءت أخطر 6 أشهر في تاريخ السنة خلال العقدين الماضيين. ففي 30 ديسمبر 2013، أمر نوري المالكي، رئيس الحكومة آنذاك، باستخدام القوة لفض اعتصام في الأنبار كان امتداداً لاحتجاجات متفرقة في مدن وسط البلاد وجنوبها، لكن المالكي عدّ السنة «متمردين». اعتقلت قوة حكومية سياسيين سُنة بعد اشتباكات، من بينهم أحمد العلواني، أبرز معارضي المالكي، اقتيد إلى محاكمته بتهم إرهاب، وقُتل شقيقه ببشاعة.

في 30 أبريل (نيسان) 2014 انتخب العراقيون البرلمان الثالث. يومها وقعت هجمات انتحارية قرب مراكز اقتراع في الرمادي وبعقوبة وتكريت وكركوك، وقُتل موظفون في «مفوضية الانتخابات» وضباط كانوا يحمونهم، كما شغّلت الأحزاب السُنية دعايتها سراً بسبب المخاوف. وحصل الحلبوسي على مقعد بأصوات ناجين، بشكل ما، من الموت.

بعد شهر، في 29 يونيو 2014، أعلن «داعش» قيام دولته. اضطرت الحكومة، بضغط من التحالف الدولي، إلى تجنيد شبان من العرب السنة لمقاتلة التنظيم، وكانت القبائل في الأنبار تجرب التحالف مجدداً مع القوات النظامية مع مجيء حيدر العبادي إلى رئاسة الحكومة في محاولة لنسيان جراح فتحها المالكي وتركها مفتوحة.

رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي خلال زيارته طهران في سبتمبر 2013 (إيرنا)

«نادي العجز» السياسي

كانت الكتلة السنية «متحدون للإصلاح» بزعامة أسامة النجيفي الخيار السني الوحيد الذي وجد «حزب الحل» الذي ترشح عنه الحلبوسي الشاب إلى البرلمان عام 2014. رغم أن الكتلة كانت أقرب إلى نادٍ مغلق يخفي عجزاً بنيوياً عن إنتاج السياسات، لكن الجمهور السني صوّت لها في محاولة لتحدي قوى شيعية تتفرد بالسلطة، وتنظيمات إرهابية تمنعهم من التعامل معها والانخراط فيها. كان ذلك تكليفاً بمهمة شبه مستحيلة.

النجيفي، الذي ترأس برلمان الدورة الثانية حتى 2014، وآخرون من أمثال طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية حتى ديسمبر 2013، ورافع العيساوي وزير المال حتى مارس (آذار) 2013، كانوا آخر من وُضعوا في فوهة المدفع أمام المالكي، وسقطوا من دون خطط بديلة للعودة، وبكثير من الشكوى والعزلة.

سرعان ما انقلب الحلبوسي على هذه المقاربة في «إدارة التهميش»، كان يريد التحرك إلى قلب النظام وليس البقاء في هامشه، معارضاً معزولاً.

عثر الحلبوسي على مقعده في البرلمان. واحتل «داعش» ثلث العراق. سرعان ما اجتذبت معارك التحرير تشكيلات عسكرية مختلفة، وأخرجت النفوذ الإيراني من الكواليس إلى العلن. وانتشر مستشارو «الحرس الثوري» الإيراني مع فصائل في «الحشد الشعبي»، تحت كل سماء حلّقت فيها مقاتلات الجيش الأميركي.

بعد 3 سنوات من القتال تراجع «داعش» عن مساحات شاسعة واستعادت بغداد أراضيها في الموصل والرمادي، وبدأت معركة نفوذ جديدة. كان الحلبوسي يعود إلى الكرمة في إجازته عبر نقاط تفتيش نصبتها فصائل منتصرة.

نسخة سياسية جديدة

لقد أمضى الآن 3 سنوات في البرلمان، تجربة وضعته بين «أسماك قرش» تتعاظم على أيديهم إمبراطوريات مال وسلاح، وامتد شيء منها إلى مساحات محررة من «داعش». قالت فصائل مسلحة إنها «صاحبة الفضل» في التحرير، ولها الحق في حماية الأمن في كل مكان رسمته دماء مقاتليها. حينها أصبح الحلبوسي محافظاً يحلم بإمبراطورية. كان ذلك في أغسطس (آب) 2017.

تزامن التعاظم المضطرد للنفوذ الإيراني في العراق مع ظهور نسخة جديدة من السياسية السنية. بينما كانت القوى الشيعية بحاجة إلى وسطاء سنة لتوطيد سلطتها، بدا أن الحلبوسي كان يريد ما هو أكثر، بتقاسم النفوذ. أصبح الآن رئيساً للبرلمان، وأزاح عن وجهه قناع الشاب الطموح وسحب كرسياً من الصفوف الخلفية إلى المائدة الرئيسية.

يرى أحد المسؤولين الحكوميين الذين عرفوا الحلبوسي عن قرب أن «ظاهرة الرجل نشأت من تفاعل الحاجة الاجتماعية داخل البيئة السنية بعد انهيار نموذج (الزعيم المنقذ)؛ ثم التوقيت والتمركز الصحيحين بأداء واقعي». يقول سياسي معارض للحلبوسي إنه «مشروع ديكتاتور جديد».

انتبه خصوم الحلبوسي إلى تحالفاته الواسعة بين جماعات متنافسة في العراق (د.ب.أ)

«أكثر من اللازم»

قاد الحلبوسي البرلمان منذ 2018... سرعان ما تعرضت المنظومة الشيعية إلى الاهتزاز بفعل التنافس على تمثيل المكون الأكبر، وأمام احتجاج شعبي في أكتوبر 2019 سقط رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، وغاب عن المطبخ قاسم سليماني، قائد «قوة القدس» في «الحرس الثوري».

لم يمنع الحلبوسي نفسه من التعبير عن النسخة الحديثة من السياسة السنية. ديناميكيته سمحت له بالتنقّل بين الجبهات لبناء تحالفات واسعة. يقول ذلك سياسيون شاهدوا كيف «قدم الحلبوسي نفسه عرّاباً أمام بيئة الاحتجاج بينما كانت الأحزاب الشيعية تفقد المبادرة». ويقول مقربون منه، إن «فاعليته تلك الأيام تعبير عن حضوره في النظام، بوصفه شريكاً».

انتبهت المنظومة الشيعية إلى الحلبوسي كأنها لم تعرفه من قبل. قرر الجميع إخراجه من اللعبة. بالنسبة لمنافسين سنة وشيعة، فإن الحد المسموح للحلبوسي هو الاستفادة من التوازن دون التحول «أكثر من اللازم إلى سمكة قرش»، على حد تعبير قيادي شيعي.

الحال أن الحلبوسي أُقيل من رئاسة البرلمان وشُطبت عضويته في نوفمبر 2023. في اليوم التالي خرج أمام الصحافيين ملوّحاً بنسخة من الدستور لـ«تصحيح خطأ» وقعت فيه المحكمة الاتحادية. كان هذا فعلاً سياسياً غير مسبوق على المستوى السني.

قيل على نطاق واسع إن خصوم الحلبوسي من العرب السنة اشتكوا لدى حلفاء شيعة من فائض قوته، وإن إيران في النهاية قررت إعادة التوازن. يقول سياسي عراقي إن فريق رئيس حزب «تقدم» تعامل مع القرار بوصفه «محطة فاصلة لإعادة إنتاج المشروع، دون الخوض في السياق السياسي للأزمة». كان هذا أمراً غير معهود في الحياة السياسية للسنة العرب.

بعد شهر واحد، خاض الحلبوسي انتخابات مجالس المحافظات في اختبار حاسم لقدرته وهو معاقَبٌ من دون منصب، وفاز بـ21 مقعداً. يقول قيادي من حزب «تقدم» إن شطب العضوية تحول إلى وقود لإشعال نيران الحملة الانتخابية، ونجح الأمر.

أصبح الحلبوسي الآن أكثر شراسة، بل أقل تساهلاً مع الثغرات في مشروعه، وأظهر ميلاً للصرامة الحزبية. كان على استعداد لتصفية أقرب المقرّبين. في يوليو 2024 تفاقمت شكوكه حول ذراعه اليمنى في حزب «تقدم» بالأنبار، المحافظ السابق علي فرحان، من حيث إنه منفتح ربما على خيارات سياسية مختلفة. حوكم الرجل بتهم إساءة استخدام المنصب، وقضى فترة في السجن.

في أبريل 2025، برأ القضاء الحلبوسي من تهمة التزوير التي أُقيل بموجبها. بعد شهر سيقضي القاضي جاسم العميري، الذي أقاله، إجازة التقاعد مغادراً المحكمة الاتحادية.

بدأ ثقل الحلبوسي السياسي من مناطق غرب العراق (إكس)

حصانة غير مضمونة

ثمة انقسام حول تفسير «ظاهرة الحلبوسي». يقول خصوم إن خصاله الشخصية لم تكن تكفيه لتحقيق هذه المكاسب، وإنه «حاصل الجمع بين شبكة تؤهل الزعامات ولحظة سنية سمحت له بالظهور».

لكن كثيرين من السنة في بغداد، بعد سنوات من العنف والانقسام، وجدوا في الحلبوسي الشخص الذي يشبع حاجتهم إلى الزعامة. لقد استمعوا إليه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة يقول «شعارات» حادة: «نحن السنة نقرر ما نريد (...) لن نسمح للآخر (الشيعة والكرد) بأن يقرر نيابة عنا».

بعد إعلان النتائج الأخيرة، قال قيادي شيعي إن «الحلبوسي بموقعه الوسطي بين تيارات سائدة في المنطقة، خصوصاً بعد أحداث أكتوبر 2023، بين إيران التي تحاول التقاط أنفاسها، وتركيا المتفوقة في سوريا، سيلعب دوراً متقدماً في ضبط التوازنات العراقية».

تبدو هذه المهمة واعدة، إذ تمنح الحلبوسي «جدار حماية» إضافياً في منطقة متقلبة، لكنه لا يزال يبحث عن «حصانة» أكبر. تدرك دائرته المقربة أن «الضمانات في هذه اللعبة غير متوفرة، ولا أحد يقدمها. النظام هش ويتغير بسرعة، كل ما يشغلهم الآن هو الاستعداد للضربة المقبلة: من أين؟ ومن يسددها؟». هذا النوع من «الاستعداد» يتحول الآن إلى أحد أهم فنون البقاء في العملية السياسية العراقية.