هيغل وإذابة الخصومة بين الدين والفلسفة

ركز على حقيقة المشترك بينهما .. الروح المطلقة

هيغل وإذابة الخصومة بين الدين والفلسفة
TT

هيغل وإذابة الخصومة بين الدين والفلسفة

هيغل وإذابة الخصومة بين الدين والفلسفة

ينطلق تفكير هيغل من تقليب طبيعة العلاقة بين الدين والفلسفة، بغية تجاوز المنظور الأنواري للدين، واللغط الكبير الذي حيق حول جدوى حضوره في تجربة الحياة البشرية، وكذلك سعيه نحو تنبيه كل من استمرأ النظر إليه بازدراء، كأدنى أشكال التفكير الإنساني الذي ينم عن عجز طافح في إعمال العقل، والتأمل المجرد في الذات والحياة والوجود، لا سيما أن معظم الفلاسفة الأنواريين، عدوه مجرد تفكير جنيني وطفولي، يفتقر إلى النضج العقلاني النظري والمنطقي. ذلك الموقف المعهود في النزعة الإنسية والمادية للحداثة الغربية، يشي بنزعة متمركزة حول الذات الأوروبية التي ترفع من مقام الحصيلة التاريخية والفكرية للحداثة، مزينة إياها برداء السمو والرفعة والمثلنة، وملبسة غيرها من التجارب الحضارية والثقافية لباس التخلف والدونية والجمود. ما أحال الحضور الديني لدى الإنسان، إلى مسألة عابرة ومؤقتة. ولعل هذا الأمر من القضايا التي تنبه إليها هيغل مبكرا، وجعله ينزع نحو التأصيل لرؤية فلسفية جذرية جديدة، تتجاوز منطق التضاد والصراع والتناقض بغية احتواء الفهم السليم للدين ضمن منطق جدلي وشمولي، ونسق فلسفي عام.
فلا مجال متاحًا في نسق هيغل الفلسفي لفهم بسيط للدين، ولا لصراع بين الفلسفة والأديان أو عداء بينهما: فالخطاب الفلسفي لا يتدخل في المسائل الدينية لإفسادها، أو هدم اعتقاداتها الإطلاقية وتدنيسها. مثلما لا يجوز التوجس المستديم من الخطاب الديني لحظة انكبابه على القضايا الفلسفية بتعطيلها أو تحريم تداولها.
ولتصحيح تلك العلاقة التاريخية العرضية بين الدين والفلسفة، التي أريد لها أن تُشحذ بنوازع الصراع، يقترح هيغل التركيز على حقيقة الموضوع المشترك بين الدين والفلسفة، المتمثل، أساسا، في الحقيقة الخالدة، أو ما يُصطلح لديه بالروح المطلق. فالفلسفة لا تعدو كونها حكمة عن العالم، أو معارف تكتفي بحدود المادة والحياة المباشرة للإنسان والموجودات عموما، بقدر ما هي خطاب معرفي منشغل أيما انشغال، بسؤال المطلق وكل ما ينهض ببيان طبيعته، على الرغم من الاختلاف الذي قد نلحظه في كيفيات تناول المطلق، وخصوصية معانيه لكل منهما.
أما الدين، فلهيغل تصور مائز عنه في تاريخ الفلسفة عموما، بكونه الروح الذي أدرك وعيه بجوهره، وارتقى من ربقة المتناهي إلى شواسع اللامتناهي. ما ينم عن انشغال عميق لدى الإنسان بالسعي الدؤوب وراء المطلق، حتى وإن نتج عنه تعدد في الديانات وتباعد في نظرتها للروح المطلقة. فكيف يمكن تفسير هذا التعدد في الأديان؟
جوابا على هذا الإشكال الديني - التاريخي، ارتأى هيغل البحث في قضية السمو وعلاقتها بالدين وأشكاله وأنواعه. فإذا كان هذا الأخير يمثل وعي الروح بماهيتها، فإن ما يشكل أساسه هو هذا الارتقاء والسمو التلقائي للإنسان نحو الله، ما يعمق الاختلاف الوجودي بينه وبين الحيوان، ويجدر تميزه عنه عبر الفكر. يقول هيغل: «نحن المختلفون عن الطبيعة المادية الخارجية، نستشعر هذا السمو الديني في عالمنا الداخلي، وخارج محدوديتنا ندرك أننا نحتل وضعا خاصا يفصلنا عن الأشياء، ويدعونا إلى تشكيل مضمون للإله. إلا أن طبيعة هذا السمو وحقيقته، مستقلة تماما عن كل ما يستقيه الإنسان من ممارساته الدينية الأمبريقية المباشرة. فالإدراك المباشر، أو الوعي الداخلي بالله في تاريخ الفكر الإنساني، هو ما يشكل، حسب هيغل، الأساس الكوني للأديان. كما لو أن الأمر يتعلق بحركة الفكر، أي بعقلنة ضمنية تسمو بالفرد نحو المطلق بالحس أو بالشعور أو بالخيال.
وبحكم طبيعة الدين هذه، وجب نقل علاقة الدين بالفلسفة من مجال الصراع حول الأحقية في الوجود، إلى ميدان الاتفاق والتعاضد، والمراهنة على وحدة الموضوع والمقاصد والغايات المشتركة بينهما. فالحق كحق واحد في ذاته ولأجل ذاته، ما يدعو إلى الإقرار بأننا أمام الموضوع نفسه والمضمون نفسه، وإن حصل الاختلاف في الآليات المنهجية وطرق التعبير والتفسير وكيفيات حضورهما معا في حياة الإنسان.
فالاختلاف المنهجي الملحوظ بين المقاربة الفلسفية والنظرة الدينية للموضوع، لا يكون حاجزا أمام الدين لاعتماد المفاهيم الفلسفية لصياغة تصوراته ورؤاه وعقائده. وبالمقابل، فإن المضمون الديني يصيب الفلسفة بالحركة والاهتزاز، «يتعذر على الفلسفة أن تشكل تصورا محددا عن فكرة الإله، وأن تحبل بشهادة حقة عن المطلق، أو أن تتمكن من تحليل مكونات الإيمان، من دون أن تتلقى أثرا ودعما وتكوينا من الدين، ففي حقول الدين يمكن للإنسان أن يقطف ثمار الفلسفة».
سيرا على منوال نسقه الفلسفي المتناسق البنيان، شيد هيغل تصوره للدين، وهو تصور قائم على الطابع العام لصيرورة الروح عبر التاريخ. ففينومينولوجيا الروح، تحكي قصة تاريخ كوني لوعي يتقدم نحو الحرية والمطلق، أي مسيرة الروح الفردية والجماعية عبر أربع مراحل: تنبلج من الوعي البسيط الحسي المادي بالأشياء، لترتقي نحو الوعي الخالص بالذات. ثم تأتي مرحلة التعقل والقدرة على الاستدلال نظريا وعمليا. وفي المرحلة الرابعة، يبلغ العقل مرتبة الروح المطلقة المميزة لكل من الدين والفلسفة، وهي مرحلة تاريخية تدمج كل المعارف السابقة عليها.
وقد أفضى تفكير هيغل في المسألة، إلى رصد تجليات الروح المطلق في كل من الفن والدين والفلسفة.
* التجليات الفنية للروح: فالتعبير الفني التمثلي للدين، هو بمثابة تعبير متناه عن اللامتناهي، يعتمد التمثيل الحسي للآلهة، كمرحلة من أهم مراحل الوعي الديني، ولحظة من لحظات مسيرة تطور الروح.
* التجليات الدينية للروح: تكمن في طريقة مجازية تمثيلية ورمزية، تطرُق حقيقة الروح باعتماد لغة استعارية ملؤها التشبيه والكناية، تحيل الدين إلى مرحلة متطورة في إدراك المطلق.
* التجليات الفلسفية للروح: تتمثل مهمتها في دراسة الفكرة المطلقة، عبر آليات تجريدية منطقية ومفاهيمية تؤسس للفكر الخالص.
بناء على هذه الرؤية الفلسفية والتاريخية، سيحتل الدين مرحلة وسطى بين الحس والفكر الخالص. وبقدر ما سيحتفظ ببعد حسي يحيله على الفن، بقدر ما سيتعلق ببعد روحي مطلق، يصله بصلب الانشغالات الفلسفية. ففي الدين، يتمكن الفرد من العبور عبر وجوده الطبيعي، نحو وعي خالص يمكن الذات من تحقيق وعيها بماهيتها وبالماهية الإلهية. وفي هذا العبور تتبلور فعليا، تربية البشرية عبر آليات وأشكال متعددة، ملؤها الشعور والحدس والتمثل، ثم المعرفة الخالصة المجردة التي تختص بها الفلسفة. لذا، فإن لكل شعب ولكل ديانة، حسب هيغل، كيفية خاصة في تمثل ماهية العالم، ما يبرر ضرورة الدين من حيث هو دين، ويستبعد بعض التأويلات والمغالطات التي تزعم أن الكهنة قد اخترعوا الأديان للنصب على الشعوب.
إن الفهم الهيغلي لحقيقة الدين ولعلاقته بالفلسفة، يجد مصداقيته في قاعدة الاتفاق حول الموضوع نفسه. أما اختلافهما، فيتصل بمسألة المنهج المتبع في إدراك تلك الروح المطلقة: فإذا كان المنهج الديني يمر عبر الخشوع والعبادة ومختلف أنماط التمثل والأساطير والقصص، حيث يكون إدراكه للموضوع خارجيا، ليتصل به، لاحقا، عبر الخشوع والعبادة، فإن المنهج الفلسفي يقوم على الوعي الجوهري الروحي الداخلي، ما يمكنه من إدراك الموضوع في لحظة واحدة، ويعزز العلاقة التضمنية بين الذات والموضوع.
ولعل أشكال التعارض والصراع بين الفلسفة والدين في تاريخ الإنسان، يرجع، حسب هيغل، إلى خصوصية المنهج المعتمد في إدراك الموضوع، على الرغم من وحدته على مستوى الماهية. فلا شك أن المعرفة الإيمانية القلبية تقوم على الحدس، وتتنكر للتجربة والإحساس والعقل، في مقابل المعرفة الفلسفية التي تنهل من المبادئ العقلية التحليلية. إلا أن حقيقة الصراع بين الدين والفلسفة، يجد تفسيره، أحيانا، في تبعية الفكر للدين، كما يتبين في تبعية الفلسفة اليونانية للديانة الجمالية، وفي تبعية الفلسفة الغربية للديانة المسيحية.
نستنتج من رؤية هيغل الفلسفية للدين، تجذر العلاقة الجدلية بين الفلسفة والدين، ووحدتهما المتمثلة في حركة التاريخ الإنساني كتجل للروح، ما خلا بعض الأعطاب التي قد تصيب بالشلل، جدل العلاقة بينهما، مثل تقاعس الدين وانحساره، أو نمو سلطان الفكر وانتصاره على حساب الجوانب الروحية الدينية، ما أفضى إلى دعم قوى الاستبداد والإرهاب، واغتراب الذات الإنسانية عن نفسها، وسيادة الخواء الروحي، وغير ذلك من تجليات تغليب كفة الفكر على كفة الدين وإهداره.



«جائزة بيت الغشّام دار عرب الدولية للترجمة» تعلن عن قوائمها القصيرة

شعار الجائزة
شعار الجائزة
TT

«جائزة بيت الغشّام دار عرب الدولية للترجمة» تعلن عن قوائمها القصيرة

شعار الجائزة
شعار الجائزة

أعلنت «جائزة بيت الغشّام دار عرب الدولية للترجمة»، عن القوائم القصيرة لدورتها لعام 2026، وذلك في فروع الجائزة الثلاثة: فرع المترجمين، وفرع المؤلفين، وفرع الإصدارات العُمانية، بعد استكمال أعمال التحكيم والمراجعة النهائية للترشيحات المستوفية لشروط الجائزة ومعاييرها المهنية والأخلاقية، كما جاء بيان لجنة الجائزة. وضمّت القائمة القصيرة - فرع المترجمين (مرتبة أبجدياً حسب العنوان الإنجليزي): «ملائكة الجنوب» رواية نجم والي، ترجمة Angels of the South، ترجمة: بيتر ثيرو، و«ماكيت القاهرة» رواية طارق إمام، Cairo Marquette، ترجمة كاثرين فان دي فات، و«البشر والسحالي»، مجموعة قصصية، حسن عبد الموجود، People and Lizards، ترجمة أسامة حماد وماريان دينين، و«الأشياء ليست في أماكنها» رواية هدى حمد، Things Are Not in Their Place، ترجمة ضياء أحمد، قرية المائة، رواية رحاب لؤي، ترجمة Village of the Hundred، ترجمة إيناس التركي.

وضمّت القائمة القصيرة - فرع المؤلفين (مرتبة أبجدياً حسب العنوان العربي): أبعاد غير مرئية، مجموعة قصصية، مصطفى ملاح، والماتادور، رواية مجدي دعيبس، وجبال الجدري، رواية عبد الهادي شعّلان، وجرس جرش، رواية وائل رداد، وكائن غير سوي، رواية طاهر النور. وجاءت القائمة القصيرة - فرع الإصدارات العُمانية، كما يلي: تحت ظل الظلال، رواية محمد قرط الجزمي، عروس الغرقة، رواية أمل عبد الله، وقوانين الفقد، مجموعة قصصية، مازن حبيب.

وجرى اختيار القوائم القصيرة من قبل لجان تحكيم مستقلة، بإشراف مجلس أمناء الجائزة، الذي ضم كلاً من مارلين بوث (رئيسة)، ومحمد اليحيائي، وسواد حسين. وتكوّنت لجنة تحكيم - فرع المترجمين، من سماهر الضامن، ومارشيا لينكس كوالي، ولوك ليفجرن، فيما ضمّت لجنة تحكيم - فرعا المؤلفين والإصدارات العُمانية، كلاً من أمير تاج السر، وبشرى خلفان، وياس السعيدي.

وشهدت هذه الدورة 346 مشاركة في فرع المؤلفين، و34 مشاركة في فرع المترجمين، و10 مشاركات في فرع الإصدارات العُمانية.

وكانت هذه الجائزة قد انطلقت قبل 3 أعوام، بشراكة بين مؤسسة بيت الغشّام للصحافة والنشر والإعلان ودار عرب للنشر والترجمة، حيث تتولى دار عرب إدارة الجائزة، فيما تتولى مؤسسة بيت الغشّام تمويلها، في إطار تعاون يهدف إلى دعم الأدب العربي وتعزيز حضوره عالمياً عبر الترجمة والنشر الدولي.

وتبلغ القيمة الإجمالية لصندوق الجائزة نحو 70,000 جنيه إسترليني، تُخصَّص جزئياً كمكافآت مالية للفائزين، وجزئياً لتغطية تكاليف الترجمة الاحترافية، والتحرير، والنشر والترويج الدولي للأعمال الفائزة.


هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.