اسمي هنري

قصة قصيرة

اسمي هنري
TT

اسمي هنري

اسمي هنري

اليوم هو عيد الميلاد، يوم قصير قارس البرد، وأنا أقود عجلتي على طريق يمتدُّ عبر الغابة التي تحيط بمدينة أوتاوا، وشيئاً فشيئاً اشتدَّت الرياح وراحت تعصف. فجأة قطع الطريق عليَّ جذعُ شجرة انكسر بفعل العاصفة، وهوى على الأرض. انعطفتُ مباشرة إلى الجانب كي أتجنَّب الاصطدام، ونزلت العجلة في وهدة، وأخذت العجلات تدور في مكانها، بجوار صخرة عليها كتابة بحروف غامضة، رسم لها خيالي في تلك اللحظة شكلاً يشبه طلسماً مكتوباً بالعربية، لا يعني شيئاً، ويعني كلَّ شيء في الوقت عينه.

الأشجار من حولي مغطاة بالثلج، والسماء تكاد تكون بنفسجية، وليس هناك قرية قريبة يمكنني السير إليها وإيجاد مأوى. بدأ الفزع يساورني لأني امرأة وغريبة ووحيدة، فتناولتُ المجرفة من صندوق السيَّارة ورحتُ أزيح ركام الثلج، ولكن بلا جدوى لأن الحفرة عميقة، وما يسقط من الصقيع مع هبوب الرياح يجعل العمل صعباً أو مستحيلاً.

جرَّبتُ هاتفي النقَّال؛ لكن العاصفة فيما يبدو أخرسته تماماً، فهو قطعة معدنية لا تُفيد في شيء. كنت أرتدي قبعة من الصوف وبنطالاً صوفياً وسترة ثقيلة ومعطفاً ووشاحاً، ومع هذا راح جسدي يرتعد وأسناني تصطك بسبب البرد. ثم بدأت أعي وضعي الغريب، وتضاعف خوفي لأن الظلمة أخذت تهبط، وتلوَّن كلُّ شيء -حتى بياض الثلج المهيمن على المكان- بالعتمة.

على الرغم من حالة الرعب من الذئاب والحيوانات المجهولة، كان هناك شيء في أعماقي يدعوني للاطمئنان. هل سببه الحروف التي ظلَّت بارزة على الصخرة، مع أن الثلج كان يكسوها شيئاً فشيئاً؟

بقيتُ واقفة في مكاني لا أتحرَّك، أنتظر النجدة تأتيني من جهة لا أعرفها. أنا متأكدة أن هنالك حلّاً لورطتي سوف يتمُّ في زمن قريب. حاولتُ تهدئة نفسي بهذه الأفكار، ولكن عواء الذئاب الذي حملَته الريح جمَّدني من الرهبة في مكاني.

ظهرت من بعيد شاحنة مسرعة اجتازتني وتوقَّفت، وتذكَّرتُ في الحال أفلام هوليوود التي تدور حول جرائم القتل والسلْب على الطرقات. قفز رجل منها، له هيئة مصارع، بلحية شقراء وشعر طويل أجعد. كان كياني يتركز في نقطة واحدة، هي النجاة من الاغتصاب، ولو أدَّى الأمر إلى موتي. حاولتُ -والخوف يتملَّكني- استحضار أحسن طريقة تدافع بها الضحيَّة عن نفسها في صراعها مع المجرم. اقترب الرجل وتبيَّنتُ ملابسه في العاصفة الثلجية: بنطال قصير (شورت)، و«تي شيرت»، وقبعة مصنوعة من القش، و«التاتو» يغطِّي ذراعيه وصدره. كان يسير على مهله محاولاً فيما يبدو اختبار شجاعتي. وانتابتني رعشة هلع قوية، بدءاً من عمودي الفقري وصولاً لأعمق تشعُّبات أعصابي. فكَّرتُ أن أركض بعيداً؛ لكنَّ الرعب شلَّ أطرافي. لقد تحقَّق موتي إذن على يدَي ذئب بشريٍّ، وها أنا أسمع صراخ أمي الملتاع في بلدي العراق، تلومني لأني اخترت طريق الهجرة، بعيداً عن وطني.

اقترب المصارع، وعمَّني الخوف، فصرت أسمع وجيب قلبي في أذني مع صفير العاصفة. الرياح الشمالية الشرقية قارسة البرودة، وتهبُّ من كلِّ مكان حولي، وتحاول أن تقتلعني مثل ريشة، وتقذف بي بعيداً. ألقيتُ نظرة على الأحرف المنقوشة على الصخرة، طلسمي الذي قدَّم لي الاطمئنان أوَّل الأمر؛ لكن الثلج الغزير محاه الآن تماماً، واختفت الصخرة أيضاً، فالمكان عبارة عن قطعة متصلة من الجليد الصلد.

تطايرت خصلات شعر الرجل في تلك اللحظة، وكان تنفسي يتسارع، ومعدتي تضطرب لأني أجابه وحشاً حقيقياً، وله صدر ورقبة ثور. جاهدتُ كي لا أهرب، وتمسَّكتُ بالمجرفة، فهي سلاحي الوحيد. حين نكون خائفين، نرى الأمور بطريقة مختلفة.

«هيللو!».

هتف بي المصارع العملاق بصوت رجولي لطيف، والتقت عيني بعينيه. كانت له بشرة بيضاء وعليها نمشات صغيرة. أخرج نفَساً من بخار مثلَّج من بين أسنانه، وقال:

«اسمي هنري».

فجأة انفتح العالم لي في هيئة جديدة. يا للكلمة الطيَّبة من مفعول ساحر:

«لا تقلقي يا صغيرتي. ليس هناك ما يدعو للقلق أو التوتُّر. سأقوم بإخراج السيَّارة من حفرة الثلج ويكون كلُّ شيء على ما يُرام».

عاد إلى شاحنته، وساقها إلى جهة الخلف، وصارت قريبة. راقبتُه وهو يفتح صندوق العدَّة ويستخرج منه معولاً ومجرفة من الحجم الكبير، وحبالاً وأشرطة وأدوات أخرى لا أعرفها. بدأ يجرف الثلج، وحاولت مساعدته، ولكنه أبى بهزة قويَّة من رأسه. صاح بي:

«عودي إلى سيارتك».

كانت العاصفة تشتدُّ، وتخلَّص المصارع من قبعته وقميصه، وبانت حدود وأشكال الأوشام على صدره وظهره بصورة واضحة. إنهما أسد ونسر يتعاركان ويتعانقان في الوقت نفسه.

«ما الذي تبحث عنه؟» سألته، وأجاب:

«أبحث عن عصا».

هبطتُ من السيارة، وبدأت في البحث معه كي أساعده؛ لكنه أوقفني، ورنَّ صوته بقوَّة:

«العاصفة شديدة وقد تصابين بالتجمد. اجلسي في السيارة».

أتى بغصن وأخذ يحكُّ الإطارات، وانكسر العود. اتَّجه إلى الغابة ثانية، واختار شجرة أثأب ضخمة، جذورها الهوائيَّة بحد ذاتها تعادل شجرة وهي تتشابك مع بعضها. اختار زاوية شكَّلها جذران سميكان، وراح ينازع لكسر أحدهما. كان يعارك -بالإضافة إلى صلابة الجذر- ضباب الثلج والريح، في سبيل الفوز بأداة من أجلي تنقذني من هذه الورطة.

يا ربَّ السماء الكريمة! اختفى من ناظري المصارع، وبقي الأسد والنسر وحدهما يكافحان من أجلي، أم أن ضوء النهار الشحيح هو المسؤول عن هذه الرؤية؟ كان الأسد يهجم من جهة الأمام على الشجرة، وينقضُّ النسر على الجذر من الخلف. إن الطبيعة تقاومنا، وتهيئ لنا في الوقت نفسه بعضاً منها للدفاع عنَّا. مثل قصَّة النبي يونس حين ضاع في البحر لأنه كان آثماً، وهيَّأت له الآلهة وحشاً يُنقذه من الغرق.

هل كنتُ آثمة مثل يونان، وقد وفَّرت لي الطبيعة أو الربُّ أو إحدى دعوات أمِّي لي -اختر من هذه الأسباب ما تشاء- ما ينجِّيني من الضياع في بحر الثلج الذي يحيط بي من كلِّ جهة؟ المهمُّ أن المصارع عاد بعد دقائق بجذر طويل ومتين، وراح ينظِّف عجلات سيَّارتي من الثلج بحكِّها مراراً. ثم توقف بعد قليل، وجلس يلتقط أنفاسه. كان وجهه بعيداً عن الملاحة أو الجمال، ورغم ذلك صار في موضع إعجابي. تخيَّلتُ يدي تمسك بذراعه، لا لكي تعينه في العمل، وإنما تمسكها فحسب، لكي أتحقَّق من حصول المعجزة. طلب مني أن أقود السيَّارة إلى أمام وإلى الخلف؛ لكن العجلات أبت إلا أن تدور في الفراغ.

«لا فائدة!».

هتف المصارع ورمى الجذر بعيداً. ثم أحنى قامته وصار قريباً من حافة الوهدة، كتفه العارية تحت العجلة في لقطة تشبه ما قام به جان فالجان في رواية «البؤساء» لفيكتور هيغو، وهو يحمل على كاهله العربة ليخلصها من الوحل. الرياح تشتدُّ، وعواء الذئاب يعلو، والمساء يتقدم حثيثاً. بصق عملاقي في راحة كفِّه وحكَّ يديه معاً. رفع عجلتي على كتفه، وبدا كأنه يفعل ذلك دون جهد مطلقاً، وطلب مني أن أركب العجلة ويكون المقود في المركز. صاح بي:

«ساعديني بالاستمرار بالسياقة إلى الخلف أولاً ثم إلى أمام».

سمعتُ صريرَ العجلات، وأتاني صياحه بعد ثوان:

«هذا جيِّد يا صغيرتي».

لم يقل شيئاً بعد أن اندفعت العجلات من الحفرة، ولم يكن مجهداً. شكرتُه بحماس، وتخلَّلتني حرارة مصدرها دفء القلب والمشاعر. أخبرني أنه يتوجب عليه الآن إخراج شاحنته هو الآخر، فأثناء وقوفه على جانب الطريق غاصت العجلات في الجليد. صافحني كأنما بعينيه الزرقاوين الصافيتين، وهو يوجه كلامه الأخير لي:

«أموركِ تمام؟ اخرُجي من هذا المكان، وسوقي بانتباه، وسوف تصلين بالسلامة».

لا أصدِّق أني عشتُ تلك التجربة، ولست متأكدة أني رأيتُ ما اعتقدتُ أني رأيته. كان العملاق المصارع يمتلك -بالإضافة إلى الشجاعة الجسديَّة- الشجاعة الأخلاقيَّة التي يندر الحصول عليها في هذا الزمان، فلولاه كنتُ أصير طعاماً للذئاب؛ لأن أقرب قرية كانت تبعد نحو أربع ساعات سيراً على الأقدام.


مقالات ذات صلة

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

ثقافة وفنون هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً.

ميرزا الخويلدي (الدمام)
ثقافة وفنون «ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي.

أليكسس كو (نيويورك)
كتب هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التفاعل والتبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً، ومسكوناً بهاجس الهويات ونزاعاتها.

ومع أن الكُرد شعبٌ يسكن مناطق متفرقة في عدة دول، فإنهم حافظوا على تراثهم الأدبي عبر القرون، وعلى لغتهم التي يتحدث بها أكثر من 30 مليون شخص. وتمتلك هذه اللغة تاريخاً أدبياً غنياً، وتُعد جسراً طبيعياً بين الثقافات في المنطقة.

لقد طُرحت مشاريع عدة لتقريب الثقافتين العربية والكردية؛ لكنها أُجهضت، فقد عملت السياسة كعنصر تخريب للتواصل الثقافي؛ بل أسهمت مشاريع التهميش من جانب والانغلاق من جانب آخر في توسيع الشقة حتى بين أبناء البلد الواحد.

إدراكاً لهذا الواقع المؤسف، أخذت دار «رامينا» التي يديرها الكاتب والروائي الكردي السوري، المقيم في بريطانيا، هيثم حسين، على عاتقها إصدار أو ترجمة عدد من الكتب الكردية إلى اللغة العربية، أو ترجمة الكتب العربية إلى الكردية، في مسعى يهدف «لبناء الجسور بين شعوب المنطقة، وبناء قيم التسامح ونبذ الكراهية والتطرف والعنف، في سياق أدبي إنساني رحب»، كما تقول الدار في نشرة التعريف عن نفسها، على الموقع الإلكتروني. وتضيف أنها تركز «على ثقافات الأقليات والمجتمعات المهمشة في جميع أنحاء العالم، وذلك ضمن الفضاء الثقافي والحضاري والإنساني الأرحب».

الترجمة كجسر للتواصل

يقول صاحب الدار لـ«الشرق الأوسط»: إن هذا المشروع يستهدف إنشاء منطقة تواصل حقيقي: «نحن نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له، وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه. إن تجربة دار النشر (رامينا) هي محاولة لاستعادة ما فقدته الجغرافيا من قدرة على جمع البشر. لقد بدأتُ في تأسيس الدار حين شعرت بأن العلاقة بين العربية والكردية تحتاج إلى عناية تُنقذها من التباعد التاريخي، وبأن الأدب قادر على أداء هذا الدور إذا أُتيح للنصوص أن تنتقل بحرية بين الضفتين».

انطلقت «رامينا» إلى الترجمة بوصفها عملاً يتجاوز التقنية، ولم تبحث عن «نقل الكلمات»، إنما عن نقل التجارب والمخيلات والوجدان، كما يقول مؤسسها. وكانت القفزة الأهم حين عملت -بدعم من مبادرة «ترجم» وبالتعاون مع وكالة «كلمات»- على مشروع ترجمة كتب عدة من الإبداعات السعودية إلى الكردية، وهو حدث يتحقق للمرة الأولى في تاريخ الأدبين العربي والكردي.

لقد قدَّمت «رامينا» للقارئ الكردي نصوصاً عربية خليجية وسورية وعُمانية وبحرينية، مترجمة إلى لغته الأم. وكذلك قدَّمت للقارئ العربي نصوصاً كردية بأصوات متنوعة تمثِّل جغرافيات كردية متعددة، وأعادت فتح نافذة على الأدب السرياني ضمن سلسلة النشر السريانية التي خصصتها لإحياء هذا الإرث الموشَّى بالروحانية والشعر، وهو من أعمق طبقات تاريخ المنطقة، كما أطلقت شراكات ترجمة إلى الإنجليزية، لحاجة الأدب الكردي والعربي إلى هذا الأفق العالمي كي لا يبقى أسير لغته أو مكانه.

من الأعمال التي شكَّلت نقطة تحول في هذا المشروع: سلسلة الإبداعات السعودية المترجمة إلى الكردية؛ وهو مشروع غير مسبوق فتح باباً واسعاً لفهم جديد بين القارئ الكردي والمشهد السعودي، فقد نقلت «رامينا» للقارئ الكردي أعمالاً لأدباء ونقاد سعوديين، منهم: سعد البازعي، ويوسف المحيميد، وأميمة الخميس، وأمل الفاران، وطارق الجارد، وعزيز محمد، وغيرهم.

والثاني، مشروع الترجمات العُمانية والبحرينية، مثل رواية «بدون» ليونس الأخزمي و«الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي؛ و«دخان الورد» لأحمد الحجيري، وهي نصوص أدخلت القارئ الكردي إلى سرديات لم يكن يصل إليها.

والثالث، مشروع الترجمة من الكردية إلى العربية، الذي قدَّم للعربي أصواتاً كردية ذات حساسية عالية، تنقل الهويات المتعددة والمعاناة المتراكمة في كردستان سوريا والعراق وتركيا وإيران؛ حيث تُرجمت إلى العربية عشرات الأعمال الكردية لكُتَّاب كُرد، مثل: عبد القادر سعيد، وسيد أحمد حملاو، وصلاح جلال، وعمر سيد، وكوران صباح... وغيرهم.

وأما الرابع فهو مشروع النشر السرياني، الذي يعيد الاعتبار لطبقة ثقافية مهمَّشة، ولغة أصيلة من تراث منطقتنا، ويمنحها موضعها الطبيعي داخل المشهد الأدبي.

والخامس، إطلاق الترجمات إلى اللغة الإنجليزية.

يقول هيثم حسين إنه «بهذه الحركة المتبادلة، صار مشروع الترجمة في (رامينا) مشروعاً لإعادة النسج بين لغتين، وتأسيس حوار ثقافي طال غيابه».

«نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه»

هيثم حسين

التراث الأدبي المشترك

وردّاً على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عما يمكن أن يضيفه هذا المشروع إلى التراث الأدبي المشترك، يقول هيثم حسين إن مشروع التواصل الأدبي الذي تقوم به «رامينا»، يضيف ما يشبه «الخيط المفقود»، فالتراث العربي والكردي والسرياني ظلَّ متجاوراً دون أن يتشابك بما يكفي.

ويضيف: «الآن، حين يقرأ كردي نصاً سعودياً بلُغته، أو يقرأ عربي رواية كردية، أو قارئ إنجليزي عملاً مترجماً من هذه البيئات، تظهر طبقة جديدة من التراث؛ طبقة عابرة للغات والانتماءات، ترى الإنسان قبل كل شيء. نحن لا ندَّعي أننا بصدد صنع أو تصدير تراث بديل، إنما نحاول أن نعيد توزيع الضوء على تراث موجود، ولكنه كان منسياً في الظلال والهوامش».

أما الثيمات التي تتكرر في إصدارات «رامينا»، فهي تكاد تتقاطع حول هوية تبحث عن مكانها في عالم مضطرب: الذاكرة، بصفتها محاولة لمقاومة النسيان. الكتابات السيرية الذاتية والغيرية. المنفى، باعتباره إعادة تكوين للذات. اللغة، بما تحمله من فجيعة وحماية في آن واحد. الهوامش التي تتحول إلى مركز حين يُكتب عنها بصدق. الأمكنة المحروقة والقرى المطموسة والطفولة المهددة بالمحو. وهذه الثيمات امتداد لتجارب الكُتاب أنفسهم: كرداً، وعرباً، وسرياناً، ومهاجرين.

وعن الحركة الأدبية الكردية في سوريا، يقول هيثم حسين: «إن القوة الأدبية الكردية في سوريا نابعة من صدق التجربة وعمق الجرح. هناك كُتَّاب يمتلكون لغة عربية متماسكة، وأخرى كردية راسخة، ما يجعل أصواتهم قادرة على الوصول إلى جمهورَين. من خلال الترجمة والتوزيع في كردستان العراق، ومن خلال النشر في لندن، أصبح لهذه الأصوات مسار يصل بها إلى مَن لم يكن يسمعها. أرى أن هذا الامتداد عابر للحدود، وأن الكتابة الكردية السورية مرشَّحة لأن تكون أحد أهم أصوات الأدب القادم من المنطقة».

ورداً على سؤال بشأن كيفية تقديم التراث الكردي والهوية الكردية للآخرين، قال مؤسس «رامينا»: «إن الدار قدَّمت التراث عبر نصوصه؛ لا عبر خطاب خارجي عنه. فحين يقرأ قارئ عربي أو إنجليزي أو كردي نصاً مترجماً أو أصلياً، يكتشف مفردات الهوية الكردية كما تعيش في الحياة اليومية: في الأغاني، في اللغة، في القرى، في القصص العائلية، وفي تفاصيل الفقد والحنين. بهذا يصبح التراث الكردي جزءاً من المشهد الثقافي العام، لا معزولاً ولا مؤطَّراً. كما أن النصوص الأدبية تثبت العناصر المشتركة بين الثقافات؛ حيث تكشف النصوص أن الألم واحد، والحنين واحد، وأسئلة الإنسان واحدة. وتُظهر أن الاختلافات اللغوية لا تزيل جوهر التجربة الإنسانية؛ بل توسِّعها. حين يتجاور الأدب الكردي والعربي والسرياني والإنجليزي في سلسلة نشر واحدة، تتكوَّن منطقة مشتركة؛ بلا حدود، يتقاطع فيها الإنسان مع الإنسان. وهذا هو جوهر المشروع الذي أردتُ لـ(رامينا) أن تكون منصته».


«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة
TT

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية تتراوح بين المدينة والقرية على خلفية عوامل من القهر والإحباط التي تجعل من حواء لقمة سائغة في فم وحش الوحدة والعزلة والشجن والحنين.

تعتمد المجموعة تقنيات سردية تستكشف كذلك قضايا الوجود والهوية والاختيارات الصعبة والأحزان العميقة عبر أعمال تمزج بين أشكال مختلفة من السرد مثل السيناريو والمونتاج والفلاش باك والمشهدية البصرية بهدف تسجيل لحظات نسائية خاصة، عبر تجربة أدبية تجمع بين العمق الإنساني والتجريب الفني.

تتنوع النماذج التي تدعو للتأمل في المجموعة القصصية من الخالة التي تجلس وقت الغروب تمضغ التبغ وهى تزعم أن الموتى يبعثون برسائل عبرها كوسيطة، إلى المصابات بالاكتئاب السريري، وليس انتهاء بالأديبة الشابة التي تواجه أديباً شهيراً اعتاد السخرية من الكتابات النسوية.

تميزت عناوين المجموعة بوقع صادم يعبر عن فداحة ما تتعرض له المرأة في المجتمعات الشرقية، بحسب وجهة نظر المؤلفة، مثل «السقوط في نفق مظلم»، «نزع رحم»، «يوميات امرأة تشرب خل التفاح»، «الناس في بلاد الأفيون»، «البكاء على حافة اليقظة».

ولم يكن قيام هناء متولي بإهداء العمل إلى الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ماتت منتحرة عام 1963 عن 30 عاماً، فعلاً عشوائياً، حيث سبق انتحار الأديبة الشهيرة سنوات طويلة من الاضطرابات النفسية والاكتئاب السريري وهو ما يبدو ملمحاً أساسياً من ملامح المجموعة.

وجاء في الإهداء:

«إلى سيلفيا بلاث... التي عرفتْ جيداً كيف يبدو الألم حين يصبح مألوفاً، أستمعُ إلى صدى كلماتك بين همسات الوحدة وأصوات الكتابة، كأنك تركتِ لي خريطة في دفاترك، تشير إلى تلك الأماكن العميقة داخل النفس حيث تختبئ الظلال خلف الضوء».

ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ:

«شروق خجل للشمس بعد ليلة ممطرة، تهرول سناء في عباءتها الصوفية وشالها القطني الطويل، تقترب من البيت المطل على الترعة وحيداً ورغم أنه قد شُّيد من طوب لبن ومعرش بسقيفة من القش فإنه يشع دفئاً في وجه الزمن. تنادي بصوت مترقب: يا خالة، فتطل عليها المرأة قصيرة القامة ذات الجسد المنكمش بعينين يقظتين لتكرر على مسامعها جملتها المعتادة: لا رسائل لك.

تعاود الهرولة وقد أحكمت الشال حول كتفيها العريضتين وقوست قامتها الطويلة، يهاجمها البرد بقسوة ليزيد جفاف قلبها. تعود سناء إلى بيتها... تتكور في فراشها... تحاذر أن تلمس جسد زوجها السابح في النوم، لئلا توقظه برودتها فينكشف سرها.

في ليلة حناء شقيقتها، ارتدت سناء فستاناً بنفسجياً من القطيفة وحجاباً زهرياً خفيفاً، كانت تعجن الحناء وتراقب الرقص والتصفيق بعينين شاردتين، تفاجئها موجة جديدة من حزن كثيف يتلبس روحها ويقبض على قلبها بقسوة. تهرب وتحبس نفسها في مخزن الغلال لتغرق في بكاء لاينتهي. يرغمها والدها على تناول قطعة صغيرة من حلوى العروس وبمجرد ابتلاعها تتقيأ».


«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد
TT

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

جاء الديوان في 176 صفحة، مقسّمة إلى ثمانية فصول: «ما قبلَ»، ثم: «الصَّوت»، «الصُّورة»، «الرَّائحة»، «اللَّمس»، «الطَّعْم»، و«الألم»، «ما بعدَ».

جاء في كلمة الناشر أن «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة» يبدأ من لحظة التّأسيس الأسطوريّة الأولى؛ «المُصادفة» التي جعلتْ «الغابة» تلتهم «جَبلاً». كأنّه بالأحرى «سِفر تكوين» مكثَّف لـ«العلائق» بين الذَّكر والأنثى، التي تتجاوز الثنائيّات التقليديّة للقوّة والضعف، منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا.

بهذا المعنى، فإن «المُعْجَم» الذي يبنيه عماد فؤاد هنا مشدودٌ بين قُطبي الكمال والنُّقصان، المرأة والرّجل، الإيروتيكيّة والصوفيّة، ما قبلَ.. وما بعدَ. لكنّه ليس بسيطاً كما يبدو من الوهلة الأولى، إنّه كون شاسع ومركّب. عالم معقّد تتعدّد أبعاده وتتراكم طبقاته الفلسفيّة والدّينية صفحة بعد صفحة، وقصيدة بعد أخرى... لذلك: تأبى لغة عماد فؤاد الاكتفاء بأداء مهمّتها الرئيسية، فتكون مجرَّد لغة هدفها «الإيصال» فحسب. لا... اللّغة هنا مثل شاعِرها؛ طامعة في أكثر من الممكن، في أكثر حتّى ممّا يستطيع الشِّعر أن يستخرجه من اللّغة نفسها، هذه ليست قصائد عن «الحواسِّ النَّاقصة» كما يدَّعي العنوان، بل قصائد كُتبتْ بـ«الحواسِّ النَّاقصة»، ستجد حروفاً لا تُرى.. بل تُلمَسْ. وكلماتٍ لا تُقال.. بل تُشَمّ. وجُمَلاً لا تُنْطَق.. بل «تُسْتطْعم». وقصائد لا تُقرأ.. بل تخترق اللحم كأسنّة الخناجر.

يعتبر عماد فؤاد أحد شعراء جيل التسعينات المصري، ومن أعماله الشِّعرية: «تقاعد زير نساء عجوز»، و«بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم»، و«حرير»، و«عشر طُرق للتّنكيل بجثَّة» و«أشباحٌ جرّحتها الإضاءة».

ومن كتبه الأخرى، «ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ: الإصدار الثاني لأنطولوجيا النّص الشِّعري المصري الجديد»، وكان الإصدار الأول تحت عنوان «رعاة ظلال.. حارسو عزلات أيضاً»، و«على عينك يا تاجر، سوق الأدب العربي في الخارج... هوامش وملاحظات»، كما صدرت له مختارات شعرية بالفرنسية تحت عنوان «حفيف» (Bruissement) عام 2018.

من قصائد «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة»:

في البدْءِ كانت المُصادفةُ

كأنْ تُمْسِكَ طفلةٌ لاهيةٌ بالجبلِ في يدِهَا اليُمنى، وبالغابةِ في يدِهَا اليُسرى، وتمدَّ ذِراعيْها عن آخرهِمَا ناظرةً إلى أُمِّها في اعتدادٍ. فتنْهَرُها الأمُّ:

لماذا تُباعدين بينهُما؟

وتستغربُ الطِّفلةُ: «هذه صَحْراءُ.. وهذه غابةْ»!

المُصادفةُ وحْدها جعلتْ عينَ الأمِّ تنظرُ إلى الجَبَلِ، فتراهُ وحيداً، لا يُحِدُّهُ شَمالٌ أو جَنوبٌ، تُشرقُ الشَّمسُ فيعرفُ شرْقَهُ مِنْ غَرْبِهِ، لكن لا أحد علَّمَهُ ماذا يفعلُ كي لا يكونَ وحيداً.

علىٰ بُعْدِ نَظَرِه الكلِيْلِ، كان يرى نُقطةً خضراءَ فوقَها سُحُبٌ وأَبْخِرَةٌ وضَبابٌ، حينَ تُمْطرُ يعلوها قوسُ قُزَحٍ لامعٌ، لا تدْخلُ ألوانُهُ في عيْنيْهِ، إلَّا ويَرى دموعَهُ تَسيلُ على صُخُورِه، حتَّى أنَّها سمعتْهُ يتمتمُ مَرَّةً في نومِهِ:

«لو أنَّ جَبلاً.. ائْتَنَسَ بغابةْ»!

في البَدْءِ كانت المُصادفةُ

التي جعلتْ الطِّفلةَ تنظرُ بعيْنَيْها إلى الغابَةِ، فتجدُها مُكْتفيةً بذاتِها، مُدَوَّرةً ومَلْفُوفَةً وعندها ما يكفي مِن المَشاكِلِ والصِّراعاتِ الدَّاخليةِ، تنْهَبُها الحوافرُ والفُكُوكُ

قانونُها القوَّةُ وخَتْمُها الدَّمُ:

«فكيفَ يا ماما تَقْوى الغابةُ على حَمْلِ ظِلِّ جَبَلٍ مثل هذا؟».

لم تُجِبْ الأمُّ

وحدَها الغابةُ كانت تُفكِّرُ:

«نعم؛ ماذا لو أنَّ غابةً..

التهمتْ جَبَلاً؟».