في الأيام القليلة الماضية، احتفى العالم بفن الرسوم المتحركة، هذا القطاع الذي خرج من إطار الترفيه البسيط إلى صناعة متكاملة تُقدَّر قيمتها اليوم بأكثر من 100 مليار دولار عالمياً، وذلك وفق تقديرات أسواق المحتوى البصري.
ويأتي هذا الاحتفاء في ظل توسع غير مسبوق في استثمارات الأنيميشن عالمياً، وتحوله إلى ركيزة أساسية في صناعة السينما والألعاب والمنصات الرقمية، بينما تواصل السعودية خطواتها المتسارعة لترسيخ حضورها في هذه الصناعة، ضمن التحولات الثقافية والاقتصادية لـ«رؤية 2030».
هذا التحول يصفه الدكتور محمد غزالة، رئيس مدرسة الفنون السينمائية بجامعة عفت ونائب رئيس الاتحاد الدولي للرسوم المتحركة «أسيفا»، بأنه يمثل «عصراً ذهبياً جديداً للرسوم المتحركة»، مؤكداً أن العقدين الأخيرين شهدا «قفزات تقنية غير مسبوقة أعادت تعريف الصورة السينمائية، ووسعت حدود الخيال البصري، وفتحت آفاقاً جديدة للسرد العالمي».

ويشير غزالة إلى أن التحولات المفصلية في الصناعة بدأت مع دخول تقنيات التصوير والتحريك ثلاثي الأبعاد والتحريك الرقمي CGI والتقاط الحركة Motion Capture، وصولاً إلى الدمج المتزايد لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في مسارات الصناعة، من تصميم الشخصيات، إلى بناء العوالم الافتراضية والمؤثرات والتلوين ومعالجة اللقطات. ويضيف: «هذه الأدوات لم تعد مساندة، بل أصبحت جزءاً من لغة الصناعة، ومكوّناً رئيسياً في ابتكار محتوى بصري قادر على منافسة الإنتاج الحي».
جذور تقدير الأنيميشن في المملكة
يلفت غزالة إلى أن تقدير فنون التحريك في المملكة بدأ مبكراً، قبل أن تتشكل بيئة الإنتاج السينمائي الحديثة، مشيراً إلى تجربة الرائد السعودي عبد الله المحيسن في فيلمه «اغتيال مدينة» عام 1977، حيث ظهرت مشاهد الرسوم المتحركة في افتتاح الفيلم قبل الانتقال إلى اللقطات الوثائقية الحية. ويصف غزالة هذا الاستخدام بأنه «تقدير مبكر يعلي من شأن الرسوم المتحركة بوصفها وسيلة طيّعة في صياغة الخيال وتقديم الأفكار المعقدة بصرياً بصورة أكثر قبولاً لدى الجمهور».

تحولات كبرى في الذائقة والأدوات
يؤكد غزالة أن الأنيميشن لم يعد «فناً للأطفال»، بل أصبح «لغة سردية متعددة الطبقات تتناول قضايا اجتماعية ونفسية وفلسفية عميقة»، مستشهداً بأعمال يابانية وأميركية اشتغلت على موضوعات الهوية، والذاكرة، والعلاقات الإنسانية، والفقد، ونجحت في بناء قاعدة جماهيرية واسعة ومتنوعة تُتابع وتقيّم وتقرأ الرسائل الفنية.
كما يشير إلى أن منصات البث وشركات الألعاب الرقمية أصبحت اليوم مستهلكاً رئيسياً لصناعة التحريك، ما رفع الطلب على الأعمال المصنوعة بجودة قصصية وتقنية عالية، وخلق في الوقت نفسه فرصاً واسعة للعاملين في مجالات المؤثرات البصرية والرسم والبرمجة وتطوير المحتوى.

سوق سعودي يتوسع
في المملكة، يعكس شباك التذاكر ارتفاعاً ملحوظاً في الإقبال على أفلام الأنيميشن، وهو ما يعتبره غزالة مؤشراً على تغير المزاج السينمائي المحلي وعودة العائلات إلى ثقافة المشاهدة الجماعية.
ويوضح أن فيلم «Inside Out 2» حقق 29.2 مليون ريال سعودي، فيما حقق فيلم «Lilo & Stitch» إيرادات تجاوزت 31.8 مليون ريال، ليصبح بحسب غزالة أكثر فيلم رسوم متحركة تحقيقاً للإيرادات منذ بداية عام 2025 وحتى اليوم، متفوقاً على جميع الأفلام الحية في الفترة نفسها، ومتوقعاً استمرار تفوقه على المدى القريب. ويضيف أن «هذا التفاعل يعكس تزايد الوعي السينمائي وتوسع ثقافة المشاهدة لدى الأسر السعودية».
إنتاج محلي متقدم وشراكات دولية
على مستوى الإنتاج، برزت تجارب سعودية لافتة، يأتي في مقدمتها فيلم «بلال» الذي حقق في 2015 نجاحاً عالمياً، وفيلم «الرحلة» الذي أنتج بالشراكة بين السعودية واليابان، ليُشكّل محطة مهمة في نقل تقنيات التحريك وبناء خبرات محلية، كما مثّل فيلم «مسامير» تطوراً نوعياً بانتقاله من العمل الرقمي عبر المنصات الإلكترونية إلى قاعات السينما، ثم إلى منصة «Netflix»، ما يعكس نضجاً في بنية الإنتاج والتوزيع المحلي.

وتعزز المشهد السعودي أعمال قصيرة مؤثرة مثل «سليق» و«وحش من السماء» التي حضرت في مهرجان «أنسي» الفرنسي، إلى جانب أعمال طلابية لافتة من المؤسسات الأكاديمية السعودية. ومن بين هذه الأعمال فيلم «دليل القوالب البشرية» للخريجة رغد البارقي من جامعة عفت، الذي شارك في مهرجان «أنسي» 2019 ضمن مسابقة أفلام الخريجين في خطوة تمثل حضوراً سعودياً شبابياً في واحدة من أهم منصات الرسوم المتحركة عالمياً.

ويشير غزالة إلى أن جامعات سعودية مثل جامعة عفت وجامعة الأميرة نورة تسهم اليوم في «تخريج جيل جديد يفكر سينمائياً ويرسم بإحساس بصري عالمي»، مع توسع البرامج الأكاديمية وورش التدريب والشراكات الدولية.

ويرى غزالة أن المملكة تبني صناعة التحريك عبر 3 ركائز رئيسية: تطوير تعليم متخصص وبرامج أكاديمية ترفد السوق بالمواهب، إنشاء استوديوهات إنتاج وتحالفات محلية وعالمية قادرة على التوسع، توظيف الثقافة المحلية والهوية الوطنية في إنتاج بصري عالمي الخطاب.
وتابع: «نحن أمام انتقال واضح من الاجتهاد الفردي إلى البناء المؤسسي»، معتبراً أن صناعة التحريك «لم تعد مشروعاً تجريبياً، بل مكوّناً محورياً داخل (رؤية 2030) التي تستثمر في المعرفة والخيال».

تحديات قائمة... ومستقبل واعد
رغم التقدم، يشير غزالة إلى تحديات تشمل التمويل طويل الأمد، وتطوير بنى تحتية متخصصة، وتوسيع منظومة التوزيع الإقليمية والدولية، واستقطاب الكفاءات التقنية عالية التخصص. لكنه يضيف أن البيئة الرقمية السعودية، ودعم المؤسسات الثقافية، وحضور المواهب الشابة المتمرسة على أدوات الإنتاج الحديثة، تشكل قاعدة قوية للانطلاق نحو مرحلة صناعية أكثر نضجاً.
وختم حديثه قائلاً: «الخيال يتحول اليوم إلى اقتصاد، والمواهب السعودية قادرة على أن تكون جزءاً فاعلاً في صناعة بصرية عالمية خلال السنوات القريبة».


