الحارث النبهان: يثير حماستي أن أترجم لمؤلفين يجهلهم القارئ العربي

ترجم روايتين للمجري «كراسناهوركاي» قبل حصوله على نوبل

الحارث النبهان
الحارث النبهان
TT

الحارث النبهان: يثير حماستي أن أترجم لمؤلفين يجهلهم القارئ العربي

الحارث النبهان
الحارث النبهان

برغم أنه خريج جامعة دمشق، تخصص الهندسية الميكانيكية، فإن المترجم السوري الحارث النبهان صنع اسمه، وحقق شغفه من خلال عشرات المؤلفات التي نقلها إلى العربية بأسلوب مشوق وعناوين لافتة. يقيم حالياً ببلغاريا، وتتركز أعماله حول روايات مهمة لأدباء غير متداولين بقوة على الساحة العربية مثل النرويجي كارل أوفه كناوسغارد صاحب سداسية «كفاحي» والآيرلندي ديفيد بارك مؤلف «ارتحال في أرض غريبة».

تردد اسم النبهان مؤخراً، حين اكتشف الجميع أنه مترجم الروايتين الوحيدتين المتاحتين بالعربية لأحدث الأدباء الحائزين على جائزة «نوبل»، لازلو كراسناهوركاي، وهما «كآبة المقاومة» و«تانغو الخراب». هنا... حوار معه حول الترجمة والمشكلات التي تصادفه في الكثير من النصوص.

كيف كان شعورك حين وجدت أن الكاتب المجري لازلو كراسناهوركاي فاز بـ«نوبل» بعد مرور سنوات طويلة على ترجمتك لروايتيه الوحيدتين المتاحتين بالعربية: «كآبة المقاومة» و«تانغو الخراب»؟

- بالتأكيد، سرّني هذا الفوز كثيراً لأن كراسناهوركاي متميز فعلاً؛ من حيث أسلوبه المسهب المتلاحق، وجمله الطويلة وأجوائه الفلسفية التي تضفي على الشخصيات والأشياء والطبيعة والعلاقات بين الناس مسحة ثقيلة من الكآبة والإحساس باللاجدوى، فضلاً عن براعته في استدراج القارئ إلى هذا الجو حتى يحس بالعالم يضيق من حوله.

> ألم تتخوف من أن الكاتب غير معروف وقتها؟

- الحقيقة أنني لم أكن متشجعاً في البداية ليس لأن الكاتب غير معروف عندنا فحسب، بل أيضاً لأن الترجمة كانت عملاً مرهقاً بالفعل. كانت البداية مع «تانغو الخراب»، الذي هو نص أبطأ إيقاعاً و«أثقل على النفس» من العمل الثاني «كآبة المقاومة»، لكني لم ألبث أن تلمست تفوق هذا الكاتب وتميزه فمضيت في المشروع بقدر أكبر من الثقة.

> ألم يساورك القلق من أن الروايتين تغرقان في أجواء كابوسية وتنضحان بالتشاؤم والرؤى السوداوية، وهو ما قد يبدو محبطاً للقارئ العربي؟

- صحيح أن الروايتين ناضحتان بالسوداوية والتشاؤم، وصحيح أن فيهما ما يقارب الكوابيس، لكن هذا لا يعني أنهما غير مناسبتين أو أنهما محبطتان للقارئ سواء أكان عربياً أم غير عربي، وإلا ماذا عن كافكا وأعماله كلها؟ كل ما في الأمر أن هذا النوع من الكتابات ليس محبذاً للجميع، ولا يقدر كل قارئ على مواكبته. هذا أمر طبيعي.

> ما الذي شدَّك إلى العالم الأدبي لهذا الكاتب غير المعروف عربياً؟

- يثير حماستي أن أترجم لمؤلفين لا يزالون غير معروفين للقارئ العربي، فهذا يشبه استطلاع أرض مجهولة وفيه نوع مغرٍ من «الريادة»، ومن الإبحار في مياه لا تزال بكراً. وقد كان من بين الكُتاب الذين «استطلعتهم» قامات عظيمة جداً أذكر منهم النرويجي كارل أوفه كناوسغارد صاحب سداسية «كفاحي»، التي يضاهي النقاد بينها وبين «البحث عن الزمن المفقود» للفرنسي مارسيل بروست. لم أترجم من «كفاحي» إلا أربعة أجزاء صدرت عن دار التنوير، ولا يزال الجزءان الخامس والسادس في انتظار ناشرٍ يتصدى لهما.

هناك أيضا الآيرلندي ديفيد بارك صاحب الرواية الهائلة، وإن تكن صغيرة الحجم «ارتحال في أرض غريبة» التي صدرت مؤخراً عن دار «سدرة» في دولة الإمارات، وأنا أعتبره كاتباً لا يزال مظلوماً ولم يحظَ بعد بما يستحق من مجد وتكريم، وأتمنى أن تسنح لي فرصة لترجمة أعمال أخرى له.

> كيف تعاملت مع مشكلة أن الجُمل طويلة للغاية لدى لازلو كراسناهوركاي، حتى إن جملة واحدة قد تأخذ صفحة ونصف؟

- كانت هذه مشكلة بالفعل وذلك لسببين اثنين: الأول هو صعوبة الأمر، فكيف لي أن أكتب كلاماً يكون مفهوماً للقارئ من غير أن أستخدم فواصل ونقاطاً وما إلى ذلك من علامات الترقيم؟ وأما السبب الثاني فهو الخشية من جور «المحرر» لدى دار النشر فهو المسؤول عن «مقروئية» الكتاب، التي هي أمر في غاية الأهمية بالنسبة إلى أي ناشر، وذلك خاصة عندما يغامر بأن يقدم إلى القارئ كاتباً لا يزال غير معروف عنده.

والفكرة هنا أنه إن وجد القارئ صعوبة كبيرة في قراءة واحد من كتب كافكا مثلاً فلن يلوم الناشر، ولن يلوم الكاتب ولا المترجم، بل سيلوم نفسه لأن كافكا اسم كبير معروف جداً. لكن عندما يتناول كتاب كراسناهوركاي، ذلك الكاتب الذي كان لا يزال مجهولاً، فسوف تصدمه غرابة أسلوبه، وصعوبة تفكيك جمله بالغة الطول، وسوف يعيد الكتاب إلى مكانه من غير أن يشتريه.

بالتالي كان عليَ أن أبتكر طرقاً أو «حيلاً» من أجل تجزئة الجمل الطويلة جداً مع الإبقاء على نوع من الترابط المحسوس بينها. أعلم أن في هذا قدراً من «خيانة» النص، لكن الترجمة كلها تنطوي دائماً على بعض من هذه الخيانة، وهذه ضريبة لا بد من احتمالها.

> كيف بدأت علاقتك بالترجمة من الأساس؟

- بدأت علاقتي بالترجمة منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، لكني لم أحترفها إلا سنة 2005، ثم اقتصرت على ترجمة الكتب، لا سيما الروايات منذ 2013. وربما تنبغي الإشارة هنا إلى أن دراستي الجامعية بكلية الهندسة لا علاقة لها بالترجمة من قريب أو بعيد. لكني كنت قارئاً نهماً منذ صغري باللغة العربية. وقد شملت اهتماماتي دائرة واسعة من الموضوعات الأدبية، نثراً وشعراً، والعلمية والتاريخية، ومن أعمال كتّاب اللغة العربية العظام، من قدامى ومعاصرين، كالجاحظ وابن المقفع والمعري وعبد الحميد الكاتب وطه حسين، الذي أراه أهم من كتب بالعربية في العصر الحديث، فكراً ولغةً، وعباس محمود العقاد، وعبد الرحمن بدوي، وغيرهم.

كان لهذه القراءات أثر كبير من حيث صوغ ذائقتي اللغوية وتمتعي بقدر لا بأس به من المرونة أو القدرة على «التلوّن» الأسلوبي بما يناسب النص الذي أعمل على ترجمته. فعلى سبيل المثال، كانت لغتي من حيث المفردات ومن حيث الأسلوب في كتاب «السيرة الذاتية لجون ستيوارت مِل» مختلفة جداً عن لغتي في ترجمة أعمال أندريه دو بوتون.

> إلى أي حد أثرت هجرتك إلى الغرب على مشروعك في الترجمة، وهل ساهمت في توسيع أفق الرؤية والاختيار لديك؟

- لا أعلم كيف أجيب عن هذا السؤال، والحقيقة أنني أحار عندما يواجهني سؤال عن «مشروعي» في الترجمة. لا يستطيع المترجم أن يكون صاحب مشروع في الترجمة إلا إذا كان ناشراً أيضاً، أو ثمة «تحالف» بينه وبين ناشر متمكن. لا أهمية أبداً، ولا جدوى، لأن يقرر المترجم اتخاذ «خط» بعينه في عمله لأن المسألة الجوهرية هنا هي أن تصل أعماله إلى القارئ. وهذه مهمة الناشر.

جلّ ما أستطيعه هو أن أقبل عملاً يُعرض عليّ أو أن أرفضه. وقد تسنح لي أحياناً فرصة اقتراح كتاب أو أكثر، لكن قرار تبني مشروع ترجمة أي كتاب يظل مرتبطاً بعوامل كثيرة تتعلق بالسوق لا يستطيع المترجم تقديرها ولا يستطيع أن يكون مسؤولاً عنها. إن توفر لي ناشر يقبل أن أقترح عليه مشروعاً يشتمل على عدد كبير من الكتب تمثل بجملتها «خطّاً» ذا معالم واضحة، ويمتد العمل عليها فترة طويلة، خمس سنوات مثلاً، أو عشر سنين، فيتبنى ذلك المشروع بحيث أكون متفرغاً له وحده فهذه غاية المنى.

لكن في غياب خيارات من هذا النوع يظل عملي جارياً على مبدأ «من كل بستان زهرة»، ويظل جهدي منصباً على محاولة تقديم أفضل الممكن من بين ما هو متاح. وأما عن أثر الهجرة على عملي فلست أظنه كبيراً مع أن اتساع نظرة المرء إلى العالم يظل أمراً لا مراء فيه.

مشكلات الترجمة في العالم العربي هي نفسها مشكلات القراءة والنشر

> على أي أساس تختار أن تترجم كتاباً وتستبعد آخر؟ لا سيما أن ترجماتك لا تقتصر على اللون الأدبي، وإنما تمتد لتشمل الفلسفة والتنمية البشرية وعلم النفس؟

- أفضل دائماً ترجمة الرواية، لا لشيء إلا لأنني أرى نفسي أجيدها أكثر من غيرها. أي أنني أكون «مرتاحاً» أكثر فتكون الرواية نفسها مرتاحة مثلي. صحيح أن التنوع أمر إيجابي محمود، لكنه لا ينم عن توجه مقصود من جانبي، فأنا أختار من بين ما هو معروض عليّ.

> يلاحظ البعض أن الكتب المصنفة ضمن «الأكثر مبيعاً» تثير اهتمامك، هل هذا صحيح وهل تهتم بمؤشرات السوق التجارية؟

- لا تهمني مؤشرات السوق ولا أتابع حجم مبيعات هذا الكتاب أو ذاك، لكن الكتب «الأكثر مبيعاً» تتصدر اهتمامات الناشرين أكثر الأحيان.

> كيف ترى مشكلات الترجمة في العالم العربي من موقعك في بلغاريا؟

- مشكلات الترجمة في العالم العربي هي نفسها مشكلات القراءة والنشر، نحن قوم لا نحب القراءة... هذا هو الأمر، للأسف. في بلغاريا عدد السكان أقل من سبعة ملايين، ومع ذلك يتراوح عدد النسخ المطبوعة من الكتاب المترجم بين ألف وألفي نسخة. أما في العالم العربي، فيكون الكتاب الذي يبيع ألف نسخة خلال 3 سنين «كتاباً ناجحاً» بالنسبة إلى الناشر. المسألة مسألة سوق، أولاً وأخيراً.

> أخيراً، يمازحك البعض بالقول إن نجم كرة القدم العالمية محمد صلاح ساهم في شهرتك حين نشر غلاف كتاب «فن اللامبالاة» عبر حسابه الرسمي... كيف ترى تفاعل المشاهير مع مؤلفاتك ومع الكتب عموماً؟- لا أعلم شيئاً عن تفاعل المشاهير فأنا لا أتابع أخبارهم، وهذا تقصير مني. وأما ظهور كتاب «فن اللامبالاة» في حساب محمد صلاح، فقد كان ذا أثر كبير جداً على مبيعات الكتاب، وفي جعل اسمي معروفاً أكثر بين القراء. كان أثر صورة صلاح حقيقة وليس مزاحاً، شكراً لأسطورة الكرة؛ وليت المشاهير جميعاً «يعطفون» على الثقافة والكتب، ولو قليلاً.


مقالات ذات صلة

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

ثقافة وفنون هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً.

ميرزا الخويلدي (الدمام)
ثقافة وفنون «ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي.

أليكسس كو (نيويورك)
كتب هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التفاعل والتبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً، ومسكوناً بهاجس الهويات ونزاعاتها.

ومع أن الكُرد شعبٌ يسكن مناطق متفرقة في عدة دول، فإنهم حافظوا على تراثهم الأدبي عبر القرون، وعلى لغتهم التي يتحدث بها أكثر من 30 مليون شخص. وتمتلك هذه اللغة تاريخاً أدبياً غنياً، وتُعد جسراً طبيعياً بين الثقافات في المنطقة.

لقد طُرحت مشاريع عدة لتقريب الثقافتين العربية والكردية؛ لكنها أُجهضت، فقد عملت السياسة كعنصر تخريب للتواصل الثقافي؛ بل أسهمت مشاريع التهميش من جانب والانغلاق من جانب آخر في توسيع الشقة حتى بين أبناء البلد الواحد.

إدراكاً لهذا الواقع المؤسف، أخذت دار «رامينا» التي يديرها الكاتب والروائي الكردي السوري، المقيم في بريطانيا، هيثم حسين، على عاتقها إصدار أو ترجمة عدد من الكتب الكردية إلى اللغة العربية، أو ترجمة الكتب العربية إلى الكردية، في مسعى يهدف «لبناء الجسور بين شعوب المنطقة، وبناء قيم التسامح ونبذ الكراهية والتطرف والعنف، في سياق أدبي إنساني رحب»، كما تقول الدار في نشرة التعريف عن نفسها، على الموقع الإلكتروني. وتضيف أنها تركز «على ثقافات الأقليات والمجتمعات المهمشة في جميع أنحاء العالم، وذلك ضمن الفضاء الثقافي والحضاري والإنساني الأرحب».

الترجمة كجسر للتواصل

يقول صاحب الدار لـ«الشرق الأوسط»: إن هذا المشروع يستهدف إنشاء منطقة تواصل حقيقي: «نحن نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له، وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه. إن تجربة دار النشر (رامينا) هي محاولة لاستعادة ما فقدته الجغرافيا من قدرة على جمع البشر. لقد بدأتُ في تأسيس الدار حين شعرت بأن العلاقة بين العربية والكردية تحتاج إلى عناية تُنقذها من التباعد التاريخي، وبأن الأدب قادر على أداء هذا الدور إذا أُتيح للنصوص أن تنتقل بحرية بين الضفتين».

انطلقت «رامينا» إلى الترجمة بوصفها عملاً يتجاوز التقنية، ولم تبحث عن «نقل الكلمات»، إنما عن نقل التجارب والمخيلات والوجدان، كما يقول مؤسسها. وكانت القفزة الأهم حين عملت -بدعم من مبادرة «ترجم» وبالتعاون مع وكالة «كلمات»- على مشروع ترجمة كتب عدة من الإبداعات السعودية إلى الكردية، وهو حدث يتحقق للمرة الأولى في تاريخ الأدبين العربي والكردي.

لقد قدَّمت «رامينا» للقارئ الكردي نصوصاً عربية خليجية وسورية وعُمانية وبحرينية، مترجمة إلى لغته الأم. وكذلك قدَّمت للقارئ العربي نصوصاً كردية بأصوات متنوعة تمثِّل جغرافيات كردية متعددة، وأعادت فتح نافذة على الأدب السرياني ضمن سلسلة النشر السريانية التي خصصتها لإحياء هذا الإرث الموشَّى بالروحانية والشعر، وهو من أعمق طبقات تاريخ المنطقة، كما أطلقت شراكات ترجمة إلى الإنجليزية، لحاجة الأدب الكردي والعربي إلى هذا الأفق العالمي كي لا يبقى أسير لغته أو مكانه.

من الأعمال التي شكَّلت نقطة تحول في هذا المشروع: سلسلة الإبداعات السعودية المترجمة إلى الكردية؛ وهو مشروع غير مسبوق فتح باباً واسعاً لفهم جديد بين القارئ الكردي والمشهد السعودي، فقد نقلت «رامينا» للقارئ الكردي أعمالاً لأدباء ونقاد سعوديين، منهم: سعد البازعي، ويوسف المحيميد، وأميمة الخميس، وأمل الفاران، وطارق الجارد، وعزيز محمد، وغيرهم.

والثاني، مشروع الترجمات العُمانية والبحرينية، مثل رواية «بدون» ليونس الأخزمي و«الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي؛ و«دخان الورد» لأحمد الحجيري، وهي نصوص أدخلت القارئ الكردي إلى سرديات لم يكن يصل إليها.

والثالث، مشروع الترجمة من الكردية إلى العربية، الذي قدَّم للعربي أصواتاً كردية ذات حساسية عالية، تنقل الهويات المتعددة والمعاناة المتراكمة في كردستان سوريا والعراق وتركيا وإيران؛ حيث تُرجمت إلى العربية عشرات الأعمال الكردية لكُتَّاب كُرد، مثل: عبد القادر سعيد، وسيد أحمد حملاو، وصلاح جلال، وعمر سيد، وكوران صباح... وغيرهم.

وأما الرابع فهو مشروع النشر السرياني، الذي يعيد الاعتبار لطبقة ثقافية مهمَّشة، ولغة أصيلة من تراث منطقتنا، ويمنحها موضعها الطبيعي داخل المشهد الأدبي.

والخامس، إطلاق الترجمات إلى اللغة الإنجليزية.

يقول هيثم حسين إنه «بهذه الحركة المتبادلة، صار مشروع الترجمة في (رامينا) مشروعاً لإعادة النسج بين لغتين، وتأسيس حوار ثقافي طال غيابه».

«نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه»

هيثم حسين

التراث الأدبي المشترك

وردّاً على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عما يمكن أن يضيفه هذا المشروع إلى التراث الأدبي المشترك، يقول هيثم حسين إن مشروع التواصل الأدبي الذي تقوم به «رامينا»، يضيف ما يشبه «الخيط المفقود»، فالتراث العربي والكردي والسرياني ظلَّ متجاوراً دون أن يتشابك بما يكفي.

ويضيف: «الآن، حين يقرأ كردي نصاً سعودياً بلُغته، أو يقرأ عربي رواية كردية، أو قارئ إنجليزي عملاً مترجماً من هذه البيئات، تظهر طبقة جديدة من التراث؛ طبقة عابرة للغات والانتماءات، ترى الإنسان قبل كل شيء. نحن لا ندَّعي أننا بصدد صنع أو تصدير تراث بديل، إنما نحاول أن نعيد توزيع الضوء على تراث موجود، ولكنه كان منسياً في الظلال والهوامش».

أما الثيمات التي تتكرر في إصدارات «رامينا»، فهي تكاد تتقاطع حول هوية تبحث عن مكانها في عالم مضطرب: الذاكرة، بصفتها محاولة لمقاومة النسيان. الكتابات السيرية الذاتية والغيرية. المنفى، باعتباره إعادة تكوين للذات. اللغة، بما تحمله من فجيعة وحماية في آن واحد. الهوامش التي تتحول إلى مركز حين يُكتب عنها بصدق. الأمكنة المحروقة والقرى المطموسة والطفولة المهددة بالمحو. وهذه الثيمات امتداد لتجارب الكُتاب أنفسهم: كرداً، وعرباً، وسرياناً، ومهاجرين.

وعن الحركة الأدبية الكردية في سوريا، يقول هيثم حسين: «إن القوة الأدبية الكردية في سوريا نابعة من صدق التجربة وعمق الجرح. هناك كُتَّاب يمتلكون لغة عربية متماسكة، وأخرى كردية راسخة، ما يجعل أصواتهم قادرة على الوصول إلى جمهورَين. من خلال الترجمة والتوزيع في كردستان العراق، ومن خلال النشر في لندن، أصبح لهذه الأصوات مسار يصل بها إلى مَن لم يكن يسمعها. أرى أن هذا الامتداد عابر للحدود، وأن الكتابة الكردية السورية مرشَّحة لأن تكون أحد أهم أصوات الأدب القادم من المنطقة».

ورداً على سؤال بشأن كيفية تقديم التراث الكردي والهوية الكردية للآخرين، قال مؤسس «رامينا»: «إن الدار قدَّمت التراث عبر نصوصه؛ لا عبر خطاب خارجي عنه. فحين يقرأ قارئ عربي أو إنجليزي أو كردي نصاً مترجماً أو أصلياً، يكتشف مفردات الهوية الكردية كما تعيش في الحياة اليومية: في الأغاني، في اللغة، في القرى، في القصص العائلية، وفي تفاصيل الفقد والحنين. بهذا يصبح التراث الكردي جزءاً من المشهد الثقافي العام، لا معزولاً ولا مؤطَّراً. كما أن النصوص الأدبية تثبت العناصر المشتركة بين الثقافات؛ حيث تكشف النصوص أن الألم واحد، والحنين واحد، وأسئلة الإنسان واحدة. وتُظهر أن الاختلافات اللغوية لا تزيل جوهر التجربة الإنسانية؛ بل توسِّعها. حين يتجاور الأدب الكردي والعربي والسرياني والإنجليزي في سلسلة نشر واحدة، تتكوَّن منطقة مشتركة؛ بلا حدود، يتقاطع فيها الإنسان مع الإنسان. وهذا هو جوهر المشروع الذي أردتُ لـ(رامينا) أن تكون منصته».


«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة
TT

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية تتراوح بين المدينة والقرية على خلفية عوامل من القهر والإحباط التي تجعل من حواء لقمة سائغة في فم وحش الوحدة والعزلة والشجن والحنين.

تعتمد المجموعة تقنيات سردية تستكشف كذلك قضايا الوجود والهوية والاختيارات الصعبة والأحزان العميقة عبر أعمال تمزج بين أشكال مختلفة من السرد مثل السيناريو والمونتاج والفلاش باك والمشهدية البصرية بهدف تسجيل لحظات نسائية خاصة، عبر تجربة أدبية تجمع بين العمق الإنساني والتجريب الفني.

تتنوع النماذج التي تدعو للتأمل في المجموعة القصصية من الخالة التي تجلس وقت الغروب تمضغ التبغ وهى تزعم أن الموتى يبعثون برسائل عبرها كوسيطة، إلى المصابات بالاكتئاب السريري، وليس انتهاء بالأديبة الشابة التي تواجه أديباً شهيراً اعتاد السخرية من الكتابات النسوية.

تميزت عناوين المجموعة بوقع صادم يعبر عن فداحة ما تتعرض له المرأة في المجتمعات الشرقية، بحسب وجهة نظر المؤلفة، مثل «السقوط في نفق مظلم»، «نزع رحم»، «يوميات امرأة تشرب خل التفاح»، «الناس في بلاد الأفيون»، «البكاء على حافة اليقظة».

ولم يكن قيام هناء متولي بإهداء العمل إلى الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ماتت منتحرة عام 1963 عن 30 عاماً، فعلاً عشوائياً، حيث سبق انتحار الأديبة الشهيرة سنوات طويلة من الاضطرابات النفسية والاكتئاب السريري وهو ما يبدو ملمحاً أساسياً من ملامح المجموعة.

وجاء في الإهداء:

«إلى سيلفيا بلاث... التي عرفتْ جيداً كيف يبدو الألم حين يصبح مألوفاً، أستمعُ إلى صدى كلماتك بين همسات الوحدة وأصوات الكتابة، كأنك تركتِ لي خريطة في دفاترك، تشير إلى تلك الأماكن العميقة داخل النفس حيث تختبئ الظلال خلف الضوء».

ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ:

«شروق خجل للشمس بعد ليلة ممطرة، تهرول سناء في عباءتها الصوفية وشالها القطني الطويل، تقترب من البيت المطل على الترعة وحيداً ورغم أنه قد شُّيد من طوب لبن ومعرش بسقيفة من القش فإنه يشع دفئاً في وجه الزمن. تنادي بصوت مترقب: يا خالة، فتطل عليها المرأة قصيرة القامة ذات الجسد المنكمش بعينين يقظتين لتكرر على مسامعها جملتها المعتادة: لا رسائل لك.

تعاود الهرولة وقد أحكمت الشال حول كتفيها العريضتين وقوست قامتها الطويلة، يهاجمها البرد بقسوة ليزيد جفاف قلبها. تعود سناء إلى بيتها... تتكور في فراشها... تحاذر أن تلمس جسد زوجها السابح في النوم، لئلا توقظه برودتها فينكشف سرها.

في ليلة حناء شقيقتها، ارتدت سناء فستاناً بنفسجياً من القطيفة وحجاباً زهرياً خفيفاً، كانت تعجن الحناء وتراقب الرقص والتصفيق بعينين شاردتين، تفاجئها موجة جديدة من حزن كثيف يتلبس روحها ويقبض على قلبها بقسوة. تهرب وتحبس نفسها في مخزن الغلال لتغرق في بكاء لاينتهي. يرغمها والدها على تناول قطعة صغيرة من حلوى العروس وبمجرد ابتلاعها تتقيأ».


«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد
TT

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

جاء الديوان في 176 صفحة، مقسّمة إلى ثمانية فصول: «ما قبلَ»، ثم: «الصَّوت»، «الصُّورة»، «الرَّائحة»، «اللَّمس»، «الطَّعْم»، و«الألم»، «ما بعدَ».

جاء في كلمة الناشر أن «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة» يبدأ من لحظة التّأسيس الأسطوريّة الأولى؛ «المُصادفة» التي جعلتْ «الغابة» تلتهم «جَبلاً». كأنّه بالأحرى «سِفر تكوين» مكثَّف لـ«العلائق» بين الذَّكر والأنثى، التي تتجاوز الثنائيّات التقليديّة للقوّة والضعف، منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا.

بهذا المعنى، فإن «المُعْجَم» الذي يبنيه عماد فؤاد هنا مشدودٌ بين قُطبي الكمال والنُّقصان، المرأة والرّجل، الإيروتيكيّة والصوفيّة، ما قبلَ.. وما بعدَ. لكنّه ليس بسيطاً كما يبدو من الوهلة الأولى، إنّه كون شاسع ومركّب. عالم معقّد تتعدّد أبعاده وتتراكم طبقاته الفلسفيّة والدّينية صفحة بعد صفحة، وقصيدة بعد أخرى... لذلك: تأبى لغة عماد فؤاد الاكتفاء بأداء مهمّتها الرئيسية، فتكون مجرَّد لغة هدفها «الإيصال» فحسب. لا... اللّغة هنا مثل شاعِرها؛ طامعة في أكثر من الممكن، في أكثر حتّى ممّا يستطيع الشِّعر أن يستخرجه من اللّغة نفسها، هذه ليست قصائد عن «الحواسِّ النَّاقصة» كما يدَّعي العنوان، بل قصائد كُتبتْ بـ«الحواسِّ النَّاقصة»، ستجد حروفاً لا تُرى.. بل تُلمَسْ. وكلماتٍ لا تُقال.. بل تُشَمّ. وجُمَلاً لا تُنْطَق.. بل «تُسْتطْعم». وقصائد لا تُقرأ.. بل تخترق اللحم كأسنّة الخناجر.

يعتبر عماد فؤاد أحد شعراء جيل التسعينات المصري، ومن أعماله الشِّعرية: «تقاعد زير نساء عجوز»، و«بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم»، و«حرير»، و«عشر طُرق للتّنكيل بجثَّة» و«أشباحٌ جرّحتها الإضاءة».

ومن كتبه الأخرى، «ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ: الإصدار الثاني لأنطولوجيا النّص الشِّعري المصري الجديد»، وكان الإصدار الأول تحت عنوان «رعاة ظلال.. حارسو عزلات أيضاً»، و«على عينك يا تاجر، سوق الأدب العربي في الخارج... هوامش وملاحظات»، كما صدرت له مختارات شعرية بالفرنسية تحت عنوان «حفيف» (Bruissement) عام 2018.

من قصائد «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة»:

في البدْءِ كانت المُصادفةُ

كأنْ تُمْسِكَ طفلةٌ لاهيةٌ بالجبلِ في يدِهَا اليُمنى، وبالغابةِ في يدِهَا اليُسرى، وتمدَّ ذِراعيْها عن آخرهِمَا ناظرةً إلى أُمِّها في اعتدادٍ. فتنْهَرُها الأمُّ:

لماذا تُباعدين بينهُما؟

وتستغربُ الطِّفلةُ: «هذه صَحْراءُ.. وهذه غابةْ»!

المُصادفةُ وحْدها جعلتْ عينَ الأمِّ تنظرُ إلى الجَبَلِ، فتراهُ وحيداً، لا يُحِدُّهُ شَمالٌ أو جَنوبٌ، تُشرقُ الشَّمسُ فيعرفُ شرْقَهُ مِنْ غَرْبِهِ، لكن لا أحد علَّمَهُ ماذا يفعلُ كي لا يكونَ وحيداً.

علىٰ بُعْدِ نَظَرِه الكلِيْلِ، كان يرى نُقطةً خضراءَ فوقَها سُحُبٌ وأَبْخِرَةٌ وضَبابٌ، حينَ تُمْطرُ يعلوها قوسُ قُزَحٍ لامعٌ، لا تدْخلُ ألوانُهُ في عيْنيْهِ، إلَّا ويَرى دموعَهُ تَسيلُ على صُخُورِه، حتَّى أنَّها سمعتْهُ يتمتمُ مَرَّةً في نومِهِ:

«لو أنَّ جَبلاً.. ائْتَنَسَ بغابةْ»!

في البَدْءِ كانت المُصادفةُ

التي جعلتْ الطِّفلةَ تنظرُ بعيْنَيْها إلى الغابَةِ، فتجدُها مُكْتفيةً بذاتِها، مُدَوَّرةً ومَلْفُوفَةً وعندها ما يكفي مِن المَشاكِلِ والصِّراعاتِ الدَّاخليةِ، تنْهَبُها الحوافرُ والفُكُوكُ

قانونُها القوَّةُ وخَتْمُها الدَّمُ:

«فكيفَ يا ماما تَقْوى الغابةُ على حَمْلِ ظِلِّ جَبَلٍ مثل هذا؟».

لم تُجِبْ الأمُّ

وحدَها الغابةُ كانت تُفكِّرُ:

«نعم؛ ماذا لو أنَّ غابةً..

التهمتْ جَبَلاً؟».