يجمع الشاعر المغربي عمر الراجي في قصائد ديوانه «لو انتصر الحب» علاقات متناقضة لا تجتمع إلا بالشعر، فاتحاً من خلال ذلك نافذة يرى من خلالها هشاشة العالم في ضوء المتغيرات المستمرة التي أفقدت الفرد هويّته. هو شاعرٍ يفتقد اليقين، ويعيش قلق السؤال والتباسات المعنى المتعدد للشيء الواحد، مجسداً ذلك في لغة شعرية بمثابة كاميرا تلتقط الأشياء وتترك للقارئ احتمالات التأويل، كما في قصيدة «نبوءات ممكنة» مثلاً:
لو انتصرَ الحبُّ في أغنيات الهوى
وانحنتْ للرّقاب السيوفُ
وفسّرَ أهل اليقين كلام النبيئين باليسر
وانكسر الجسر
ولو غادرت هذه الحرب دون إياب
ولو أصبح الدمُ عطراً
تُرى كم سيبقى من الوقت حينئذٍ؟
كي يعيش المصابون بالعشق لحظتهم
قبل أن يسرقَ الموت أرواحهُم
ويعلقها في يد الغيب والأسئلة
المتأمل للنصّ يلحظ أن الراجي قام بتشكيله وفق تناقضات «الحب والحرب/ الرقاب والسيوف/ الدم والعطر/ الغيب والأسئلة) وعلاقتها بالزمن (كم سيبقى من الوقت؟)، وتوظيف اللغة الشعرية بطريقة مرئية، الجُمل فيها عبارة عن لقطات خاطفة، لكنها تشكل مشهداً كاملاً (بحث الإنسان عن الحب).
ومثّلت جملة «لو انتصر الحب»، وهي عنوان الديوان، العتبة النصية الأولى التي لا يكتمل معناها إلا بعنوان القصيدة (نبوءات ممكنة)، وهي تفصح عن معنى النص السابق وتساؤلاته التي تشير إلى أن كل شيء ممكن في الحياة ما دام الإنسان له القدرة على تحديد علاقته بالآخر المتناقض لينفتح الوجود على العالم وعلى الآخر، وهكذا تتجمع التناقضات في الحبّ نفسه ليكتمل، فما العشق إلا بركان يشعله اللاتشابه. ولمجرد فهمنا هذه الفلسفة التي صاغها الراجي سنتصالح مع هشاشة العلاقات التي أنجبها ما بعد الحداثة عندما فقد بها الإنسان كينونته، كما في قوله بقصيدة «بلاد مكثفة»:
في بلاد مكثفة الحزن
أهجو الزمان طويلاً طويلاً
وألهو بما قد يتيسر لي
من جنون الجميلات
أقرأُ شعري لهن، ويا للعجب!
ليس يفهمني الناس
يفهمني في العناق اللّهب
قبل يومين التقيت بواحدة...
تعبت، استرحت بجانبها صافحتها
خلعت بباب يديها التعب
في بلاد الذكريات المكثفة
أشعل سيجارة اليوم وحدي
أخون الحقائق بالحلم
أكتب شيئاً عن المرأة/ الحلم
تلك التي شربت قهوتي ريحها
ومضت للغياب الكثيف
كأي قصيدة
هوية الشاعر
لا يحتاج الشاعر أن يبحث عن ذاته؛ لأنه اختار أن يدخل إلى قصيدته بهوية الشاعر، لكن إن أراد أن يكون موجوداً في الوجود فعليه أن يعرّض تلك الذات إلى هشاشة العالم، فحضور اليومي في النص الشعري يمثل الحقيقة العارية كما أسماها هانس بلومنبرغ، والتي تعني: ابحث عن ذاتك في الخارج فهي موجودة فيه. والخارج يتمثل في المكان والزمان، وهذا الأخير هو محل الهجاء عند الراجي؛ لأن المكان مصاب بشيخوخة، فبدا المشهد اليومي الشعري كفضاء جحيمي حلّت على زمانه اللعنة (أقرأ شعري/ ليس يفهمني الناس). وهنا تظهر أزمة الشاعر وتناقض الآخر، فينخرط في فعل العيش (قبل يومين حين التقيت بواحدة/ تعبت استرحت/ خلعت بباب يديها التعب/ أشعل سيجارة اليوم وحدي)؛ نلحظ حركية الفعل وماضيه القريب (قبل يومين) وحاضره (أشعل سيجارة اليوم)، وهي من هوامش الحياة الأساسية التي لا معنى لها إلا في الشعر؛ لأنها تمنحها الأسئلة: من أين لنا القدرة على العيش بهشاشة عالم تشظّت هويته؟ وصار الإنسان يتوجس وجوده، ويخون الحقائق في الحلم، فتظهر علاقتنا بالعالم التي تؤدي إلى ما يسميه هايدغر «الانحطاط»، فلا يعني الانتقال إلى شيء سيئ، بل إلى حقيقة الانغماس بالعالم وفقدان الذات في سطحيته عبر الحياة اليومية، ولكن القصيدة تحاول فلسفة كل شيء، كقوله في قصيدة «فلسفة الوردة»:
سيعود للجزر القديمة سحرها
بعد انسكاب الأحمر القزحي
في كأس النهار
فالأرض ليست هكذا
والصيف يصنع من سنابل حرّه
لغةً تليق بليله وسمائه
وهوائه
لغة تعرّت في قصور الماء
وانسكبت كشاي في القصيدة
لا قواطع في الغناء، ولا يقين
الأرضُ أخت الحالمين هنا تؤنّث القصيدة الأشياء عبر «اللغة والأرض»، وتظهر بوجهين: الأول: بصفتها الإنسانية القادرة على الالتحام والتغيير، والآخر بصفتها الشعرية التي جاءت ذات حركة مستمرة لتوسع من دلالات اللفظ. وكلّما توسعت الدلالات في اللفظة الواحدة انفتح التأويل، ولبست اللغة أثواب معانٍ مختلفة (الصيف يصنع من سنابل حرّه لغة/ لغة تعرّت في قصور الماء/ وانسكبت كالشاي في القصيدة). لقد جعل الشاعر اللغة هي الإنسان نفسه؛ تتجول في هوامش العالم، وفي الحقل والقصر والشاي. واستطاع أن ينشئ بينهما روابط وعلاقة؛ فاللغة والإنسان كلاهما يملكان القدرة على توضيح الوجود في زمن لا استقرار فيه؛ لأنهما يدركان طبيعة الأشياء. ولأن الزمان المعاصر هو زمن آلي؛ لجأ الشاعر إلى المحسوس المعنوي، وجعله يتحرك ومنحه الوجود.
ديوان «لو انتصر الحب» يمثل لحظة تنفجر فيها الأسئلة عما فعلته هشاشة العالم التي جعلت من كل شيء ممكناً، وساعد الشاعر في ذلك أنه اعتمد على لغة شعرية مرئية شكلت لقطات صورية، وليست صوراً بلاغية، على هيئة مشاهد كما هي الحياة.
* كاتبة عراقية




