جاك بريل... نجم سطع وانطفأ سريعاً

وقف ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر والحرب في فيتنام

جاك بريل
جاك بريل
TT

جاك بريل... نجم سطع وانطفأ سريعاً

جاك بريل
جاك بريل

لم يكن وصول جاك بريل إلى باريس عام 1953 قادماً من مسقط رأسه بروكسل حدثاً ذا أهمية، فقدومه جاء بناء على دعوة جاك كانتي، أحد أبرز الوجوه المتخصصة في اكتشاف المواهب الغنائية وإطلاقها، فبفضله عُرف واشتهر مغنون وموسيقيون كبار مثل إيديث بياف وجورج بروسن وسيرج غينزبورغ. وكان بريل قد أرسل إليه تسجيلاً خاصاً لبعض أغانيه التي نظمها ولحنها وغناها أثناء عمله في مصنع صناديق الورق المقوى الذي قضى فيه حتى لحظة مغادرته إلى باريس خمس سنوات.

ولم يكن هناك ما يشير إلى أن نجاحاً خارقاً بانتظار الشاب بريل ابن الرابعة والعشرين، الذي تزوج وهو في سن العشرين ولديه طفلتان، والذي عاش حياة بورجوازية محافظة وأرسِل منذ صغره إلى مدارس كاثوليكية.

غير أن الشيء الذي ميزه عن غيره هو فشله في الدراسة، رغم براعته في كتابة القصص القصيرة والشعر منذ سن مبكرة وحبه الشديد للمطالعة، حيث تعرف على شعراء فرنسا الكبار في سن مبكرة مثل فيرلين وبودلير ورامبو وفلاسفة معاصرين مثل كامو وسارتر.

مع فشله للمرة الثالثة في أداء امتحانات البكالوريا طردته المدرسة نهائياً، فما كان من أبيه إلا أن يعرض عليه العمل في مصنعه، وربما تهيئة له لامتلاكه المصنع مستقبلاً. لكن جاك بريل كان رافضاً لأن يلعب دور المدير الآمر لعماله فبدلاً عن ذلك كان يشاركهم في لعب كرة القدم ويغني أمامهم وهو يعزف على الغيتار الذي تعلمه وهو في سن الخامسة عشرة.

وخلال سنوات عمله المملة تلك في مصنع أبيه انضم بريل لمنظمة خيرية في بروكسل تساعد المعوزين في دور الأيتام والمستشفيات ودور كبار السن، ولعل هذه التجربة جعلته على تماس مع معاناة ساكني هذه المؤسسات وعكسها لاحقاً في بعض قصائده.

أمام قراره بالسفر إلى باريس حذره الأب من أنه في حالة فشله هناك لن يمنحه فرصة للعودة إلى عمله السابق في المصنع. وكأن مدينة النور التي كانت تضج بالفنون والأفكار اليسارية والأدب والمسرح والحب في ذلك العقد سرّعت من تجاوزه لنمط الأغاني التي كان يؤلفها ليندمج في القضايا المصيرية السائدة آنذاك. فمع بلوغ حرب التحرير الجزائرية ذروتها عام 1956 جاءت أغنيته «عندما يكون لدينا الحب فقط» وأداؤه لها في العديد من المسارح لحظة تألق تجاوزت حدود فرنسا، لتصبح هذه الأغنية أشبه بإعلان عالمي مناصر لمعاناة الجزائريين من نير الاستعمار الفرنسي، وضد الحرب في فيتنام لاحقاً.

ما بين عامي 1956 و1959 أصدر بريل أربعة ألبومات، وجاء الأخير الذي ضم أغنيتي «لا تتركيني» و«أمستردام» ليوسع دائرة محبيه ومقلديه ففي العالم الأنجلو-ساكسوني أدى عدد كبير من المغنين «لا تتركيني» بكلمات إنجليزية، ووصل عدد النسخ المختلفة منها إلى 270 أداء. فمن بين من أداها فرانك سيناترا وشيرلي باسي وبربارة سترايسند ونينا سيمون. وكان جاك بريل مصدر إلهام كبير للأميركي بوب ديلان والكندي ليونارد كوهين، فبفضله انفتحت الأغنية لديهما لتتجاوز موضوعات الحب إلى مواضيع تعنى بالتجربة الإنسانية بما فيها الموت والندم والأمل واليأس وغيرها.

وإذا كان العديد من النقاد الأدبيين وجمهوره الواسع اعتبروا أغانيه قصائد فإنه من جانبه ظل يرفض اعتبارها شعراً لأن القصيدة كما يراها ذات تأثير أعمق وأقل مباشَرةً في حين أن الأغنية تمس المتلقي مباشرة.

يُعتبَر عقد الستينيات بالنسبة لبريل أكثر فترات حياته غنى وتنوعاً فخلاله قدم ما يقرب من 80 أغنية وساهم في عدة مناسبات كبرى نظمتها حركات شبابية يسارية في أوروبا بضمنها تلك المعادية للتسلح النووي.

في أوج نجاحه وانتشار أغانيه في العالمين الفرانكفوني والأنجلو- ساكسوني قرر جاك بريل عام 1967 التوقف عن تقديم حفلاته على خشبات المسرح، والتفرغ للسينما حيث مثل في أكثر من عشرة أفلام بما فيها فيلمان من إخراجه رشحا لجائزة السعفة الذهبية. ومع حلول عام 1971 قرر التوقف عن كل النشاطات الفنية والتفرغ للسفر بقاربه حول العام لكن المرض لم يمهله طويلاً، إذا شُخِّص لديه سرطان الرئة عام 1973 وفي يوم 9 أكتوبر 1978 توفي بريل في جزيرة نائية جميلة هي هيفا أوا، في بولينزيا الفرنسية، حيث دفن في مقبرة أتونا على بعد أمتار قليلة من ضريح الرسام الفرنسي بول غوغان.

هنا ترجمة لثلاث قصائد مغناة:

أغنية العشاق القدامى

بالتأكيد، كانت لنا عواصف

عشرون سنة حب، هذا هو الحب المجنون

ألف مرة تأخذين حقائبك

وألف مرة أرحل

وكل قطعة أثاث تتذكر

في هذه الغرفة الخالية من مهد

شظايا أعاصير قديمة

لا شيء يشبه غيره

أنتِ فقدتِ طعم الماء

وأنا الانتصار

لكن حبيبتي

حلوتي، رقيقتي، حبي المذهل

من الفجر حتى نهاية النهار

أحبكِ مرة أخرى، أنت تعرفين، أني أحبك

أنا، أعرف كل تعاويذك

أنتِ تعرفين كل شعوذاتي

أنت حميتني من فخ إلى فخ

وأنا أضعتك بين الحين والآخر

بالتأكيد، أنتِ اتخذتِ لك بعض العشاق

يجب على المرء أن يمرر الوقت

ويجب على الجسد أن يبتهج

لكن في نهاية المطاف، في نهاية المطاف،

يجب أن تكون لنا موهبة

كي نكون عجوزين من دون أن نكون راشدين

حبيبتي

جميلتي، رقيقتي، حبي المذهل

من الفجر الصافي حتى نهاية النهار

أحبك مرة أخرى، أنت تعلمين، أنا أحبك

كلما مضى الزمن في موكبه،

زاد فينا العذاب الذي لا يرحم،

أليس أسوأ الأفخاخ جميعها

أن يعيش العاشقان في سلام؟

صحيح أنك تبكين أقل من قبل،

وأنا يمزقني الألم متأخراً أكثر،

صرنا نحمي أسرارنا أقلّ،

ونترك للصدفة حرية أقل

نرتاب من جريان الماء

لكنها تظل دائماً الحرب الحنون

آه، يا حبي.

القلوب الرقيقة

هناك من له قلب كبير جداً

نستطيع دخوله دون أن نطرق على بابه

هناك من له قلب كبير جداً

إلى الحد الذي لا نرى إلا نصفه

هناك من له قلب جد هش

نستطيع تحطيمه بإصبع واحد

هناك من له قلب هش أكثر مما ينبغي

كي يعيش مثلي ومثلك

لهؤلاء عيون مملوءة بالأزهار

عيون فيها لمسة خوف

خوف من تفويت القطار

المتجه صوب باريس

هناك من له قلب رقيق جداً

إلى الحد الذي يستريح عليه طائر القرقف الأزرق

هناك من له قلب رقيق أكثر مما ينبغي

نصفه بشري ونصفه ملائكي

هناك من له قلب واسع جداً

يجعله في سفر دائم

هناك من له قلب واسع أكثر مما ينبغي

كي يعيش من دون سراب

لهؤلاء عيون مملوءة بالأزهار

عيون فيها لمسة خوف

خوف من تفويت القطار

المتجه صوب باريس

هناك من له قلب خارج صدره

ولا يستطيع إلا أن يقدمه للآخرين

قلب تماماً في الخارج

كي يكون في خدمتهم

ذلك الذي قلبه في الخارج

يكون هشاً ورقيقاً أكثر مما ينبغي

بحيث تكون الأشجار الميتة اللعينة

غير قادرة على سماعه

لهؤلاء عيون مملوءة بالأزهار

عيون فيها لمسة خوف

خوف من تفويت القطار

المتجه صوب باريس

النهر المتجمد

أن ترى النهر متجمداً

فترغب في أن يكون الفصل ربيعاً

أن ترى الأرض محترقة

فتزرع حبة وأنت تغني

أن ترى أنّ عمرك عشرون سنة

فتريد استنفاده

أن ترى فلاحاً عابراً

فيستثيرك كي تحبه

أن ترى متراساً

فتريد الدفاع عنه

أن ترى الكمين مخرباً

وبعد ذلك لا يعود إلى الظهور

أن ترى اللون الرمادي في الضواحي

فتريد أن تكون رينوار

أن ترى عدوك الدائم

فتبادر إلى إغلاق ذكراه

أن ترى بأنك قادم على الشيخوخة

فتريد أن تبدأ من جديد

أن ترى حباً يزدهر

فتريده أن يحترق

أن ترى الخوف غير مجدٍ

فتتركه للضفادع

أن ترى بأنك هش

فتغني من جديد

ذلك ما أراه

ذلك ما أريده


مقالات ذات صلة

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

كتب ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي.

أليكسس كو (نيويورك)
كتب هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
كتب «الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

ينصب التمرد غالباً على سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون مارلين يالوم

إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

قد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كلّ من إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، واحدة من أنجح العلاقات التي جمعت بين باحثين كبيرين في القرن المنصرم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون «البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026

«الشرق الأوسط» (عمان)

جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
TT

جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)

أعلنت جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، عن إطلاق الدورة الثالثة عشرة للجائزة، المخصصة للعمانيين فقط، وتشمل فرع الثقافة (في مجال دراسات الأسرة والطفولة في سلطنة عُمان)، وفي فرع الفنون (في مجال الخط العربي)، وفي فرع الآداب في مجال (القصة القصيرة).

وجاء الإعلان في ختام حفل توزيع جوائز الدورة الـ12 للجائزة، الذي أقيم مساء الأربعاء بنادي الواحات بمحافظة مسقط، برعاية الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة، بتكليفٍ سامٍ من السُّلطان هيثم بن طارق.

وتمّ تسليم الجوائز للفائزين الثلاثة في مسابقة الدورة الثانية عشرة، حيث تسلّمت «مؤسسة منتدى أصيلة» في المغرب، عن مجال المؤسسات الثقافية الخاصة (فرع الثقافة)، وعصام محمد سيد درويش (من مصر) عن مجال النحت (فرع الفنون)، والكاتبة اللبنانية، حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب).

واشتمل الحفل على كلمة لمركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم ألقاها حبيب بن محمد الريامي رئيس المركز، استعرض فيها دور الجائزة وأهميتها، مؤكداً على أن الاحتفال اليوم يترجم استحقاق المجيدين للثناء، ليكونوا نماذج يُحتذى بها في الجد والعطاء.

حبيب بن محمد الريامي رئيس مركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم (العمانية)

وأشار إلى أن المدى المكاني الذي وصلت إليه الجائزة اليوم، والاتساع المستمر للحيز الجغرافي الذي يشارك منه المبدعون العرب على مدار دوراتها، يأتيان نتيجة السمعة الطيبة التي حققتها، واتساع الرؤى المعوّل عليها في مستقبلها، إلى جانب الحرص المتواصل على اختيار لجان الفرز الأولي والتحكيم النهائي من القامات الأكاديمية والفنية والأدبية المتخصصة، في المجالات المحددة للتنافس في كل دورة، ووفق أسس ومعايير رفيعة تكفل إقرار أسماء وأعمال مرموقة تليق بنيل الجائزة.

كما تضمن الحفل أيضاً عرض فيلم مرئي تناول مسيرة الجائزة في دورتها الثانية عشرة وآلية عمل اللجان، إضافة إلى فقرة فنية قدمها مركز عُمان للموسيقى.

يذكر أن الجائزة تأتي تكريماً للمثقفين والفنانين والأدباء على إسهاماتهم الحضارية في تجديد الفكر والارتقاء بالوجدان الإنساني، والتأكيد على الإسهام العماني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في رفد الحضارة الإنسانية بالمنجزات المادية والفكرية والمعرفية.

الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة العماني يكرم ابنة الفائزة حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب) (العمانية).

وتُمنح الجائزة بالتناوب بشكلٍ دوري بحيث تخصّص في عام للعُمانيين فقط، وفي العام الذي يليه تكون للعرب عموماً، ويمنح كل فائز في الدورة العربية للجائزة وسام السُّلطان قابوس للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره مائة ألف ريال عُماني (260 ألف دولار)، أما في الدورة العُمانية فيمنح كُل فائز بالجائزة وسام الاستحقاق للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره خمسون ألف ريال عُماني (130 ألف دولار).

وأنشئت الجائزة بمرسوم سلطاني، في 27 فبراير (شباط) 2011، اهتماماً بالإنجاز الفكري والمعرفي وتأكيداً على الدور التاريخي لسلطنة عُمان في ترسيخ الوعي الثقافي، ودعماً للمثقفين والفنانين والأدباء خصوصاً، ولمجالات الثقافة والفنون والآداب عموماً، لكونها سبيلاً لتعزيز التقدم الحضاري الإنساني.


إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم
TT

إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم

قد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كلّ من الكاتب والمعالج النفسي الأميركي إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، الباحثة في شؤون الأدب المقارن والمرأة والحب، واحدة من أنجح العلاقات التي جمعت بين باحثين كبيرين في القرن المنصرم، وبداية القرن الحالي. على أن ثبات العلاقة بين الطرفين في وجه الزمن لم يكن ليتحقق لولا تصميمهما الراسخ على تخليص ارتباطهما الزوجي من طابعه النمطي الرتيب، وجعله مساحة للصداقة والتكامل الفكري وتشاطر النجاحات والخيبات.

الأرجح أن العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم، واللذين جمعهما الحب في سن مبكرة، يتمثل في دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه ومشروعه الفكري والإبداعي. ففي حين عملت مارلين في جامعة ستانفورد الأميركية، باحثةً في شؤون المرأة والحب وتاريخ النساء والأدب المقارن، عمل إرفين في الجامعة نفسها، منصرفاً إلى التعليم والطب النفسي والكتابة الروائية. والأهم في كل ذلك أن أحدهما لم ينظر إلى الآخر بوصفه خصماً أو منافساً ينبغي تجاوزه، بل بوصفه شريكاً عاطفياً وإبداعياً، ومحفزاً على المزيد من التنقيب المعرفي والإيغال في طلب الحقيقة.

إرفين يالوم

وإذا لم يكن بالمستطاع التوقف المتأني عند أعمال مارلين المهمة، وبينها «شقيقات الدم» و«تاريخ الزوجة » و«ميلاد ملكة الشطرنج»، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه الأعمال قد لاقت رواجاً واسعاً في أربع رياح الأرض، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة عالمية، فيما نال كتابها الشيق «كيف ابتكر الفرنسيون الحب» جائزة المكتبة الأميركية في فرنسا.

أما كتاب مارلين المميز «القلب العاشق»، فهو واحد من أفضل الكتب التي تصدت لموضوع القلب، سواء من حيث كون هذا الأخير عاصمة الجسد ومركزه ومنظم شؤونه، أو من حيث اعتباره عبر التاريخ منزل الحب ومقر الروح، والدريئة التي يسدد إليها كيوبيد سهام الحب، وفق الأسطورة اليونانية. ولأنه كذلك فقد تم تكريس دوره العاطفي المركزي في مختلف الأديان والفلسفات والمجتمعات، واحتفى به الشعراء والفنانون، وبات الشفرة الموحدة لعيد العشاق وهدايا المحبين. وفيما حرص إرفين من جهته على استثمار شغفه بالطب النفسي في الانغماس بالكتابة الروائية، فقد آثر عدم الابتعاد عن دائرة اختصاصه، ليصدر أعمالاً عميقة وفريدة في بابها، من مثل «علاج شوبنهاور» و«مشكلة سبينوزا»، ولينال جوائز عدة أهمها «جائزة سيغموند فرويد للعلاج النفسي».

وإذا كانت رواية إرفين المميزة «حين بكى نيتشه» قد حققت قدراً عالياً من الذيوع والانتشار، فليس فقط لأن مؤلفها تصدى لأحد أبرز فلاسفة الغرب النابغين بالقراءة والتحليل، بل لأن ذلك العمل دار على محورين بالغي الأهمية، محور العلاقة العاطفية الأحادية واليائسة التي جمعت بين نيتشه والكاتبة الروسية الجميلة على ذكاء مفرط لو سالومي من جهة، ومحور اللقاء الافتراضي بين صاحب «غسق الأوثان»، الغارق في تصدعه النفسي وآلامه الجسدية ويأسه الانتحاري، والطبيب النفسي اللامع جوزف بروير من جهة أخرى. وإذ عثر عالم النفس الشهير في مريضه الاستثنائي على واحد من أبرز فلاسفة الغرب وأكثرهم فرادة وجرأة، فقد عرض عليه صفقة رابحة للطرفين، تقضي بأن يعمل الطبيب على شفاء الفيلسوف من آلام الجسد، فيما يعمل الفيلسوف على شفاء الطبيب من آلام الروح.

وفي كتابه «التحديق في الشمس» الذي يستهله بمقولة دو لاروشفوكو حول تعذر التحديق في كلٍّ من الشمس والموت، يقدم إرفين لقرائه كل الحجج والبراهين التي يمكنهم من خلالها تجاوز مقولة الفيلسوف الفرنسي، والتغلب على رعبهم من الموت بوسائل عديدة ناجعة. وفي طليعة هذه الحجج تأتي حجة أبيقور ذات المنطق المحكم، ومفادها أن خوفنا من الموت لا معنى له، لأننا لا نوجد معه في أي زمان أو مكان، فحيث نكون لا يكون الموت، وحيث يكون الموت لا نكون نحن.

ويطرح يالوم في السياق نفسه فكرة الموت في الوقت المناسب، وعيش الحياة بالكامل، بحيث «لا نترك للموت شيئاً سوى قلعة محترقة»، كما فعل زوربا اليوناني. وإذ يذكّرنا المؤلف بقول هايدغر «إن الموت الحقيقي هو استحالة وجود احتمالية أخرى» يدعونا في الوقت نفسه إلى فتح أبواب الحياة أمام ضروب كثيرة من احتمالات العيش وخياراته، وعدم حصر الحياة في احتمال واحد. كما يخصص إرفين الجزء الثاني من كتابه للحديث عن الجهود الشاقة التي بذلها في مساعدة مرضاه، بخاصة أولئك الذين طعنوا في المرض والعمر، على التخلص من رهاب الموت وفكرة العدم، مشيراً إلى أنه حقق نجاحات ملموسة في بعض الأحيان، وأخفق في أحيان أخرى.

العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن الماضي دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه

إلا أن إصابة مارلين بسرطان نقي العظم بدت بمثابة الحدث الزلزالي الذي كان إرفين يظن نفسه بمنأى عنه، كما هو حال البشر جميعاً، حتى إذا وقع في بيته وإلى جواره، بدت المسافة بعيدة بين النظرية والتطبيق، وأوشك بناؤه البحثي على التهاوي. وفي أوج الوضع الحرج للطرفين، اقترحت مارلين على زوجها، وبضربة ذكاء حاذقة، أن يقوما بمراوغة الكوابيس السوداء للمرض، من خلال القيام بوضع عمل سردي مشترك، يعرضان فيه ليوميات المواجهة الضارية مع السرطان، فيما يتكفل العمل من ناحية أخرى بحفظ اسميهما وتجربتهما العاطفية المشرقة في ذاكرة الأجيال.

وإذا كانت أهمية الكتاب المذكور الذي وضعا له عنوان «مسألة موت وحياة»، قد تجسدت في ما أثاره الزوجان من أسئلة وهواجس متصلة بقضايا الحب والصداقة والحياة والمرض والموت، وصولاً إلى معنى الوجود على الأرض، فإن المفارقة الأكثر لفتاً للنظر في الكتاب، لا تتمثل في تناوبهما الدوري على إنجاز فصوله فحسب، بل في الطريقة الهادئة والعقلانية التي تقبّلت بها الزوجة المريضة فكرة الموت، مقابل حالة الهلع والإنكار التي بدت على إرفين، وهو الذي طالما نصح مرضاه بأن يتقبلوا الزائر الثقيل بروح رياضية وتفكير رصين.

وفيما يتابع الزوجان في الكتاب ما تكابده مارلين من آلام، وما يطرأ على وضعها من تغيرات، يعمدان في بعض الأحيان إلى الهروب مما يحدث على أرض الواقع، عبر نقل المشكلة إلى إطار آخر يتعلق بمشكلات نظرية شائكة، أو الانكفاء باتجاه الماضي بحثاً عن الأطياف الوردية لسنوات زواجهما الأولى. كما يتبدل عصب السرد وأسلوبه تبعاً لحالة الزوجة، التي تقع فريسة القنوط القاتم في بعض الأحيان، فيما تحاول تجاوز محنتها أحياناً أخرى، عبر اللجوء إلى الدعابة السوداء والسخرية المُرة، فتكتب ما حرفيته «إننا نشكل زوجاً جيداً، فأنا مصابة بالسرطان النقوي، وهو يعاني من مشكلات في القلب واضطراب التوازن. فنحن عجوزان في رقصة الحياة الأخيرة».

أما المفارقة اللافتة في الكتاب، فلا تتمثل في سعي الزوجة المتألمة إلى إنهاء حياتها بواسطة ما يعرف بالموت الرحيم، أو بمكاشفة إرفين لمارلين برغبته في إنهاء حياته معها، وهو المصاب ببعض أعراض النسيان وبمرض في القلب، بل في رد مارلين المفعم بالدعابة والتورية اللماحة، بأنها «لم تسمع في كل أنحاء أميركا عن تابوت تقاسمه شخصان اثنان». والأرجح أن الزوجة المحتضرة، التي ما لبثت أن رحلت عن هذا العالم عام 2019، كانت تهدف من خلال إجابتها تلك لأن توصل لزوجها الخائف على مصيره رسالة مبطنة مفادها أنه لن يلبث أن يفعل إثر رحيلها ما يفعله الرجال في العادة، وهو الارتباط بامرأة أخرى تخفف عنه أثقال الوحشة والعجز والتقدم في السن. ومع أن الزوج الثاكل قد برر تراجعه عن فكرة الانتحار، برغبته في عدم خذلان مرضاه أو خيانة مسيرته المهنية، فإن لجوءه بعد رحيل زوجته إلى الزواج من الطبيبة النفسية ساكينو ستيرنبرغ، وهو في الثالثة والتسعين من عمره، كان سيقابل من قبل مارلين، لو قُدِّر لها أن تعلم، بأكثر ابتسامات النساء اتصالاً بالحيرة والإشفاق والدهشة الساخرة.


«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني
TT

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026، التاريخ بوصفه عنصراً رئيساً في مجمل أعمالها، مستلهمة الكثير من الحكايات التراثيّة، وقد أُعيد تشكيلها وبثّ الروح فيها من جديد.

تسبر التّوبي، في روايتها الجديدة، وهي خاتمة ثلاثية بعنوان البيرق، أغوار السّرد الشفاهي العُمانيّ، وتبحث في دهاليزه وعوالمه عن حكايات تتواءم مع الأفكار التي تريد مشاركتها مع القارئ، مقدمة نموذجاً في اشتباك الروائي المعاصر مع التاريخ والموروث الشفاهي.

في هذه الرواية التي صدرت هذا العام عن «الآن ناشرون وموزعون»، في عمّان، وجاءت في نحو 600 صفحة، بغلاف من تصميم الفنانة العُمانية بدور الريامي، تعود التّوبي إلى تلك الحكايات التي كان يرويها جدّها عن ذلك التاريخ القديم لعُمان.

تصوّر الروائيّة في الجزء الأول مقاومةَ سكّان حارة الوادي للوجود البريطاني الذي كان يفرض سيطرته على البلاد، في خمسينات القرن الماضي، ومناصرتَهم لحكم الإمام، في صراع غير متكافئ، تمخّضت عنه معاناة قاسية لأهل الوادي. ولأن هذه الحكاية لم تُذكر في كتب التاريخ، فقد نسجت الروائيّةُ خيوطها، وقدّمت أبطالها برؤية سردية أضاءت المناطق المعتمة في الحكاية، مازجةً الواقع بالخيال الفنيّ فقدمت وصفاً لطبيعة الحياة الشعبية وتفاصيل العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وتتناول التّوبي في الجزء الثاني أحداث الفترة التي سمَّاها المؤرخون «حرب الجبل»، التي دارت في المرحلة الزمنية «1956- 1959». إذ تقوم حبكة هذا الجزء على وقع الحرب التي دارت رحاها في خمسينات القرن العشرين وستيناته، بكل ما دفعه البسطاء من ثمن وتضحية.

وتستكمل التّوبي في الجزء الثالث «هبوب الرِّيح» أحداثَ هذا المسار التاريخي الذي شهد ولادة مقاومة وطنية ذاتِ توجهات ثورية (قومية وماركسية)، وهي مواجهة انتهت أيضاً إلى الهزيمة والنكوص لأسباب تتعلّق باختلال موازين القوى بين الطرفين. فقد بدت الحركة الوطنية وكأنها تحمل مزيجاً آيديولوجيّاً أُملِيَ من الخارج، ولم تنتجه خصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العماني.

تعتني التّوبي في روايتها الجديدة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، في النصف الثاني من عمر القرن الماضي، وقد سلّطت الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثاً عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود.

تحكي الرواية عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العُماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة.

وترصد الرواية الأسباب التي دفعت ثلّةً من الشباب للانضمام إلى «الفكر الجديد»، والتي كانت نابعة من حلمهم بالتغيير، فضلاً عن أن لكلٍّ منهم أسبابه الخاصة به. كما أوجدت الكاتبة في هذا الجزء شخصيات جديدة؛ مثل: «أحمد سهيل»، و«عبد السلام»، و«أبو سعاد»، و«باسمة»، و«طفول» الثائرة في وجه العادات والتقاليد والأعراف والرافضة للاستغلال والتهميش.

ويجد المتلقي نفسه يخوض في «هبوب الريح» تفاصيل الأحداث المفصلية كما خاضها الأبطال مع مجتمعهم وعائلاتهم وأنفسهم، وسيعيش أحداث تلك المرحلة من تاريخ عُمان، وسيعثر على إجابات لأسئلة حول مصائر الشخصيات التي التقاها في الجزأين، الأول (حارة الوادي)، والثاني (سراة الجبل).