عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدر كتاب «الجغرافيا المقلوبة - عن الحداثة المصرية ومآزقها» والذي يضم بين دفتيه المقالات والكتابات الأخيرة للكاتب والشاعر المصري مهاب نصر، الذي رحل عن عالمنا 2023 عن عمر ناهز 61 عاماً.
ويرتكز جوهر العمل على تقديم عدد من الرؤى الفلسفية والنقدية لعدد من التجارب الكبرى ما بين الفن والأدب وذكريات الكاتب في مدينته الإسكندرية، وتحديداً منطقة «كامب شيزار»، لكنه يولي اهتماماً خاصاً بالتجربة الغنائية الضخمة لكوكب الشرق أم كلثوم، والتي تحتفل بها الأوساط الثقافية والأدبية بشكل لافت هذا العام، وتوج هذا الاحتفال بمعرض تشكيلي حاشد في قصر عائشة فهمي بالزمالك حمل عنوان «صوت مصر»، يضم أعمالاً فنية متنوعة، في الرسم والتصوير والنحت والكاريكاتير، مستوحاة من مسيرتها، كما يحتوي على مقتنيات نادرة لها، وأرشيف صحافي يوثق لحياتها والمحطات المؤثرة فيها، وذلك في تجربة بصرية فريدة تجمع بن الفنون التشكيلية والوثائق التاريخية.
وفي كتابه يستشهد مهاب نصر بقول صديقة له تخبره أنها «لا تتصور أن واحدة مثل أم كلثوم يمكنها أن تغني لشخص واحد تحبه». كانت تعني أن أداء أم كلثوم لا يمكن فعلياً أن يكون مناجاة بين شخصين، فصوتها حتى حين يصدر عن حنجرة جريحة محطمة، إنما يشبه جداراً يتداعى، حيث يكبر الحزن في موضوع رمزي والحبيب المناجَى يتضاءل ويختفي.
ويذهب نصر إلى أن حضور «الست» الجسدي، كما استقر في صورته النهائية كان جزءاً مضيئاً وإشكالياً من الحضور العام لها، قدمٌ تتقدم أخرى بمسافة قصيرة أمام فرقتها على خشبة المسرح وساعدان تتحفزان دون مغادرة كاملة، واليدان المقبوضة إحداهما على المنديل كأنما تحتجز قامتها كشاهد على الحد الأقصى لما يجب ولما لا يليق أيضاً.
ويرى أنه من الخطأ تصور أن مجتمع أم كلثوم كان مجتمعاً «ذكورياً»، بل هو مجتمع «أمومي» بامتياز، لعبت فيه المرأة دور «الأنا الأعلى» وتلك بحد ذاتها مفارقة تاريخية، أي أن يستعاد الوضع الأمومي منذ الحضارة المصرية القديمة في إطار المد القومي لمصر، بالمعني العروبي والسياسي، كما حدث في الستينيات.
يعضد ذلك أن الموسيقى كانت تقول شيئاً قريباً من هذا، لقد صنع أشهر ملحني أم كلثوم مثل رياض السنباطي لأغانيها معماراً كلاسيكياً مهيباً تم تطويعه للمقامات الشرقية اعتمد على طريقة تعبيرية تبلغ حد الإفراط في جمل طويلة تتصاعد فيها الآهات والليالي كأنها أمواج تتلطم وتنكسر بين المناجاة والفرح والحسرة. استخدم الملحن الصوت المحايد بقدراته الهائلة من أجل رفع الحب إلى مستوى مثال متعال يعبر عن «صراع الأهواء» على نحو هو في المقابل ابن بيئة اجتماعية تتسم أساساً بالتحفظ والكتمان.
ويلاحظ المؤلف أن ثمة ظاهرة في موسيقى السنباطي لم تستطع الموسيقى المصرية الإفلات منها إلا بصعوبة وهي تقديس الكلمة المكتوبة، فقد كان هذا الملحن العبقري يعطي للكلمات بعداً متجاوزاً ودرامياً لصراعها المثالي، دون أن يتجاوز حدودها. أو تقع في «الموسيقى المجردة» التي كان ينظر اليها كنوع من التجديف.
ويرى مهاب نصر أن واحداً من أسباب الإجماع على صوت أم كلثوم أنه «لا يخاطبنا لكنه يأمرنا بالمثول في حضرة الجلال المطلق والرمزي للعواطف والأفكار الكبرى مثل الحزن، ولهفة اللقاء، واضطراب فكرتنا عن الزمن، ومعنى الصمت المشبع بالامتثال والكبرياء معاً».
