حبات المعمول الزجاجية وانفجار مرفأ بيروت في معرض لندني

عرض بعنوان «ليس شهيدك» للبناني رمزي ملاط... وتأملات في الهشاشة والعنف

حبات المعمول الملونة في عمل الفنان رمزي ملاط (الفنان)
حبات المعمول الملونة في عمل الفنان رمزي ملاط (الفنان)
TT

حبات المعمول الزجاجية وانفجار مرفأ بيروت في معرض لندني

حبات المعمول الملونة في عمل الفنان رمزي ملاط (الفنان)
حبات المعمول الملونة في عمل الفنان رمزي ملاط (الفنان)

في متحف فيكتوريا آند ألبرت، وفي قاعة مخصصة لعصر النهضة والعصور الوسطى تطغى عليها المنحوتات الضخمة تقبع مفاجأة. فعلى جانب من القاعة توجد بعض خزانات العرض التي تضم قطعاً لا تنتمي إلى عصور أوروبا القديمة، بل هي آتية من وقتنا الحاضر ومن عالمنا العربي، وهي ضمن معروضات أسبوع لندن للتصميم الجاري حالياً.

في إحداها نرى تنظيماً بصرياً ملوناً لقطع صغيرة من الزجاج الملون، ليست أية قطع، الشكل مألوف فهي تشبه قطع «المعمول» أو «الكعك» الذي يصنع في كل البلدان العربية بمناسبات مختلفة في الأعياد الدينية خاصة.

«ليس شهيدك» في المتحف اللندني (بيتر كيلر والمتحف)

لا نستطيع تجاوز ذلك العرض البصري، ليس فقط، بسبب جماله، ولكن أيضاً، بسبب إيحاءاته ومعانيه المشبعة بالحنين إلى ذكريات العائلة. غير أن العنوان الذي وضعه الفنان اللبناني رمزي ملاط لعمله هذا ينتزعنا من الحالة الوجدانية ليدخلنا في أجواء أثقل في معانيها وذكرياتها. يطلق ملاط على عمله عنوان «ليس شهيدك»، ويصفه البيان الصحافي بأنه «نصب تذكاري مضاد». نعود لقطع المعمول المنقوشة والزاهية الألوان فلا تغيب عنا رمزيتها بوصفها تمثيلاً لتقاليد مشتركة بين أفراد المجتمع اللبناني، فهي تصنع للاحتفال بالأعياد لدى المسلمين والمسيحيين. نكاد نسمع جلبة العائلات المجتمعة كل في بيت ليصنع أفرادها حبات المعمول، تمزج بين علاقات مشتركة وذكريات بين العائلات والجيران متوجة برائحة زكية تتصاعد من الأفران لتداعب أنوف الأطفال والكبار.

ما الذي يريد الفنان أن يعبر عنه عبر هذا العمل؟ أتحدث مع رمزي ملاط لمناقشة العمل، الذي ردّ على مباركتي له بعرض عمله في فيكتوريا آند ألبرت، وقال: «إنه إنجاز أن نرى العمل في مثل هذه المساحة التي تعج بالإشارات التاريخية».

«ليس شهيدك» في المتحف اللندني (بيتر كيلر والمتحف)

يتابع: «أعتقد أيضاً أن من النقاط المهمة في العمل هو وضعه على مستوى منخفض حتى يضطر الناظر إلى الانحناء قليلا لرؤيته (وكأنما ينحني احتراماً لما يمثله) وللانغماس فيه بالانجذاب بإغراء الألوان المتنوعة».

في نصبه التذكاري المضاد يحاول الفنان التعامل مع تبعات انفجار الرابع من أغسطس (آب)، بالنسبة إليه ولأبناء جيله يمثل الانفجار صدمة جماعية، يصف الصدمة والألم بأنهما «إرث»، ولكنه يرفض الانصياع للقتامة: «أردت أن أتناقض مع ذلك أيضاً من خلال إظهار الجمال والثراء الكامن». لعل ذلك ما يعنيه بوصف العمل بأنه «نصب تذكاري مضاد»، ويعلق شارحاً: «لم يكن هناك نصب تذكاري لضحايا الحرب الأهلية، فهي حرب لم يكن بها منتصر، ولا آيديولوجية مهزومة. أردتُ حقاً أن أُسلِّط الضوء على هذا الأمر في الوعي الجماعي، لأنني أشعر بأننا لا نملك طقوساً تُنظِّم جراحنا».

الانفجار وتأثيره

نعود للعنوان مرة أخرى، فهو عنوان لا يهادن، به مزيج من التحدي والألم، وهو ما لا يستقيم مع كل تلك القطع المرهفة من الزجاج الملون مع كل الطبقات الدفينة من الأحاسيس المختزنة في داخل كل قطعة.

رمزي ملاط (الفنان)

يعود بالذاكرة لما حدث: «كنت في بيروت في أثناء الانفجار، عندما وقع لأول مرة، كنت على بعد أقل من كيلومتر واحد من مركز الزلزال، وأتذكر أنه بعد عدة أيام اجتمعنا بصفتنا أفراد مجتمع مدني لنتمكن من إعادة البناء، وداخلنا هذا الفهم بأن المجتمع هو ما يوجهنا حقاً إلى الأمام، وليست الحكومة، حيث إنه لا توجد مؤسسات حقيقية تساعد في إعادة البناء على الإطلاق». أثارت الحياة بعد الانفجار والتعامل مع آثاره لدى ملاط الرغبة في ترجمة كل هذه الأحاسيس إلى نصب تذكاري «لنتمكن أولاً من وضع علامة على هذا الحدث».

يعترض ملاط على وصف ضحايا الانفجار بأنهم «شهداء»، ويوضح «شعرتُ بأن في هذا ظلماً كبيراً لهم، فكان من المتوقع أن نحزن عليهم، وكفى وكنت أشعر بأنه لم يكن هناك نوع من الفهم الملائم للضحايا، لأن هؤلاء الناس لم يموتوا في الواقع على خطوط المواجهة في المعركة، بل ماتوا في منازلهم، وفي الشوارع.» يتابع : «الشهيد، على ما أعتقد، عادةً ما يكون أمراً محسوماً. إنه شخص قُتل في معركة أو جراء قصف كما يحدث في غزة، لكن انفجار الميناء ظل أمراً غير محسوم. قُتل أناس، لكن لم يعرف أحد سبب مقتلهم. لهذا السبب أردتُ وضع هذا الأمر في صدارة العمل. تجدر الإشارة إلى أنه لم يُجرَ حتى الآن أي نقاش حول تورط الأفراد المسؤولين عن هذا الانفجار. لم يدفع أحد ثمنه لقد اتفقنا جميعاً على أن هذه مأساة، وعلينا المُضي قُدماً، وإلا فسننهار».

رمزي ملاط يجهز عمله «ليس شهيدك» للعرض في متحف فيكتوريا آند ألبرت (الفنان)

يربط الانفجار وما تبعه بشعور جيله في لحظة ما بإمكانية التشارك في بناء المجتمع «أتذكر أن الانفجار وقع مباشرةً عقب ثورة، حيث شعر جيلي بإمكانية الإسهام في إعادة بناء وطننا، شعرنا وكأن الوطن ملكنا، ولكن في الواقع ما تعلمناه هو أن علينا دائماً الهجرة خارج الوطن لنتمكن من بناء مستقبلنا. لذا، ربما أصبحت هذه المأساة السبب الأكبر لرحيل مزيد من الناس. أتذكر أنه بعد عام من الانفجار، غادر كل أصدقائي البلد».

المعمول... تراث مشترك

أتساءل عن العمل بتفصيلاته الدقيقة: كعكات المعمول، لماذا اخترت هذا الشكل، خصوصاً أنها تأتي داخل منظومة مختلفة من المعاني والروابط والإشارات؟ يقول: «أعتقد أنها كانت لحظة اكتشاف عندما كنتُ أتعامل بجدية مع تداعيات الانفجار. كنت أفكر كيف يُمكنني تصوير وإنشاء نصب تذكاري لا يستغل الانقسامات الطائفية التي واجهتنا جميعاً في لبنان، ولهذا اخترتُ المعمول لما له من خاصية فهو تراث مشترك، يُحتفل به في عيد الأضحى، وفي عيد الفصح أيضاً. لذا كان هذا أفضل شكل لوصف هذه التقاطعات التي لدينا».

«اخترتُ المعمول لما له من خاصية فهو تراث مشترك» (الفنان)

يصف رحلة البحث عن الحرفيين لتنفيذ مشروعه والحديث معهم: «أتذكر عندما كنتُ أحاول تكليف حرفيين مختلفين في لبنان، أدركتُ أن الأشكال قوالب المعمول تُترجم في الواقع بأشكال أوراق الشجر، وأنماط الزهور، وإشراقات الشمس». ينظر إلى القطع الهشة والملونة بمنظور أعمق «عندما يذهب الناس إلى قبور أحبائهم، يضعون الزهور في علامة على الاحترام والذكرى والإخلاص. وأعتقد أن المَعمول، بوصفه شكلاً فنياً، قد جسّد كل هذه المنظورات. لذا أردتُ أن أحتفل باللحظات السعيدة التي قضاها الناس مع هؤلاء الضحايا، من خلال استحضار تلك الذكريات التي جمعتهم في الاحتفالات، وكذلك في أوقات تحضير المعمول الذي يتطلب جهداً كبيراً، ومساهمة من عدة أشخاص يجتمعون معاً في المطبخ لصنعه، عادةً ما تكون الجدات مع الأمهات والأطفال. إنه أمرٌ ننقله أيضاً من جيل إلى جيل».

سمفونية المدينة

تلفتنا بشدة فكرة استخدام الزجاج لصنع حبات المعمول الملونة، فالزجاج يرتبط مباشرة بالانفجار الذي خلف دماراً هائلاً كان الزجاج المهشم أبرز علاماته. يقول الفنان إن الزجاج المهشم أصبح «سمفونية المدينة» بعد الانفجار، واصفاً صوت المشي عليه في أثناء عمليات التنظيف، «أتذكر أنه أصبح صوتاً يدل على هذا الانفجار المحدد. لأن الزجاج كان في المادة التي تحطمت أكثر، بسبب شدة الانفجار الفعلية، وليس المنازل التي انهارت، مع أن بعضها قد انهار. وهي المادة التي تسببت في إصابات معظم الناس أيضاً. لذلك شعرت بأنه من المناسب دمج ذلك في العمل كأنه علامة مباشرة على هذا الحدث المحدد، وفي الوقت نفسه، يتمتع الزجاج بهذه القدرة على إعادة التشكل بطريقة لا نهائية». لكل هذه الدلائل أصبح الزجاج رمزاً ووسيلة لإنجاز هذا العمل يضيف إليها الفنان أنه يمكن رؤية أشكال المعمول الزجاجية بأنها تعبر عن الهشاشة والعنف «وهما جانبان مما مررنا به في الانفجار. كنا نشعر بالمأساة، وأصبح الزجاج مادةً صادمةً للجميع. لم يستطع الناس الجلوس بجانب النوافذ لشهور خوفاً من أن يتحطم الزجاج مجدداً ويؤذي الجميع. أصبح التفاعل مع الزجاج مرة أخرى بمكانة رد فعلٍ قويٍّ من الصدمة».


مقالات ذات صلة

ملتقى القاهرة للخط العربي... رحلة بصرية بين هيبة التراث وروح الحداثة

يوميات الشرق استعرضت بعض اللوحات أساليب مبتكرة في التكوين (الشرق الأوسط)

ملتقى القاهرة للخط العربي... رحلة بصرية بين هيبة التراث وروح الحداثة

احتفاءً بالخط العربي بوصفه فناً أصيلاً يحمل بين ثناياه دعوة للسلام، والانسجام الإنساني، أطلقت مصر الدورة العاشرة من «ملتقى القاهرة الدولي لفنون الخط العربي».

نادية عبد الحليم (القاهرة)
يوميات الشرق طفل يبحث عما يشبهه من كتب تحاكي ذاته (الشرق الأوسط)

650 ألف زائر يرسخ مكانة معرض جدة للكتاب كمنصة ثقافية إقليمية

مع رحيل آخر أيام معرض جدة للكتاب، يطرح المشهد الثقافي جملةً من الأسئلة حول المعرض وترسيخ مكانته كأحد أبرز الفعاليات الثقافية في المملكة.

سعيد الأبيض (جدة)
يوميات الشرق عبد الحليم رضوي... طاقات تعبيرية ودلالات مفاهيمية ذات طابع معاصر (الشرق الأوسط)

القاهرة تحتفي برائد الفن السعودي عبد الحليم رضوي

يُصاحب معرض رضوي تقديم أعمال نخبة من رواد وكبار التشكيليين المعاصرين في المملكة.

نادية عبد الحليم (القاهرة )
يوميات الشرق جانب من توقيع الاتفاق لتحويل رواية «القبيلة التي تضحك ليلاً» إلى فيلم (الشرق الأوسط)

السينما السعودية تمدّ جسورها إلى الأدب في معرض جدة للكتاب

لم يعد سؤال صنّاع السينما يدور حول عدد العناوين، بل حول أيّ الروايات تصلح لأن تُروى على الشاشة...

سعيد الأبيض (جدة)
يوميات الشرق تحاول الفنانة التشكيلية في هذه المجموعة العبور من المحدود إلى المطلق (الغاليري)

معرض «تفتّحت الزهور من بين حجار الإسمنت المكسور»... عود على بدء

تستخدم ندى صحناوي الألوان الزاهية، بالإضافة إلى الأسود والأبيض. وفي قوالب الزهور الحمراء والبيضاء، يخال للناظر إليها أنها تُشبه كعكة عيد...

فيفيان حداد (بيروت)

«نوابغ العرب» تختار البروفسور اللبناني بادي هاني لجائزة «الاقتصاد»

حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
TT

«نوابغ العرب» تختار البروفسور اللبناني بادي هاني لجائزة «الاقتصاد»

حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)

اختارت مبادرة «نوابغ العرب» البروفسور اللبناني بادي هاني للفوز بالجائزة عن فئة الاقتصاد، تقديراً لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية.

وهنّأ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، البروفسور هاني، مؤكداً أن استدامة النمو الاقتصادي المرن والمتوازن تُعد ركناً أساسياً لتقدم المجتمعات وازدهار الحضارة الإنسانية. وقال في منشور على منصة «إكس» إن هاني، أستاذ الاقتصاد في جامعة سيراكيوز، قدّم «إسهامات استثنائية» في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية، لافتاً إلى أنه نشر أكثر من 200 بحث علمي، وأن كتابه في تحليل نماذج البيانات الاقتصادية بات مرجعاً للباحثين حول العالم.

وأشار الشيخ محمد بن راشد إلى حاجة المجتمعات العربية إلى اقتصاديين محترفين، مؤكداً أن السياسات الفاعلة تُبنى على علم راسخ وبيانات دقيقة، وأن «اقتصاد الأمة يُصنع بعقولها»، معبّراً عن تطلعه إلى «فصل عربي جديد» في مسيرة استئناف الحضارة العربية.

وجاء منح جائزة الاقتصاد هذا العام للبروفسور بادي هاني تقديراً لإسهاماته في تطوير أدوات التحليل الاقتصادي، خصوصاً في مجال «تحليل لوحة البيانات الاقتصادية»، الذي يعزز دقة دراسة البيانات عبر دمج معلومات من فترات زمنية ومصادر متعددة. وأسهمت ابتكاراته، بحسب المبادرة، في تحسين تقييم آثار السياسات الاقتصادية على المدى البعيد وعبر مناطق مختلفة، ما دفع حكومات ومؤسسات إلى تبنّي أساليبه في قياس كفاءة السياسات والإنفاق العام والأطر التنظيمية.

كما قدّم هاني دورات تدريبية لمختصين اقتصاديين ضمن مؤسسات دولية، بينها البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، وبنوك مركزية عدة. ونشر أكثر من 200 بحث علمي، وله مؤلفات أكاديمية مؤثرة، أبرزها كتاب «تحليل نماذج البيانات الاقتصادية» المرجعي. وهو يحمل درجة البكالوريوس في الإحصاء من الجامعة الأميركية في بيروت، والماجستير من جامعة كارنيجي ميلون، والدكتوراه في الاقتصاد من جامعة بنسلفانيا.

وفي إطار الإعلان عن الجائزة، أجرى محمد القرقاوي، وزير شؤون مجلس الوزراء ورئيس اللجنة العليا لمبادرة «نوابغ العرب»، اتصالاً مرئياً بالبروفسور بادي هاني أبلغه خلاله بفوزه بجائزة «نوابغ العرب 2025» عن فئة الاقتصاد، مشيراً إلى أهمية الأبحاث والنظريات والأدوات التي طورها على مدى عقود، والتي أصبحت ركيزة أساسية في التحليل الاقتصادي الاستراتيجي القائم على المعطيات والبيانات الدقيقة لاستشراف مستقبل التنمية وتعظيم فرصها.

واعتبر القرقاوي أن فوز هاني يمنح «دافعاً قوياً» لجيل جديد من الباحثين والمحللين والاقتصاديين العرب للإسهام في رسم المرحلة المقبلة من التنمية الشاملة في المنطقة.


آلاف يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند «ستونهنج» في إنجلترا

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
TT

آلاف يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند «ستونهنج» في إنجلترا

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

احتشد آلاف الأشخاص ورقصوا حول «ستونهنج» في إنجلترا، بينما ارتفعت الشمس فوق الدائرة الحجرية ما قبل التاريخ، اليوم (الأحد)، في الانقلاب الشتوي.

وتجمعت الحشود، العديد منهم مرتدون زي الدرويد والمشعوذين الوثنيين، قبل الفجر، منتظرين بصبر في الحقل البارد والمظلم في جنوب غربي إنجلترا. وغنى بعضهم، وضربوا الطبول، بينما أخذ آخرون وقتهم للتأمل بين الأعمدة الحجرية الضخمة.

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

يقوم كثيرون بزيارة هذه الدائرة الحجرية كل صيف وشتاء، معتبرين ذلك تجربة روحية. ويعد النصب القديم، الذي بني بين 5000 و3500 سنة مضت، مصمماً ليتوافق مع حركة الشمس خلال الانقلابات، وهي تواريخ رئيسية في التقويم بالنسبة للمزارعين القدماء.

وقالت منظمة إنجلش هيريتاج، المسؤولة عن إدارة «ستونهنج»، إن نحو 8500 شخص احتفلوا يوم السبت بالموقع في سالزبوري بلين، على بعد نحو 75 ميلاً (120 كيلومتراً) جنوب غربي لندن. وأضافت أن البثّ المباشر للاحتفالات جذب أكثر من 242 ألف مشاهدة من جميع أنحاء العالم.

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

واليوم (الأحد)، هو أقصر يوم في السنة شمال خط الاستواء، حيث يشير الانقلاب الشتوي إلى بداية الشتاء الفلكي. أما في نصف الكرة الجنوبي، فهو أطول يوم في السنة ويبدأ الصيف.

ويحدث الانقلاب الشتوي عندما تصنع الشمس أقصر وأدنى قوس لها، لكن العديد من الأشخاص يحتفلون به كوقت للتجديد، لأن الشمس بعد يوم الأحد ستبدأ بالارتفاع مجدداً، وستزداد مدة النهار يوماً بعد يوم حتى أواخر يونيو (حزيران).


«الأسود على نهر دجلة»... صراع إنساني تكشفه بوابة نجت من الدمار

المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
TT

«الأسود على نهر دجلة»... صراع إنساني تكشفه بوابة نجت من الدمار

المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)

يقدّم الفيلم العراقي «الأسود على نهر دجلة» تجربة تتقاطع فيها الذاكرة الشخصية بالذاكرة الجماعية، ويعود فيها المخرج زرادشت أحمد إلى المُوصل، مدينة الجراح المفتوحة، بعد سنوات من محاولته الابتعاد عن العراق وصراعاته، فبعد نجاح فيلمه السابق «لا مكان للاختباء» وما تركه من أثر عاطفي ثقيل عليه، كان المخرج يؤكد لنفسه أنه لن يصوّر في المنطقة مرة أخرى.

لكن المُوصل كما يقول لـ«الشرق الأوسط» أعادت جذبه ببطء حين رأى الدمار الهائل الذي خلّفته الحرب مع تنظيم «داعش»، وواجه أسئلة لم يتمكن من تجاهلها حول كيفية سقوط مدينة بهذا التاريخ أمام 800 مقاتل فقط، وكيف يحاول سكانها اليوم النهوض من جديد.

الفيلم الذي حصد التانيت الفضي للفيلم الوثائقي الطويل ضمن فعاليات الدورة الـ36 من «أيام قرطاج السينمائية»، بتونس، بدأت رحلة مخرجه من فكرة مختلفة تماماً، إذ كان يبحث عن تحفة أثرية، تُعرف باسم «بطارية بغداد»، ظنّ أنها سُرقت بعد عام 2003، قبل أن يكتشف وجودها في قبو المتحف الوطني.

وثّق الفيلم جانباً من الأضرار التي لحقت بالموصل (الشركة المنتجة)

لكن زيارة إلى الموصل بدّلت مسار الفيلم، ففي أحد الأزقة الضيقة للمدينة القديمة، وقف أمام منزل دُمر بالكامل، ولم يبقَ منه سوى بوابة رخامية، يعلوها أسدان منحوتان، كأنهما الحارسان الأخيران لزمنٍ مضى، هذا المشهد كان كافياً ليقرر أنه أمام قصة أكبر من مجرد بحث أثري، بل أمام ذاكرة مدينة بأكملها.

تعرف أحمد خلال تلك الرحلات إلى بشّار، الصياد ابن الموصل وصاحب المنزل المدمر، 4 أجيال من عائلته عاشت في ذلك البيت، واليوم لم يبقَ لهم سوى هذين الأسدين، في نظر بشّار لم يكونا حجارة، بل كانا امتداداً لعائلته، لذكرياته، لروحه كلها، يذهب يومياً إلى الأطلال ليحرسهما، ويواجه محاولات سرقة متكررة، ويقاوم شعوراً لا ينتهي بأن الدولة تخلّت عنه، وأن مدينته فقدت القدرة على ضمّه، مأساته في الفيلم ليست فقدان منزل فقط، بل فقدان هوية، وفشل محاولات الإقناع بأن الوقت قد حان للبدء من جديد.

رصد الفيلم جوانب مختلفة من الحياة في الموصل (الشركة المنتجة)

وفي مقابل بشار، يظهر فخري، الشخصية التي تضيف بعداً مختلفاً للفيلم، رجلاً ستينياً، جمع على مدى سنوات أكثر من 6 آلاف قطعة أثرية أنقذها من بيوت مهجورة وبقايا خراب الحرب، وحوّل منزله إلى متحف مفتوح للناس، باع سيارته، ومقتنيات زوجته، ومدخراته كلها ليحافظ على جزء من هوية الموصل. في البداية، كان يحلم بأن يضم باب منزل بشّار إلى مجموعته، معتقداً أنه يحمي تاريخ المدينة من الضياع.

لكن مع الوقت تبدأ تحولات داخلية عميقة تظهر في شخصيته، خصوصاً حين يواجهه صديقه الموسيقار فاضل بأن التاريخ ليس سلعة، وأن ما تبقى لبشّار ليس حجراً بل حياته نفسها، فيصبح هذا الصراع الإنساني بين رجلين يحبان مدينتهما على طريقتين مختلفتين محوراً أساسياً ينبني عليه الفيلم.

أما فاضل، الموسيقار الذي عاش 3 سنوات من الرعب تحت حكم «داعش»، فكان يخفي آلته الموسيقية خشية إعدامه. يخرج اليوم إلى الشارع، يعزف وسط الأنقاض، يعلّم جيلاً جديداً من الشباب ومعظمهم من الفتيات ويعيد الموسيقى إلى مدينة حاول التطرف أن يخنق صوتها، وجوده في الفيلم لا يقدّم بعداً موسيقياً جمالياً فقط، بل يعكس التغيّر الأعمق الذي عاشته الموصل بعد التحرير، انفتاحاً ثقافياً مفاجئاً وغير متوقع، وعودة للحياة المدنية من خلال الفن، لا السياسة.

التصوير كان رحلة محفوفة بالمخاطر كما يؤكد المخرج، فالكاميرا في العراق ليست موضع ترحيب، الناس يخشونها، السلطات تشك فيها، والمخابئ والممرات تحت الأرض كانت لا تزال مليئة بالألغام وبقايا العبوات، كثيراً ما أوقفته الشرطة أو اتهمه البعض بالتجسس، بينما كان يحاول الحفاظ على سلامة فريقه وسلامة الشخصيات التي ترافقه داخل أحياء مهدمة. ومع ذلك، كان الإحساس بأن الوقت ضيق والمدينة تتغير بسرعة دافعاً له للاستمرار، كما لو أنه يصوّر آخر فرصة لتوثيق ما تبقى من ذاكرة شفافة قبل أن تذوب.

خلال 5 سنوات من العمل، جمع المخرج أكثر من 600 ساعة تصوير، لم يكن يعتمد على سيناريو ثابت، بل على تطور القصة من قلب الواقع، وعلى اللحظة التي يلتقطها بعفوية، وعلى مشاهد تنشأ من الصمت أو من جملة يقولها بشّار أو فخري أو فاضل. ولهذا يبدو الفيلم حياً، غير مشكَّل مسبقاً، أقرب إلى تسجيل نبض مدينة تبحث عن روحها.

عودة الروح والموسيقى إلى الموصل بعد تحريرها من أيدي «داعش» (الشركة المنتجة)

يمتد أثر الفيلم إلى ما يتجاوز الشخصيات، فالموصل التي يظهرها أحمد ليست مجرد مدينة مدمرة، بل مدينة تحاول استعادة معمارها وروحها وذاكرتها، حيث نساء يخرجن إلى الساحات من جديد، فنانون يعيدون افتتاح المسرح، موسيقيون يدرّبون أطفالاً صغاراً، ومتحف وطني يُرمَّم بعد أن دمّره «داعش»، كل تفصيلة تتحرك داخل الفيلم باعتبارها جزءاً من سؤال أكبر؛ هل يمكن لمدينة فقدت كل شيء أن تستعيد هويتها؟ وهل يستطيع الإنسان أن يشفى من ذاكرة الحرب؟

ورغم أن الموصل اليوم أكثر أماناً، فإن المخرج يذكّر بأن الأفكار المتطرفة لا تختفي بسهولة، ويرى أن المدينة مثل مرآة للمنطقة كلها، وأن ما يحدث فيها يعكس ما يمكن أن يحدث في مدن أخرى إذا تُركت بلا دعم حقيقي أو دون إعادة بناء للثقة والوعي والانتماء.