في متحف فيكتوريا آند ألبرت، وفي قاعة مخصصة لعصر النهضة والعصور الوسطى تطغى عليها المنحوتات الضخمة تقبع مفاجأة. فعلى جانب من القاعة توجد بعض خزانات العرض التي تضم قطعاً لا تنتمي إلى عصور أوروبا القديمة، بل هي آتية من وقتنا الحاضر ومن عالمنا العربي، وهي ضمن معروضات أسبوع لندن للتصميم الجاري حالياً.
في إحداها نرى تنظيماً بصرياً ملوناً لقطع صغيرة من الزجاج الملون، ليست أية قطع، الشكل مألوف فهي تشبه قطع «المعمول» أو «الكعك» الذي يصنع في كل البلدان العربية بمناسبات مختلفة في الأعياد الدينية خاصة.

لا نستطيع تجاوز ذلك العرض البصري، ليس فقط، بسبب جماله، ولكن أيضاً، بسبب إيحاءاته ومعانيه المشبعة بالحنين إلى ذكريات العائلة. غير أن العنوان الذي وضعه الفنان اللبناني رمزي ملاط لعمله هذا ينتزعنا من الحالة الوجدانية ليدخلنا في أجواء أثقل في معانيها وذكرياتها. يطلق ملاط على عمله عنوان «ليس شهيدك»، ويصفه البيان الصحافي بأنه «نصب تذكاري مضاد». نعود لقطع المعمول المنقوشة والزاهية الألوان فلا تغيب عنا رمزيتها بوصفها تمثيلاً لتقاليد مشتركة بين أفراد المجتمع اللبناني، فهي تصنع للاحتفال بالأعياد لدى المسلمين والمسيحيين. نكاد نسمع جلبة العائلات المجتمعة كل في بيت ليصنع أفرادها حبات المعمول، تمزج بين علاقات مشتركة وذكريات بين العائلات والجيران متوجة برائحة زكية تتصاعد من الأفران لتداعب أنوف الأطفال والكبار.
ما الذي يريد الفنان أن يعبر عنه عبر هذا العمل؟ أتحدث مع رمزي ملاط لمناقشة العمل، الذي ردّ على مباركتي له بعرض عمله في فيكتوريا آند ألبرت، وقال: «إنه إنجاز أن نرى العمل في مثل هذه المساحة التي تعج بالإشارات التاريخية».

يتابع: «أعتقد أيضاً أن من النقاط المهمة في العمل هو وضعه على مستوى منخفض حتى يضطر الناظر إلى الانحناء قليلا لرؤيته (وكأنما ينحني احتراماً لما يمثله) وللانغماس فيه بالانجذاب بإغراء الألوان المتنوعة».
في نصبه التذكاري المضاد يحاول الفنان التعامل مع تبعات انفجار الرابع من أغسطس (آب)، بالنسبة إليه ولأبناء جيله يمثل الانفجار صدمة جماعية، يصف الصدمة والألم بأنهما «إرث»، ولكنه يرفض الانصياع للقتامة: «أردت أن أتناقض مع ذلك أيضاً من خلال إظهار الجمال والثراء الكامن». لعل ذلك ما يعنيه بوصف العمل بأنه «نصب تذكاري مضاد»، ويعلق شارحاً: «لم يكن هناك نصب تذكاري لضحايا الحرب الأهلية، فهي حرب لم يكن بها منتصر، ولا آيديولوجية مهزومة. أردتُ حقاً أن أُسلِّط الضوء على هذا الأمر في الوعي الجماعي، لأنني أشعر بأننا لا نملك طقوساً تُنظِّم جراحنا».
الانفجار وتأثيره
نعود للعنوان مرة أخرى، فهو عنوان لا يهادن، به مزيج من التحدي والألم، وهو ما لا يستقيم مع كل تلك القطع المرهفة من الزجاج الملون مع كل الطبقات الدفينة من الأحاسيس المختزنة في داخل كل قطعة.

يعود بالذاكرة لما حدث: «كنت في بيروت في أثناء الانفجار، عندما وقع لأول مرة، كنت على بعد أقل من كيلومتر واحد من مركز الزلزال، وأتذكر أنه بعد عدة أيام اجتمعنا بصفتنا أفراد مجتمع مدني لنتمكن من إعادة البناء، وداخلنا هذا الفهم بأن المجتمع هو ما يوجهنا حقاً إلى الأمام، وليست الحكومة، حيث إنه لا توجد مؤسسات حقيقية تساعد في إعادة البناء على الإطلاق». أثارت الحياة بعد الانفجار والتعامل مع آثاره لدى ملاط الرغبة في ترجمة كل هذه الأحاسيس إلى نصب تذكاري «لنتمكن أولاً من وضع علامة على هذا الحدث».
يعترض ملاط على وصف ضحايا الانفجار بأنهم «شهداء»، ويوضح «شعرتُ بأن في هذا ظلماً كبيراً لهم، فكان من المتوقع أن نحزن عليهم، وكفى وكنت أشعر بأنه لم يكن هناك نوع من الفهم الملائم للضحايا، لأن هؤلاء الناس لم يموتوا في الواقع على خطوط المواجهة في المعركة، بل ماتوا في منازلهم، وفي الشوارع.» يتابع : «الشهيد، على ما أعتقد، عادةً ما يكون أمراً محسوماً. إنه شخص قُتل في معركة أو جراء قصف كما يحدث في غزة، لكن انفجار الميناء ظل أمراً غير محسوم. قُتل أناس، لكن لم يعرف أحد سبب مقتلهم. لهذا السبب أردتُ وضع هذا الأمر في صدارة العمل. تجدر الإشارة إلى أنه لم يُجرَ حتى الآن أي نقاش حول تورط الأفراد المسؤولين عن هذا الانفجار. لم يدفع أحد ثمنه لقد اتفقنا جميعاً على أن هذه مأساة، وعلينا المُضي قُدماً، وإلا فسننهار».

يربط الانفجار وما تبعه بشعور جيله في لحظة ما بإمكانية التشارك في بناء المجتمع «أتذكر أن الانفجار وقع مباشرةً عقب ثورة، حيث شعر جيلي بإمكانية الإسهام في إعادة بناء وطننا، شعرنا وكأن الوطن ملكنا، ولكن في الواقع ما تعلمناه هو أن علينا دائماً الهجرة خارج الوطن لنتمكن من بناء مستقبلنا. لذا، ربما أصبحت هذه المأساة السبب الأكبر لرحيل مزيد من الناس. أتذكر أنه بعد عام من الانفجار، غادر كل أصدقائي البلد».
المعمول... تراث مشترك
أتساءل عن العمل بتفصيلاته الدقيقة: كعكات المعمول، لماذا اخترت هذا الشكل، خصوصاً أنها تأتي داخل منظومة مختلفة من المعاني والروابط والإشارات؟ يقول: «أعتقد أنها كانت لحظة اكتشاف عندما كنتُ أتعامل بجدية مع تداعيات الانفجار. كنت أفكر كيف يُمكنني تصوير وإنشاء نصب تذكاري لا يستغل الانقسامات الطائفية التي واجهتنا جميعاً في لبنان، ولهذا اخترتُ المعمول لما له من خاصية فهو تراث مشترك، يُحتفل به في عيد الأضحى، وفي عيد الفصح أيضاً. لذا كان هذا أفضل شكل لوصف هذه التقاطعات التي لدينا».

يصف رحلة البحث عن الحرفيين لتنفيذ مشروعه والحديث معهم: «أتذكر عندما كنتُ أحاول تكليف حرفيين مختلفين في لبنان، أدركتُ أن الأشكال قوالب المعمول تُترجم في الواقع بأشكال أوراق الشجر، وأنماط الزهور، وإشراقات الشمس». ينظر إلى القطع الهشة والملونة بمنظور أعمق «عندما يذهب الناس إلى قبور أحبائهم، يضعون الزهور في علامة على الاحترام والذكرى والإخلاص. وأعتقد أن المَعمول، بوصفه شكلاً فنياً، قد جسّد كل هذه المنظورات. لذا أردتُ أن أحتفل باللحظات السعيدة التي قضاها الناس مع هؤلاء الضحايا، من خلال استحضار تلك الذكريات التي جمعتهم في الاحتفالات، وكذلك في أوقات تحضير المعمول الذي يتطلب جهداً كبيراً، ومساهمة من عدة أشخاص يجتمعون معاً في المطبخ لصنعه، عادةً ما تكون الجدات مع الأمهات والأطفال. إنه أمرٌ ننقله أيضاً من جيل إلى جيل».
سمفونية المدينة
تلفتنا بشدة فكرة استخدام الزجاج لصنع حبات المعمول الملونة، فالزجاج يرتبط مباشرة بالانفجار الذي خلف دماراً هائلاً كان الزجاج المهشم أبرز علاماته. يقول الفنان إن الزجاج المهشم أصبح «سمفونية المدينة» بعد الانفجار، واصفاً صوت المشي عليه في أثناء عمليات التنظيف، «أتذكر أنه أصبح صوتاً يدل على هذا الانفجار المحدد. لأن الزجاج كان في المادة التي تحطمت أكثر، بسبب شدة الانفجار الفعلية، وليس المنازل التي انهارت، مع أن بعضها قد انهار. وهي المادة التي تسببت في إصابات معظم الناس أيضاً. لذلك شعرت بأنه من المناسب دمج ذلك في العمل كأنه علامة مباشرة على هذا الحدث المحدد، وفي الوقت نفسه، يتمتع الزجاج بهذه القدرة على إعادة التشكل بطريقة لا نهائية». لكل هذه الدلائل أصبح الزجاج رمزاً ووسيلة لإنجاز هذا العمل يضيف إليها الفنان أنه يمكن رؤية أشكال المعمول الزجاجية بأنها تعبر عن الهشاشة والعنف «وهما جانبان مما مررنا به في الانفجار. كنا نشعر بالمأساة، وأصبح الزجاج مادةً صادمةً للجميع. لم يستطع الناس الجلوس بجانب النوافذ لشهور خوفاً من أن يتحطم الزجاج مجدداً ويؤذي الجميع. أصبح التفاعل مع الزجاج مرة أخرى بمكانة رد فعلٍ قويٍّ من الصدمة».



