أحمد السعيد: اللغة الصينية أعادت تشكيل طريقة تفكيري

الباحث المصري قال لـ إن الصينيين لقّبوه بـ«ماركو بولو العرب»

المترجم أحمد السعيد
المترجم أحمد السعيد
TT

أحمد السعيد: اللغة الصينية أعادت تشكيل طريقة تفكيري

المترجم أحمد السعيد
المترجم أحمد السعيد

يعد الباحث والمترجم والناشر المصري الدكتور أحمد السعيد أحد أبرز الوجوه المصرية المتخصصة في الثقافة الصينية التي قدمت جهداً ملموساً في السنوات الأخيرة على صعيد التقريب بين تلك الثقافة ونظيرتها العربية. في كتابه الصادر أخيراً «الصين من الداخل» محاولة لتقديم رؤية جديدة للعملاق الآسيوي صاحب الموروث الحضاري العريق تتجاوز الانبهار الشكلي. وقدم السعيد في سنوات قليلة العشرات من الأعمال المترجمة من وإلى الصينية من خلال دار «بيت الحكمة» بالتعاون مع مجموعة من المترجمين.

هنا حوار معه حول كتابه الجديد وهموم الترجمة والنشر:

> كتابك الأحدث «الصين من الداخل»، هل جاء متأثراً في عنوانه بكتاب محمد حسنين هيكل الشهير «إيران من الداخل»؟ هل ثمة ما يربط بين العملين مثل محاولة اقتحام مجتمع مثير للفضول، لكنه يتميز بالغموض والانغلاق الشديد؟

- كتابي يختلف تماماً عن كتاب محمد حسنين هيكل؛ فهو كتب عن داخل إيران وهو خارجها، معتمداً على أدواته الصحافية الرائعة كما هو دائماً، وشبكة مصادره الواسعة ليقدّم شهادة مراقب يقرأ المشهد من الخارج. أما أنا فكتبت عن الصين وأنا في قلبها: معرفياً ومهنياً ودراسياً وحياتياً. عشت في مدنها وريفها، تعلمت لغتها، احتككت بمؤسساتها الأكاديمية والثقافية، وكنت جزءاً من تفاصيلها اليومية. هذا لا يعني أن القرب وحده كافٍ، لكنه يمنح زاوية مختلفة تماماً: زاوية الشاهد لا المراقب.

> ما الدافع وراء تأليفك لهذا الكتاب؟

- الدافع كان مزيجاً من المسؤولية والقلق. بعد أكثر من ربع قرن من الاحتكاك بالصين دراسةً وعملاً، شعرت أن التجربة لا يجوز أن تبقى حبيسة صدري، بل يجب أن تتحول إلى نص معرفي مشترك مع القارئ العربي. في الوقت نفسه، أقلقني أن صورة الصين في وعينا العربي تتأرجح بين نقيضين: انبهار بمعجزتها الاقتصادية، وتشويه غربي يقدّمها باعتبارها دولة مغلقة وغامضة وخطرة.

أردت أن أكتب من منطقة ثالثة: بلا مديح أو تشويه متعمد. أردت أن أقدم الصين كما هي: بلد يحمل إنجازات كبرى وتحديات واقعية، وجذوراً ثقافية وفكرية لا يمكن تجاهلها. هذه الرغبة لم تأتِ من قرار فجائي، بل من تراكم مواقف صغيرة: نقاش فلسفي في قاعة درس حول معنى «التناغم»، حوار مع سائق عن مفهوم «الأمان»، اجتماع رسمي لاحظت فيه كيف تُدار الكلمات بقدر ما يُدار الوقت. هذه التفاصيل علمتني أن فهم الصين ليس خياراً، بل ضرورة.

> ما الفارق بين تلك التجربة وكتابك الآخر اللافت «سنواتي في الصين»؟

- «سنواتي في الصين» كان دفتر الدهشة الأولى، كتاب القلب، فيه القصص الصغيرة والانطباعات السريعة. أما «الصين من الداخل»، فهو كتاب النضج والعقل، ثمرة تراكم وتجربة طويلة، عمل يحاول أن يقرأ البنية العميقة للصين: كيف تفكر، كيف ترى نفسها، كيف تصوغ علاقتها بالعالم. كتبت مسوداته أكثر من مرة، مزّقت نسخاً كاملة خوفاً من أن يسقط في فخ الدعاية، أو أن يثقل على القارئ. كان هدفي أن أجد لغة وسطى، تجمع بين عمق الباحث وسلاسة القاص معاً.

> من وجهة نظرك، لماذا تبدو الثقافة الصينية مثيرة لفضول العالم؟ وهل يضع الإنسان الصيني، رغم تهذيبه الشديد، حواجز متعمدة من الحذر والشك بينه وبين العالم الخارجي؟

- الثقافة الصينية مثيرة للفضول؛ لأنها استثناء في التاريخ الإنساني: حضارة استمرت بلا انقطاع آلاف السنين، تتغير في الشكل لكنها تبقى في الجوهر. العالم كله يسأل: ما سرّ هذه القدرة على الصمود؟ أما الإنسان الصيني، فهو مهذب ولطيف فعلاً، لكنه يحيط نفسه بحذر. هذا ليس قسوة في الطبع، بل حصيلة خبرة تاريخية طويلة بالغزو والتدخل الخارجي؛ لذلك يمنح ثقته بالتقسيط، لا دفعة واحدة.

> ما هي أبرز نقاط «سوء الفهم» أو «الالتباس» في تعامل الثقافة العربية مع نظيرتها الصينية؟

- سوء الفهم العربي للصين يبدأ من الاقتصاد ولا ينتهي إليه. كثيرون يختزلونها في «مصنع العالم»، في السلع الرخيصة والتكنولوجيا. لكن خلف هذه القوة الاقتصادية هناك منظومة قيم وفلسفة عريقة: احترام الوقت، مركزية الانسجام، مفهوم «الوجه»؛ أي الاعتبار الاجتماعي، وفكرة أن العمل ليس مجرد رزق، بل تحقيق للذات والجماعة. سوء فهم آخر هو قراءة الصين بمنظار التجربة السوفياتية، وكأن الاشتراكية الصينية مجرد نسخة مكررة، في حين أن النموذج الصيني فريد: يمزج بين السوق والتخطيط، بين الفكر الماركسي والروح الكونفوشيوسية، بين البراغماتية السياسية والجذور الثقافية.

> في المقابل، كيف ترى نظرة الثقافة الصينية للعرب؟ وهل تكتنفها أيضاً نقاط من «سوء الفهم» أو عدم وضوح الرؤية؟

- صورة العرب في الوعي الصيني مزدوجة؛ هناك صورة رومانسية تعود إلى الأدب: «ألف ليلة وليلة»، الصحراء، الكرم، الشعر. وهناك صورة سلبية تأثرت بالإعلام الغربي: عنف وفوضى وإرهاب. بين هاتين الصورتين تضيع الحقيقة. المثقفون والباحثون الصينيون يعرفون أكثر، يعرفون أن العرب كانوا شركاء في «طريق الحرير»، وأن التجار المسلمين تركوا أثراً في مدن صينية مثل قوانغتشو وشيان. لكن هذا الوعي لا يصل دائماً إلى الشارع.

> كيف بدأت قصتك مع اللغة الصينية؟ ولماذا انتهى الأمر بهذا الولع الجارف بها؟

- قصتي مع اللغة الصينية بدأت صدفة؛ التحقت بقسمها في جامعة الأزهر لا عن حب مسبق، بل هروباً من الطب والصيدلة. لم تتقبل أسرتي الاختيار، لكنني مضيت فيه كما مضى طارق بن زياد بلا عودة. بعد التخرج عملت في السفارات، ثم في القوات المسلحة مترجماً. لكن اللحظة الحاسمة كانت عندما سافرت إلى الصين: هناك تحولت اللغة من وسيلة عمل إلى مفتاح حضارة. الحرف الصيني ليس مجرد رمز، بل صورة تحمل فلسفة. تعلمت أن الكلمة لا تكفي وحدها، بل سياقها وموسيقاها وإشارات الجسد معها. اللغة الصينية علمتني الصبر والدقة، وأعادت تشكيل طريقة تفكيري.

> ما الذي يحدد اختياراتك كمترجم من وإلى الصينية؟

- اختياراتي كمترجم تحددها القيمة وقدرة النص على أن يكون جسراً. لا أبحث عن السهل أو الرائج، بل عن العمل الذي يفتح نافذة جديدة. أحياناً أترجم نصوصاً معقدة؛ لأنها تكشف بعداً جديداً في الفكر الصيني، وأحياناً أختار نصوصاً أدبية؛ لأنها تعكس إنسانيتنا المشتركة. بالنسبة لي، الترجمة ليست تجارة، بل مسؤولية حضارية، والمترجم رسول بين ثقافتين.

> ما ملاحظاتك على حركة الترجمة بين العالم العربي والصين عموماً؟

- الترجمة بين العرب والصين ما زالت محدودة جداً، هناك جهود مشكورة لكنها موسمية. ما نحتاجه هو مشروع استراتيجي طويل الأمد، شبيه بما فعله العرب في العصر العباسي حين أسسوا «بيت الحكمة» التي لم تكن مجرد دار ترجمة، بل مؤسسة، رؤية تجمع النص وتترجمه وتشرحه وتعلمه وتدمجه في النسيج الاجتماعي. نحن اليوم بحاجة إلى «بيت حكمة جديد»، لكن بأدوات العصر: منصات رقمية، مكتبات صوتية، شراكات جامعية، وصناديق دعم مستقرة.

> كيف ترى موقع الأدب العربي المعاصر في الثقافة الصينية؟ وهل هناك تقصير في نقل إنتاجنا الإبداعي إلى الصين؟

- الأدب العربي في الصين يكاد يقتصر على نجيب محفوظ ومحمود درويش وأدونيس، أسماء الجيل الجديد مجهولة. وهذا تقصير من جانبنا قبل أن يكون من جانبهم. الأدب هو الوجه الأصدق للأمة؛ لأنه يعرض الإنسان لا الخبر. لو وصلت أعمال كتّابنا الجدد مترجمة بانتظام، لتغيّرت صورة العرب كثيراً. الأدب قادر على أن يهدم الصور النمطية؛ لأنه يكشف الإنسان في ضعفه وقوته، في ألمه وحبه، بعيداً عن السياسة والدعاية. وأنا مؤمن أن الأدب العربي يحمل قضايا إنسانية تهم القارئ الصيني كما تهم العربي: العائلة، المنفى، الحلم، العدل. لذلك أرى أن نقل الأدب العربي ليس ترفاً، بل ضرورة لصياغة علاقة متوازنة بين الشعبين. ولعلنا بحاجة إلى برامج تبادل أدبي لا تقل أهمية عن التبادل التجاري.

> نشرت ما يقرب من 1000 كتاب بالتعاون مع عشرات المترجمين، من وإلى اللغة الصينية، في عدة سنوات عبر دار «بيت الحكمة» التي تشرف عليها... ما الرؤية التي تكمن وراء هذا الجهد المدهش؟

- «بيت الحكمة» لم تكن مجرد دار نشر، بل محاولة لبناء جسر مؤسسي. نشرنا نحو ألف كتاب، لكن الأهم أننا جمعنا أكثر من 130 مترجماً يعملون وفق رؤية مشتركة. نتحرك في ثلاث دوائر: ترجمة تدخل المعرفة، تعليم يخرج مترجمين وقراء جدداً، وإعلام ثقافي يعيد تقديم المحتوى بوسائط جديدة. رؤيتي أن تخرج الترجمة من موسم بيع وعرض نسخ إلى دورة حياة كاملة: كتاب مطبوع، نسخة رقمية، تسجيل صوتي، محتوى مرئي، حضور في الجامعات. بذلك يعيش النص ويتكاثر، ولا يبقى مجرد مطبوعة على رفّ.

> أيهما يثير شغفك أكثر، النشر أم الترجمة؟ وما الفارق بين المهنتين من واقع تجربتك؟

- الترجمة عشقي الأول، فيها عزلة ومغامرة، فيها لذة البحث عن كلمة واحدة حتى تضيء النص. النشر ساحة أخرى: عمل جماعي، قرار سريع، مخاطرة بالسوق. الترجمة تعلم الصبر والدقة، النشر يعلم الشجاعة والمخاطرة. لا أستطيع أن أفصل بينهما؛ فالنص بلا نشر يتيم، والنشر بلا نصوص مسؤولة يتحول إلى ماكينة فارغة.

> أخيراً، يطلقون عليك في الصين «ماركو بولو العرب»، لكن رغم سعادتك باللقب يبدو أن لديك تحفظات عليه؟

- لقب «ماركو بولو العرب» الذي منحته لي صحيفة «الشعب» الصينية، وهي الصحيفة الرسمية للصين، يسعدني من حيث التقدير، لكنه يترك عندي تحفظاً صادقاً؛ لأن من يملك سرد القصة يملك الذاكرة. العرب عرفوا الصين قبل المؤرخ والرحّالة الإيطالي ماركو بولو بقرون: ابن بطوطة، المسعودي، التاجر سليمان. هؤلاء هم الذين رسموا الخرائط الحقيقية لـ«طريق الحرير». أفضّل أن أكون امتداداً لهم لا نسخة من سردية غربية. اللقب يعكس التقدير، لكنه لا يلخّصني. أحب أن أكون «ابن بطوطة جديداً»؛ بمعنى المثابرة على السفر بين المعاني والثقافات، والوفاء لجذري العربي وأنا أكتب عن الصين من داخلها.


مقالات ذات صلة

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون 14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.


14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن
TT

14 شخصاً في صراع مع الزمن

14 شخصاً في صراع مع الزمن

صدر عن «دار المرايا» في القاهرة رواية «ألعاب وحشية» للروائي المصري ماجد وهيب، وهي الكتاب السادس له بين الرواية والقصة القصيرة. تقع الرواية في 512 صفحة من القطع المتوسط، وتتكون من أربعة عشر فصلاً، يمثل كل فصل منها جيلاً، من قصة عائلة مصرية من الجد الرابع عشر، حتى الابن في الحاضر، مبتعدة عن تقديم أي خلفية تاريخية لأحداثها، وتكتفي فقط بإشارات عابرة إلى تطور نمط الحياة من جيل إلى آخر.

مع النهاية، نلاحظ أن ثمة وجوداً لفكرة العود الأبدي ودوران الزمن في حركة دائرية، عاكسة تأثير الماضي في الحاضر والمستقبل، وكيف يؤثر كل فعل في مصير الآخرين، وهكذا لا يوجد بطل للرواية، فالـ14 شخصية هم جميعهم أبطال، وكل واحد منهم بطل حكايته، فأسماء الفصول كلها معنونة بأسماء شخصيات، وهكذا يكون الزمن هو البطل الأول، وهو الذي يمارس ألعابه الوحشية في المقام الأول، غير أن كل شخصية لها حكايتها التي لا تأتي منفصلة عن الماضي، ولا ينقطع تأثيرها في المستقبل، وتعيش هي أيضاً ألعابها الخاصة، عبر أحلامها وانكساراتها والصراع الذي تدخل فيه.

وفي ظل ذلك تلعب الرواية على وتر البحث عن الهوية، من خلال علاقات حب يبدو فيها وكأنه مغامرة كبيرة وليس مجرد شعور، مغامرة ترسم المصائر وتعيد تشكيل العلاقات، وثمة أحلام، وهزائم وانتصارات، يتغير معها المكان والزمان، وبطبيعة الحال يلعب الموت دوراً كبيراً في الأحداث، وكثيراً ما يأتي بدايةً وليس نهاية.