أحمد السعيد: اللغة الصينية أعادت تشكيل طريقة تفكيري

الباحث المصري قال لـ إن الصينيين لقّبوه بـ«ماركو بولو العرب»

المترجم أحمد السعيد
المترجم أحمد السعيد
TT

أحمد السعيد: اللغة الصينية أعادت تشكيل طريقة تفكيري

المترجم أحمد السعيد
المترجم أحمد السعيد

يعد الباحث والمترجم والناشر المصري الدكتور أحمد السعيد أحد أبرز الوجوه المصرية المتخصصة في الثقافة الصينية التي قدمت جهداً ملموساً في السنوات الأخيرة على صعيد التقريب بين تلك الثقافة ونظيرتها العربية. في كتابه الصادر أخيراً «الصين من الداخل» محاولة لتقديم رؤية جديدة للعملاق الآسيوي صاحب الموروث الحضاري العريق تتجاوز الانبهار الشكلي. وقدم السعيد في سنوات قليلة العشرات من الأعمال المترجمة من وإلى الصينية من خلال دار «بيت الحكمة» بالتعاون مع مجموعة من المترجمين.

هنا حوار معه حول كتابه الجديد وهموم الترجمة والنشر:

> كتابك الأحدث «الصين من الداخل»، هل جاء متأثراً في عنوانه بكتاب محمد حسنين هيكل الشهير «إيران من الداخل»؟ هل ثمة ما يربط بين العملين مثل محاولة اقتحام مجتمع مثير للفضول، لكنه يتميز بالغموض والانغلاق الشديد؟

- كتابي يختلف تماماً عن كتاب محمد حسنين هيكل؛ فهو كتب عن داخل إيران وهو خارجها، معتمداً على أدواته الصحافية الرائعة كما هو دائماً، وشبكة مصادره الواسعة ليقدّم شهادة مراقب يقرأ المشهد من الخارج. أما أنا فكتبت عن الصين وأنا في قلبها: معرفياً ومهنياً ودراسياً وحياتياً. عشت في مدنها وريفها، تعلمت لغتها، احتككت بمؤسساتها الأكاديمية والثقافية، وكنت جزءاً من تفاصيلها اليومية. هذا لا يعني أن القرب وحده كافٍ، لكنه يمنح زاوية مختلفة تماماً: زاوية الشاهد لا المراقب.

> ما الدافع وراء تأليفك لهذا الكتاب؟

- الدافع كان مزيجاً من المسؤولية والقلق. بعد أكثر من ربع قرن من الاحتكاك بالصين دراسةً وعملاً، شعرت أن التجربة لا يجوز أن تبقى حبيسة صدري، بل يجب أن تتحول إلى نص معرفي مشترك مع القارئ العربي. في الوقت نفسه، أقلقني أن صورة الصين في وعينا العربي تتأرجح بين نقيضين: انبهار بمعجزتها الاقتصادية، وتشويه غربي يقدّمها باعتبارها دولة مغلقة وغامضة وخطرة.

أردت أن أكتب من منطقة ثالثة: بلا مديح أو تشويه متعمد. أردت أن أقدم الصين كما هي: بلد يحمل إنجازات كبرى وتحديات واقعية، وجذوراً ثقافية وفكرية لا يمكن تجاهلها. هذه الرغبة لم تأتِ من قرار فجائي، بل من تراكم مواقف صغيرة: نقاش فلسفي في قاعة درس حول معنى «التناغم»، حوار مع سائق عن مفهوم «الأمان»، اجتماع رسمي لاحظت فيه كيف تُدار الكلمات بقدر ما يُدار الوقت. هذه التفاصيل علمتني أن فهم الصين ليس خياراً، بل ضرورة.

> ما الفارق بين تلك التجربة وكتابك الآخر اللافت «سنواتي في الصين»؟

- «سنواتي في الصين» كان دفتر الدهشة الأولى، كتاب القلب، فيه القصص الصغيرة والانطباعات السريعة. أما «الصين من الداخل»، فهو كتاب النضج والعقل، ثمرة تراكم وتجربة طويلة، عمل يحاول أن يقرأ البنية العميقة للصين: كيف تفكر، كيف ترى نفسها، كيف تصوغ علاقتها بالعالم. كتبت مسوداته أكثر من مرة، مزّقت نسخاً كاملة خوفاً من أن يسقط في فخ الدعاية، أو أن يثقل على القارئ. كان هدفي أن أجد لغة وسطى، تجمع بين عمق الباحث وسلاسة القاص معاً.

> من وجهة نظرك، لماذا تبدو الثقافة الصينية مثيرة لفضول العالم؟ وهل يضع الإنسان الصيني، رغم تهذيبه الشديد، حواجز متعمدة من الحذر والشك بينه وبين العالم الخارجي؟

- الثقافة الصينية مثيرة للفضول؛ لأنها استثناء في التاريخ الإنساني: حضارة استمرت بلا انقطاع آلاف السنين، تتغير في الشكل لكنها تبقى في الجوهر. العالم كله يسأل: ما سرّ هذه القدرة على الصمود؟ أما الإنسان الصيني، فهو مهذب ولطيف فعلاً، لكنه يحيط نفسه بحذر. هذا ليس قسوة في الطبع، بل حصيلة خبرة تاريخية طويلة بالغزو والتدخل الخارجي؛ لذلك يمنح ثقته بالتقسيط، لا دفعة واحدة.

> ما هي أبرز نقاط «سوء الفهم» أو «الالتباس» في تعامل الثقافة العربية مع نظيرتها الصينية؟

- سوء الفهم العربي للصين يبدأ من الاقتصاد ولا ينتهي إليه. كثيرون يختزلونها في «مصنع العالم»، في السلع الرخيصة والتكنولوجيا. لكن خلف هذه القوة الاقتصادية هناك منظومة قيم وفلسفة عريقة: احترام الوقت، مركزية الانسجام، مفهوم «الوجه»؛ أي الاعتبار الاجتماعي، وفكرة أن العمل ليس مجرد رزق، بل تحقيق للذات والجماعة. سوء فهم آخر هو قراءة الصين بمنظار التجربة السوفياتية، وكأن الاشتراكية الصينية مجرد نسخة مكررة، في حين أن النموذج الصيني فريد: يمزج بين السوق والتخطيط، بين الفكر الماركسي والروح الكونفوشيوسية، بين البراغماتية السياسية والجذور الثقافية.

> في المقابل، كيف ترى نظرة الثقافة الصينية للعرب؟ وهل تكتنفها أيضاً نقاط من «سوء الفهم» أو عدم وضوح الرؤية؟

- صورة العرب في الوعي الصيني مزدوجة؛ هناك صورة رومانسية تعود إلى الأدب: «ألف ليلة وليلة»، الصحراء، الكرم، الشعر. وهناك صورة سلبية تأثرت بالإعلام الغربي: عنف وفوضى وإرهاب. بين هاتين الصورتين تضيع الحقيقة. المثقفون والباحثون الصينيون يعرفون أكثر، يعرفون أن العرب كانوا شركاء في «طريق الحرير»، وأن التجار المسلمين تركوا أثراً في مدن صينية مثل قوانغتشو وشيان. لكن هذا الوعي لا يصل دائماً إلى الشارع.

> كيف بدأت قصتك مع اللغة الصينية؟ ولماذا انتهى الأمر بهذا الولع الجارف بها؟

- قصتي مع اللغة الصينية بدأت صدفة؛ التحقت بقسمها في جامعة الأزهر لا عن حب مسبق، بل هروباً من الطب والصيدلة. لم تتقبل أسرتي الاختيار، لكنني مضيت فيه كما مضى طارق بن زياد بلا عودة. بعد التخرج عملت في السفارات، ثم في القوات المسلحة مترجماً. لكن اللحظة الحاسمة كانت عندما سافرت إلى الصين: هناك تحولت اللغة من وسيلة عمل إلى مفتاح حضارة. الحرف الصيني ليس مجرد رمز، بل صورة تحمل فلسفة. تعلمت أن الكلمة لا تكفي وحدها، بل سياقها وموسيقاها وإشارات الجسد معها. اللغة الصينية علمتني الصبر والدقة، وأعادت تشكيل طريقة تفكيري.

> ما الذي يحدد اختياراتك كمترجم من وإلى الصينية؟

- اختياراتي كمترجم تحددها القيمة وقدرة النص على أن يكون جسراً. لا أبحث عن السهل أو الرائج، بل عن العمل الذي يفتح نافذة جديدة. أحياناً أترجم نصوصاً معقدة؛ لأنها تكشف بعداً جديداً في الفكر الصيني، وأحياناً أختار نصوصاً أدبية؛ لأنها تعكس إنسانيتنا المشتركة. بالنسبة لي، الترجمة ليست تجارة، بل مسؤولية حضارية، والمترجم رسول بين ثقافتين.

> ما ملاحظاتك على حركة الترجمة بين العالم العربي والصين عموماً؟

- الترجمة بين العرب والصين ما زالت محدودة جداً، هناك جهود مشكورة لكنها موسمية. ما نحتاجه هو مشروع استراتيجي طويل الأمد، شبيه بما فعله العرب في العصر العباسي حين أسسوا «بيت الحكمة» التي لم تكن مجرد دار ترجمة، بل مؤسسة، رؤية تجمع النص وتترجمه وتشرحه وتعلمه وتدمجه في النسيج الاجتماعي. نحن اليوم بحاجة إلى «بيت حكمة جديد»، لكن بأدوات العصر: منصات رقمية، مكتبات صوتية، شراكات جامعية، وصناديق دعم مستقرة.

> كيف ترى موقع الأدب العربي المعاصر في الثقافة الصينية؟ وهل هناك تقصير في نقل إنتاجنا الإبداعي إلى الصين؟

- الأدب العربي في الصين يكاد يقتصر على نجيب محفوظ ومحمود درويش وأدونيس، أسماء الجيل الجديد مجهولة. وهذا تقصير من جانبنا قبل أن يكون من جانبهم. الأدب هو الوجه الأصدق للأمة؛ لأنه يعرض الإنسان لا الخبر. لو وصلت أعمال كتّابنا الجدد مترجمة بانتظام، لتغيّرت صورة العرب كثيراً. الأدب قادر على أن يهدم الصور النمطية؛ لأنه يكشف الإنسان في ضعفه وقوته، في ألمه وحبه، بعيداً عن السياسة والدعاية. وأنا مؤمن أن الأدب العربي يحمل قضايا إنسانية تهم القارئ الصيني كما تهم العربي: العائلة، المنفى، الحلم، العدل. لذلك أرى أن نقل الأدب العربي ليس ترفاً، بل ضرورة لصياغة علاقة متوازنة بين الشعبين. ولعلنا بحاجة إلى برامج تبادل أدبي لا تقل أهمية عن التبادل التجاري.

> نشرت ما يقرب من 1000 كتاب بالتعاون مع عشرات المترجمين، من وإلى اللغة الصينية، في عدة سنوات عبر دار «بيت الحكمة» التي تشرف عليها... ما الرؤية التي تكمن وراء هذا الجهد المدهش؟

- «بيت الحكمة» لم تكن مجرد دار نشر، بل محاولة لبناء جسر مؤسسي. نشرنا نحو ألف كتاب، لكن الأهم أننا جمعنا أكثر من 130 مترجماً يعملون وفق رؤية مشتركة. نتحرك في ثلاث دوائر: ترجمة تدخل المعرفة، تعليم يخرج مترجمين وقراء جدداً، وإعلام ثقافي يعيد تقديم المحتوى بوسائط جديدة. رؤيتي أن تخرج الترجمة من موسم بيع وعرض نسخ إلى دورة حياة كاملة: كتاب مطبوع، نسخة رقمية، تسجيل صوتي، محتوى مرئي، حضور في الجامعات. بذلك يعيش النص ويتكاثر، ولا يبقى مجرد مطبوعة على رفّ.

> أيهما يثير شغفك أكثر، النشر أم الترجمة؟ وما الفارق بين المهنتين من واقع تجربتك؟

- الترجمة عشقي الأول، فيها عزلة ومغامرة، فيها لذة البحث عن كلمة واحدة حتى تضيء النص. النشر ساحة أخرى: عمل جماعي، قرار سريع، مخاطرة بالسوق. الترجمة تعلم الصبر والدقة، النشر يعلم الشجاعة والمخاطرة. لا أستطيع أن أفصل بينهما؛ فالنص بلا نشر يتيم، والنشر بلا نصوص مسؤولة يتحول إلى ماكينة فارغة.

> أخيراً، يطلقون عليك في الصين «ماركو بولو العرب»، لكن رغم سعادتك باللقب يبدو أن لديك تحفظات عليه؟

- لقب «ماركو بولو العرب» الذي منحته لي صحيفة «الشعب» الصينية، وهي الصحيفة الرسمية للصين، يسعدني من حيث التقدير، لكنه يترك عندي تحفظاً صادقاً؛ لأن من يملك سرد القصة يملك الذاكرة. العرب عرفوا الصين قبل المؤرخ والرحّالة الإيطالي ماركو بولو بقرون: ابن بطوطة، المسعودي، التاجر سليمان. هؤلاء هم الذين رسموا الخرائط الحقيقية لـ«طريق الحرير». أفضّل أن أكون امتداداً لهم لا نسخة من سردية غربية. اللقب يعكس التقدير، لكنه لا يلخّصني. أحب أن أكون «ابن بطوطة جديداً»؛ بمعنى المثابرة على السفر بين المعاني والثقافات، والوفاء لجذري العربي وأنا أكتب عن الصين من داخلها.


مقالات ذات صلة

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

ثقافة وفنون هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية.

ندى حطيط
ثقافة وفنون إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

يواصل الكاتب المسرحي والروائي ماجد الخطيب، في الجزء الثاني من «ملصقات بيروت»، سرد سيرته الشخصية في بيروت، المبتلية بالحرب،

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها لقد أتاح لي الحظ أن أتعرف على أحمد أبو دهمان لأول مرة

هاشم صالح

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.


حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع
TT

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه، على أهمية النظرة الجماعية للأدب بين التسلية والعمق والدلالات الخطيرة التي تكمن وراء طبيعة نظرة شعب من الشعوب له، وفق هذا المنظور أو ذاك.

ويؤكد العقاد أن اعتبار الأدب أداة لهو وتسلية هو الذي يصرفه عن رسالته العظيمة في فهم النفس البشرية والتعبير الصادق عن الحياة، وغيرهما من عظائم الأمور، ويسقطه في هوة البطالة والفراغ، فينشر حالة من اللامبالاة تجاه الذات والآخرين: «فماذا يُرجى من الفراغ غير السخف والسطحية في النظر للأشياء، فضلاً عن لهو الحديث وافتقاد المعنى؟ وبالتالي يصغي إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله».

ويذكر العقاد أنه إذا بالغ الأديب في مدح أو هجاء، أو جاوز الحد في صفة من الصفات؛ فمسح الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ... غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعراً؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد، ما دام الأدب أداة لهو وتسلية!

ومن شاء التحقق والتثبت من ذلك في تواريخ الآداب، بحسب العقاد، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط بقوة. إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه الشطط والمبالغة والطي والنشر والتوشيع وسائر ما تجمعه كلمة «التصنّع». وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي في الإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها إلا حين تحول إلى أداة تستهدف إرضاء فئة خاصة.

ويتابع العقاد: «هكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة والافتعال وتقل الموهبة، فيضعف وينحدر إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتُخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق واسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة وغلبت التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشلته من سقوطه بعد اتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وبالتالي يجب أن يفهم أبناء هذا الجيل والأجيال أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد، وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والحياة».