حين يعيد الشعر اللغة إلى الواقع

«ضد الأمل» للعراقي مبين خشاني

حين يعيد الشعر اللغة إلى الواقع
TT

حين يعيد الشعر اللغة إلى الواقع

حين يعيد الشعر اللغة إلى الواقع

عندما شنق البعثيون في يناير (كانون الثاني) 1969، 14 مواطناً عراقياً (9 يهود و3 مسلمين «بأصول شيعية» ومسيحيين اثنين) في أول إعدام علني في ساحة التحرير في بغداد، وكان مرَّ على تسلمهم السلطة 7 أشهر و10 أيام، قالوا: «لقد شنقنا الجواسيس، واليهود صلبوا المسيح».

عندما بدأ حصار عبادان في 6 نوفمبر (تشرين الثاني) 1980 (بداية الحرب العراقية - الإيرانية)، نطق الديكتاتور بتصريحه الشهير: «طريق القدس يمر عبر عبادان». أما إيران فأطلقت اسم «ثامن الأئمة» على العملية التي فكّت فيها الحصار، والإمام الثامن المعصوم معروف، هو علي موسى الرضا، لكي توحي أنها ضحية شيعية.

وعندما احتلت قوات المارينز بغداد، تحدّث الأميركان عن «عملية تحرير العراق»، كأن الأمر يخصّ عملية بسيطة مؤقتة، استئصال زائدة دودية.

وعندما يصف الحاكمون في بغداد «احتجاجات تشرين» بأنها تمرد لأبناء السفارة «الأميركية»، يريدون الإيحاء أن السفارة أمٌّ عاقّ، داعرة أنجبت هؤلاء الأولاد غير الشرعيين «نغولة».

وحين يؤسس الحكام أنفسهم ميليشيات وأحزاباً تحمل مسميات: «دولة القانون»، «تيار الحكمة»، «عصائب أهل الحق»، «النجباء»، «حزب الله»، «الفضيلة»، يريدون الإيحاء أنهم وحدهم حراس «القانون» ورواد «الحكمة»، وحدهم «النجباء» وأصحاب «الحق» دعاة «الفضيلة»، وأنهم صوت «الله» الذي لا صوت يعلو عليه. أما الآخرون، الذين على رأي آخر، فهم على باطل وضلال. هل حقاً ذلك؟!

كم هي عدد المرات التي نتحدث فيها عن «حرب المصير»، «الدفاع عن المبادئ»، «معركة التحرير»، «القادسية»، «أم المعارك»، «محور المقاومة»، ويتم ليّ الكلمات لمخاطبة الجمهور. وفي كل مرة يثبت لنا أن اللغة «مُجنَّدة» يتم ليُّها حسب الحاجة، وأنها لا تُجدي نفعاً إلا عندما يُصغي المستمعون والقراء إلى الاقتراحات التي تقدمها.

للشعر كما للنثر الروائي القدرة على تجاهل كل هذه الأكاذيب وكل هذا الخداع، وعلى إعادة اللغة إلى الواقع، وتجسيد الفكر في صيغة الجمع. وأعني هنا الشعر الذي ينطق بصوته الخاص، ليس شعر البروبغندا، المكتوب بلغة السلطات والجمهور. أبداً. أعني الشعر الذي لا يطيق وحدته، فيخرج مخاطباً الأنوات الخائفة بصيغة الجمع، ينحت لغة تنجو من فخاخ الإطناب، تبتعد عن الرطانة، لغة تمسك جمرة الأصالة، تتغنى بالحرية وتنشد قيمة الحياة.

إلى هذا الشعر ينتمي «ضد الأمل» الكتيب الصغير (77 صفحة) الذي صدر حديثاً للشاعر العراقي مبين خشاني عن دار «خان الجنوب» في برلين، وهو قصيدة متمردة طويلة كتبها الشاعر على مراحل مختلفة، بدأها أيام نشاطه في ساحة التحرير في «احتجاجات تشرين» 2019، وانتهى منها في مدينة كامن الألمانية، حيث يعيش ضيفاً على برنامج «كتّاب المنفى» لنادي القلم الألماني.

بخلاف أدب البروبغندا، الذي شكّل ظاهرة فريدة في العراق، بدأت بشكل خافت بأصوات شعراء الآيديولوجيا في السبعينات، وشعراء الحرب في الثمانينات والتسعينات، وتصاعدت نبرتها لتصل إلى الرطانة والإسفاف بعد 2003، شعرية مبين لا تستجدي سلطات سياسية أو دينية أو مسلحة، شعريته تُعنى بمعاناة ومقاومة المحرومين من حقوقهم، وفي جوهرها تكمن مقاومة اللغة التي اتسمت بالحرمان من الحقوق.

لقد اختبر مبين مبكراً في طفولته عنف اللغة، في كل ما عاشه وسمعه من صيحات، في كل ما رآه من قتل ودمار في سنوات «حرب الإخوة» 2006-2008، وما تلاها من سنوات تكاثر الميليشيات، اللغة التي ازدادت عنفاً مع سيطرة ثقافة الكذب وثقافة الغنيمة وثقافة العنف بعد 9 أبريل (نيسان) 2003 وحاصرت الشاعر الشاب المولود 1998. ليس من المصادفة حصول مجموعته الشعرية الأولى «مخطوف من يد الراحة» على جائزة دار الرافدين في دورتها الأولى عام 2021، فهو منذ البداية قدّم نفسه كصوت، هو وريث لشعرية عراقية أصيلة، تكتب تاريخها الخاص بها.

المجموعة الشعرية تلك هي بداية مسار انطلاق صوت حبيس لواحد من جيل «حبيس الصوت، مدفون تحت ركام حروب تنوعت أشكالها، ومخدر بآمال لا تصمد أمام أوهن حجج الواقع... مثل الهوية وما يرتبط بها من أذى وآلام». ومن يجرؤ ويعيد اللغة «المُجَنَّدة» إلى الواقع، سيعرف أي مصير ينتظره، فإما يكون مسجوناً، أو منفياً، أو مدفوناً تحت التراب.

ولأن الشعر بالنسبة له بداهة وليس خياراً، اختار مبين خشاني المنفى، لكي لا ينتهي تحت التراب. فعل الشعر بالنسبة له التزام تام نحو تثمين قيمة الحياة والانتصار لها. في المنفى سيشعر كليته، بفرديته، كإنسان، كشاعر. شعريته التي هجسها مسبقاً، هناك أولاً في ساحة التحرير، ولمس جمراتها الأولى شعرياً مع زملائه الثائرين، تنفس هواءها النقي في كامن، هنا يمكنه استرجاع كل ما جرى:

سأنحت صمت عشرين سنة

حوت ما زمَّ الشفاه:

فزعاً وتنكيلاً ونهب حواس.

وألفظ ناراً سكنت سقف فمي طويلاً

حتى انطفأت على زفراتي

نجمات الليل

«ضد الأمل»، هو أيضاً تنويعة لسؤال «ما هذا الأمل؟»، والقصيدة الطويلة تقول في جوهرها إننا جميعاً مولودون في لغة محددة، في عالم «موعود بالأمل»، نخضع لقوانينه في البداية، لغة تسعى الذات إلى «طردها». ولكي لا نسمح لهذه اللغة بأن تُملي علينا العالم، علينا، بطبيعة الحال، أن نحررها من تأثيرها علينا، من خدر «آمال لا تصمد أمام أوهن حجج الواقع»:

فلا هناءة في يقظة مفروضة

ولا أمان في نوم معذب

وبينما تُدمر السلطة بتنويعاتها سلامة الجسد البنيوي باسم «القانون»، والفضيلة باسم «الوطن»، والدين باسم «الثوابت»، والخطوط الحمر باسم كلمات يُراد منها تبوء سلطة عقاب أعلى، تسعى شعرية مبين خشاني إلى استعادة اللغة لجسدها، وحركيتها - حريتها. لكن الأجساد اللغوية في شعريته لا تتكون من أفكار مجردة، بل من أصوات وإيقاعات وسجع وقوافٍ داخلية وجناس، يستخدم اللغة كحدث، كلقاء، ويبني حركات داخل جسد اللغة، تُغيّر مجراها وتفتح روابط وصوراً ومسارات.

تعلمنا كيف إذا هبطت علينا ملائكة وشياطين

سننشغل عنهم بانتظار الكهرباء

تعلمنا كيف ننتظر عودة صديق مفقود

وحين يعود لنا جثة نقيس وزن أنفاسه،

نطرح وزن جسده الحي من وزن جثته

ونعرف ثقل ما عاش

وندرك خفة منيته

ولأنها الحرب، يجرب الشاعر حظه بالنجاة، في طريق المدرسة، أمامه رتل الأميركان، وحوله عصف وصراخ:

انفجار.

أنهض محتضناً أخي

فاقداً السمع

أمامي عربة تشتعل

وفي البعيد راية سوداء

هرولة الجنود بطيئة

وفوهات البنادق

تبرق دون صوت

أكملنا الطريق إلى المدرسة

وخلفنا صورة كبيرة لمعمم شاب

ملثم بالدم والدخان...

وجه حرب ثانٍ إذن

تلفه الخوذ والعمائم واليشاميغ

على عكس شعر التملق الشائع عربياً، والأكثر شيوعاً في عراق الأمس، وعلى أشده اليوم، نجد أنفسنا في شعرية «ضد الأمل» منغمسين في عالم الشوارع والمدارس وكمائن ألعاب الطفولة الضائعة بين الحلم الأميركي المسموم وصور المعممين الملثمة بالدم والدخان:

لعبنا

في طُلل الحرب

وتبادلنا أسلحة معطوبة

كتبنا برماد الانفجارات أماني خجلى

ولبسنا أيامنا جلوداً نازفة

شمعة للأحد الدامي

ياساً للخميس الأسود

وأكفاناً لبقية أيام الأسبوع

شعرية مبين تتحدث هذه اللغة غير المنطوقة، لغة مشدودة بالبراغي وتجاعيد أمهات شبن مبكراً، بذكريات العيش المضنك والنوم المفقود، لغة الأرق وفقدان الحب، لغة مدبوغة بندوب الحرب، قاسية، تعيسة ومتألمة، جائعة للحلم، تئن من مكر المعممين وإرهاب السلاح، غير أنها لغة مُزيّتة بجمال صورها، برؤوس جُملها المرفوعة، مُخاطبةً هذا العصر اللعين، بفخرها أنها على قيد الحياة.

كل شيء حاضر أمامنا. مبين الذي يطالب بحريته في ساحة التحرير، ويرى زملاءه يُقتلون، فيما يصعد انتهازيو الاحتجاجات إلى أعلى المناصب، بعضهم يصبحون نواب برلمان اعتصموا به يوماً، وبعضهم مستشارون في مجلس الوزراء أو رؤساء تحرير صحف حكومية أو قنوات تلفزيونية لأحد حيتان الفساد والقتل. نرى مبين في المنفى، يرتب أحلامه، مؤونته الحنين إلى وطن بلا ندوب حرب، إلى بغداد بلا موت.

الأمل فيك أغنية منسية

والحياة فيك فعل لا يشبه الحياة

فجرك يا بغداد شمعة ذائبة

يليه نهار تكرهه العيون

الهواء فيه مثقل بنوايا السوء،

فاسد يومك وغدك مستحيل

سكانك توابيت جوالة

تمشي مطمئنة إلى حتفها.

«ضد الأمل» القصيدة الملحمة، تُوسّع أسئلتنا حول ما جرى ويجري. ننجذب إليها ونُغير نظرتنا لأفكارنا عن معنى «الوطن»، عن تصوراتنا لأوهام «الديمقراطية» و«الحرية» و«السلام»، وكلمات شبيه فقدت معانيها، وهي هياكل عظمية... من دون لحم ودم.

عمل مبين خشاني يدور بالضبط حول هذه المسألة؛ أنه معني بالدفاع عن البعد الإنساني الفردي للغة في وجه المكر اللغوي للسلطة، وبقدر ما يثمن شعره قيمة الحياة، يثمن أيضاً المقاومة المتأصلة في اللغة ضد تجنيدها من قبل السلطات. اللغة تستعيد الحياة في شعره. وهذا وحده إنجاز عظيم.


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.