يصف امرؤ القيس في معلّقته الشهيرة المطر الغزير الذي انهمر على تيماء و«لم يترك بها جذع نخلة» إلّا وكسره. تيماء هذه قرية في الحجاز تقع شمال المدينة المنورة، وهي في زمننا موقع أثري شرعت وكالة الآثار والمتاحف السعودية في استكشاف معالمه في نهاية السبعينات من القرن الماضي، فأجرت سلسلة من حملات المسح، اتسعت خلال السنوات التالية، وبلغت منطقة صناعية جنوب الموقع، تُعتبر من المرافق العامة. من هذه الرقعة التي أُطلق عليها اسم «الصناعية»، خرجت مجموعات من اللقى الأثرية، منها مجموعة من الحلل النسائية عُثر عليها في مدافن تعود إلى النصف الأول من الألفية الأولى قبل الميلاد.
تمّ اكتشاف هذه الحلل خلال حملة تنقيب موسّعة تواصلت على مدى ثلاثة مواسم جرت بين عام 1987 وعام 1990، كما يؤكد تقرير علمي وضعه الدكتور حامد إبراهيم أبو درك، نُشر عام 1996 في حوليّة «أطلال» الخاصة بالآثار العربية السعوديّة. انطلقت هذه الحفرية في المنطقة الصناعية بتيماء، وكان من أهدافها «إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الآثار المعرّضة للزوال بفعل تغيير المنطقة الأثرية إلى منطقة صناعية»، والبحث عن المواقع الجنائزية المتاخمة للمواقع السكنية الحاضرة في واحة تيماء، وجمع أكبر قدر ممكن من اللقى المستخرجة من هذه المدافن، وذلك بهدف «الوصول إلى حقائق تؤكد الاستقرار والاستيطان السكاني بتيماء ضمن منطقة شمال غرب الجزيرة».
في الموسم الأول، تمّ التنقيب في منطقة تقع في الجهة الشمالية، وتبيّن أنها تحوي أطلال مبانٍ «اتضح في النهاية أنها مدافن». وفي الموسم الثاني، تمّ التنقيب في تل يقع في الجهة الجنوبية الغربية من هذه المنطقة الصناعية. وفي الموسم الثالث، تمّ التنقيب في «أعلى نقطة في الجبهة الجنوبية الشرقية من الموقع»، وتحوي هذه النقطة «آخر تل داخل المنطقة المسوّرة». أدّت هذه الحملة إلى الكشف عن مجموعات من اللقى، منها مجموعة غنية من القطع الفخارية المتنوّعة، ومجموعة من القطع المعدنية تحوي رؤوس أسهم كبيرة، وعدداً من الأساور والخواتم، ومجموعة هائلة من الخرز المتنوع الأشكال والأنواع، ومجموعة مثيرة من الحلى المصنوعة من القواقع والمحار، تتميّز بأسلوب خاص في الصياغة والتكوين.
يعود الجزء الأكبر من قطع الخرز في الأساس إلى حلل نسائية تقليدية كما يبدو، وأبرزها عقد طويل صُنع من حبيبات من الخرز القيشاني الدقيق، يحضر إلى جانب سلسلة من القلائد والأساور المتعدّدة الأحجام، تتبع الطراز نفسه في الصناعة. كما هو معروف، يتمثّل الخرز القيشاني بقطع خزفية صغيرة ذات ألوان زاهية، تُصنع من مواد متنوعة، كالرمل والجير، وتماثل في الشكل الزجاج المطحون. برزت هذه الصناعة في وادي السند، وتطوّرت في سائر أقاليم الشرق القديم، وعُرفت باسم «القيشاني» نسبة إلى مدينة قاشان الإيرانية. يتبع عقد منطقة «الصناعية» الطويل نسقاً تقليدياً بسيطاً في تركيبه، ويتكوّن من حبيبات تجمع بين سائر تدرّجات اللون الأزرق، من الأزرق السماوي، إلى الأزرق النيلي، إلى الأزرق المائل للاخضرار.
تتبع الأساور المصنوعة من المحار كذلك أسلوباً بسيطاً، وتشكّل مجموعة من تسع قطع متشابهة، عُثر عليها خلال الموسم الثالث من حملة التنقيب. يتراوح طول قطر هذه القطع بين 9 و6 سنتيمترات، ويتكوّن كلّ منها من محارة كبيرة تمّ قصّها بالعرض، ثمّ أفرغت من أحشائها، قبل صقل أطرافها بتأنٍّ. يقابل هذه المجموعة عقد يشهد لطراز آخر، وهو عقد قصير وصغير، يبدو أشبه بسوار، وقوامه قطع صغيرة متفاوتة الأحجام تمّ جمعها بسلك دائري يمرّ بثقوب دائرية تظهر في أعلى كل قطعة منها.
يبرز الطابع المبتكر في عقدين صغيرين يبدوان كذلك أشبه بسوارين، ويتبع كلّ منهما تكويناً مميّزاً خاصاً في جمع فصوصه. يتمثل التكوين الأبسط بستة أقراص مسطّحة شبه متساوية في الحجم، يخرق كلاً منها في الوسط ثقب دائري مركزي، وتعود هذه الأقراص في الأصل إلى محارة كبيرة ذات تكوين مخروطي. تنقسم هذه الأقراص إلى مجموعتين تفصل بينها خرزتان من العقيق الأحمر وخرزتان زجاجيتان من اللون الأخضر الزيتي. تشكّل هذه الأقراص وهذه الفصوص عقداً تتدلّى من وسطه قلادة تتمثّل بمحارة كبيرة تم إحداث ثقب في أعلاها لهذه الغاية.
يجمع التكوين الثاني بين قطع متعدّدة الأحجام والأنواع، أكبرها أربع محارات تمّ ثقبها لجمعها في سلك، وفقاً للأسلوب المتبع في صناعة هذه الحلل. تختلف هذه المحارات من حيث التكوين والحجم، وتشكّل أربع قلائد تتدلّى بشكل حر ومنفلت من سلسلة تتكوّن من فصوص لؤلؤية صغيرة، صيغت على شكل حبيبات متعدّدة الأشكال، فمنها الفصوص الأسطوانية المسطّحة، ومنها الفصوص المخروطة. صُنعت القطع الأسطوانية من مادة زجاجية، وتجمع حلّتها اللونية بين الأزرق والأخضر بتدرجاتهما المختلفة. وصُنعت القطع المخروطة من المحار، وتجمع حلّتها اللونية بين الأحمر الترابي والأصفر العسلي.
تؤلف الحلل التي خرجت من منطقة «الصناعية» مجموعة أثرية تشهد لحضور زينة نسائية مميّزة في هذه البقعة من منطقة شمال غرب الجزيرة، في حقبة موغلة في القدم، تعود إلى منتصف الألفية الأولى قبل الميلاد، وما سبقها من بضعة قرون. عُثر على هذه الحلل في مدافن مجاورة للمناطق السكنية، ورافقت أصحابها في المثوى الأخير، وفقاً لتقليد جامع عابر للثقافات، عُرف في سائر أنحاء شبه جزيرة العرب الشاسعة، كما في سائر عوالم الشرق القديم.
