أثارت مبادرة رفع العلم الفلسطيني على بلديات فرنسا جدلاً واسعاً في الأيام الأخيرة، فالمبادرة أطلقها أوليفييه فور، أمين عام الحزب «الاشتراكي» يوم 14 سبتمبر (أيلول)، حيث دعا إلى رفع العلم الفلسطيني على واجهات مباني البلديات في فرنسا، بالتزامن مع إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون الاعتراف بالدولة الفلسطينية من منبر الأمم المتحدة في نيويورك. ورداً على منتقديه، شدّد فور، بمناسبة رفع العلم الفلسطيني على واجهة بلدية مدينة سان دوني، الواقعة على مدخل باريس الشمالي، على أن هذه البادرة «ليس من شأنها التعبير عن الدعم لـ(حماس)»، مضيفاً أن «هذا العلم ليس علم (حماس)، بل هو علم نساء ورجال لهم الحق، هم أيضاً، في الحرية وتقرير المصير».

معارضة وزير الداخلية
لكن برونو روتايو، وزير الداخلية المستقيل، يرفض هذه المقاربة. فقد سارع إلى إرسال برقية إلى المحافظين كافة الذين يمثلون الدولة في مناطقهم، داعياً إياهم إلى التصدي إلى كل مبادرة من هذا النوع، بل واللجوء إلى القضاء الإداري بحجة الحفاظ على «حيادية» البلديات. وذكّر برونو روتايو، يوم السبت، خلال زيارة إلى منطقة نورماندي، بأنّ «واجهة البلدية ليست لوحة إعلانات، وأن العلم الوحيد الذي يحق له أن يُرفَع عليها هو العلم الثلاثي الألوان، رمز ألواننا وقيمنا، لأنه يمثل ما تبقى لنا من بيت مشترك»، مُجدّداً، إصراره على ضرورة التزام «الحياد الجمهوري»، ورافعاً سلاح التوجه إلى القضاء للطعن بقرارات البلديات «المتمردة».
وإزاء مواقف الوزير المعني، فقد طلب فور، الاثنين، من الرئيس ماكرون «التدخل» للسماح برفع العلم الفلسطيني. وجاء في رسالته: «لن يكون ذلك مجرد موقف قوي تجاه جميع من يؤمنون بحلّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بل سيكون أيضاً متّسقاً مع موقف فرنسا الذي ستُعلنه أمام المجتمع الدولي». وبرأيه، فإن الغرض من مبادرته هو «أن نقول للعالم إن فرنسا ليست فقط رئيس الجمهورية، بل إن فرنسا تقف خلف هذه الخطوة، وإننا نريد فعلاً التوصل إلى حل الدولتين» كذلك، عبّر كثير من رؤساء البلديات عن دهشتهم إزاء دعوى روتايو، من جهة، لأنها لا تتوافق مع المبادرة الفرنسية الخاصة بالاعتراف.

ومن جهة ثانية، لأن بلديات كثيرة بادرت سابقاً إلى رفع علم أوكرانيا، دون أن يثير ذلك أي اعتراض. أما كريستيان أستروزي، رئيس بلدية مدينة «نيس» المتوسطية، والمعروف بدعمه لإسرائيل، فلم يجد غضاضة بأن يترك علم إسرائيل يرفرف على واجهة بلديته. وأعلن رئيس منطقة بروفانس ألب كوت دازور (جنوب شرق) برونو موزولييه، الذي ينتمي إلى حزب «النهضة» وترأس سابقاً معهد العالم العربي، أنه سيرفع نحو 20 علماً فرنسياً رداً على ما وصفه بـ«حسابات سياسية». ومن جهته، فقد وجد نيكولا ماير - روسينيول، رئيس بلدية «روان» شمال غربي فرنسا، حلاً للمشكلة، إذ عمد إلى رفع العلمين الفلسطيني والإسرائيلي إلى جانب العلم الفرنسي. وفي مارسيليا، ثالث أكبر المدن الفرنسية، عمد منتخبو حزب «فرنسا الأبية» إلى إضاءة واجهة مبنى البلدية بألوان العلم الفلسطيني.
لم تمنع تحذيرات وزير الداخلية الذي يترأس حزبه اليميني التقليدي والطامح للترشح لرئاسة الجمهورية في عام 2027، كثيراً من البلديات من مخالفة تعليماته، وتحدي برقياته وتصريحاته، مثل ليون ثاني أكبر مدن فرنسا.

وقالت وزارة الداخلية، ظهر الاثنين، إن ما لا يقل عن 52 بلدية عمدت إلى رفع العلم الفلسطيني، منها بلديات كبرى، مثل مدينة «رين» و«نانت»، وأخرى متوسطة أو صغيرة. وجزء كبير من هذه المدن يقع في المنطقة الباريسية، مثل سان دوني، ومالاكوف، وبانيو، وإيفري سور سين، وكوربي إيسون... وإضافة إلى ما ستقوم به البلدية الأخيرة، فإن رئيسها أعلن، الاثنين، أنه سيوزع ألف علم فلسطيني للتعبير عن تضامن مدينته مع الفلسطينيين، وتأييد الخطوة الرسمية الفرنسية.
وكتبت عمدة نانت، جوانا رولان المنتمية للحزب «الاشتراكي»، في تغريدة صباحية على منصة «إكس» قائلة: «سيعلن رئيس الجمهورية الليلة، في الأمم المتحدة، الاعتراف بدولة فلسطين. وتدعم نانت هذا القرار التاريخي للجمهورية الفرنسية برفع العلم الفلسطيني طوال هذا اليوم». ورغم أهمية هذه الخطوة رمزياً وسياسياً، فإنها تبقى هامشية قياساً لعدد البلديات الكبير «أقل بقليل من 35 ألف مدينة وقرية».

انقسامات داخلية
ثمة عنصر جامع بين هذه البلديات، وعنوانه أنها تدار غالبيتها الساحقة من قبل أحزاب يسارية أو بيئوية. وهذا الفرز يستنسخ مقاربة الأحزاب، بشكل عام، من مبادرة ماكرون بالاعتراف، التي أدت إلى شبه انقسام داخل المجتمع الفرنسي. وبشكل عام، فإن اليسار وأحزابه الثلاثة «الاشتراكي والشيوعي وفرنسا المتمردة»، بالإضافة إلى حزب «البيئيين»، وهم جميعهم معارضون لسياسة ماكرون الداخلية الاقتصادية والاجتماعية، إلا أنهم يعبرون عن دعمهم لخطوة الاعتراف التي يرى بعضهم أنها جاءت إما «متأخرة»، وإما «غير كافية». ومن جانبها، فإن أحزاب «الكتلة الوسطية» الداعمة لماكرون «النهضة والحركة الديمقراطية وهورايزون» لم تعبر عن دعم واضح وثابت، إذ ربطته ببعض الشروط، وتساءلت عن جدواه «في المرحلة الراهنة». وقالت رئيسة البرلمان، يائيل براون - بيفيه التي زارت إسرائيل بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول)، ودافعت عن حقها في الرد على «حماس»، «بلا قيود»، فقد دعت، في مقابلة، الاثنين، مع إذاعة «فرنسا إنفو» العمومية «الدول العربية التي أيدت إعلان نيويورك إلى الاعتراف رسمياً بدولة إسرائيل، وهو ما لم تفعله منذ عام 1948». كذلك رفضت براون - بيفيه استخدام مصطلح «الإبادة الجماعية»، بوصفها توصيفاً لما تقوم بها إسرائيل في غزة، بحجة أنه «ليس من شأننا أن نصف ما يحدث من الناحية القانونية»، وأن ذلك «من مهمة المحاكم». ويتماهى موقف اليمين التقليدي «للجمهوريين» إلى حد بعيد مع مواقف «الكتلة الوسطية»، ويتحدث عن مبادرة ماكرون بكثير من «الفتور».
وفي المقابل، فإن اليمين المتطرف، ممثلاً بحزب «التجمع الوطني» الذي تقوده المرشحة الرئاسية السابقة مارين لوبان، فقد تبنى السردية الإسرائيلية، لأسباب انتخابية واضحة، علماً بأنه كان الحزب المتهم بمعاداة السامية. وسبق لمؤسسه جان ماري لوبان، والد مارين لوبان، أن أدين عدة مرات لتصريحاته المعادية لليهود. وكتبت لوبان على منصة «إكس»: «من خلال هذا الاعتراف اليوم، دون أي شروط، فإن إيمانويل ماكرون يعترف بـ«حماس» وليس بـ«فلسطين»، مضيفة أنها «دولة إرهابية سيُكتب ميلادها بدماء ضحايا أكبر مذبحة جماعية منذ الحرب العالمية الثانية». أما ماريون مارشال، النائبة في البرلمان الأوروبي عن اليمين المتطرف وحفيدة لوبان، فقد رأت أن يوم الاثنين، هو «يوم حزين لفرنسا»، مضيفة أن «ماكرون لا يقدم على الاعتراف باسمي». لكنها ذهبت أبعد من ذلك من خلال اتهامه بأنه «لا يمتلك أي شجاعة، وأنه يريد إرضاء جزء من الناخبين الفرنسيين الذين يتعاطفون مع القضية الفلسطينية»، وبنظرها، فإن العلم «الفلسطيني هو علم الإسلاموية - اليسارية اليوم»، ما ينم عن جهل مطبق، إذ إنه تم اعتماده في عام 1964 من قبل منظمة التحرير الفلسطينية، وأكد هذا الخيار في عام 1988، عند إعلان استقلال الدولة الفلسطينية في الجزائر. وفي عام 2015 سمحت الأمم المتحدة برفعه إلى جانب 193 علماً وطنياً بمقرها في نيويورك.

إزاء هذه المغالطات، دخل وزير الخارجية جان نويل بارو الذي سافر مع الرئيس ماكرون إلى نيويورك على خط الجدال ليعيد التأكيد على أن «الاعتراف بفلسطين هو رفض قاطع لـ(حماس)»، ورد بارو على حجج رئيس الوزراء نتنياهو، الذي قال الأحد إن «إنشاء دولة فلسطينية سيعرض وجودنا للخطر، وسيشكل مكافأة سخيفة للإرهاب»، بتأكيده أن يوم الاثنين سيكون يوماً عظيماً للسلام، وانتصاراً دبلوماسياً كبيراً لفرنسا. وأوضح بارو، في حديث لقناة «تي إف 1»، أن الاعتراف سيكون «فورياً... لكن تنفيذه، وإقامة العلاقات الدبلوماسية، سيكون تدريجياً ومرهوناً بعوامل على الأرض، لا سيما إطلاق سراح الرهائن».
وتجدر الإشارة إلى أن فرنسوا ميتران، الرئيس الاشتراكي، كان أول من دعا في فرنسا لقيام الدولة الفلسطينية في خطاب شهير له في الكنيست الإسرائيلي في الرابع من مارس (آذار) عام 1982. وقبل 11 عاماً صوتت الجمعية الوطنية الفرنسية لقرار يحث الحكومة على الاعتراف بالدولة الفلسطينية زمن رئاسة فرنسوا هولاند. وبذلك تكون الخطوة الفرنسية قد تأخرت 43 عاماً «فقط».






