الرواية... الفن والدور السياسي

تبقى مساحة نادرة للتأمل العميق

الرواية... الفن والدور السياسي
TT

الرواية... الفن والدور السياسي

الرواية... الفن والدور السياسي

منذ بداياتها الحديثة في القرن الثامن عشر، ظلّت الرواية تُقرأ وتُكتب تحت لافتة الفن، بوصفها الجنس الأدبي الأكثر قدرةً على استيعاب الشخصيات والأحداث والأزمنة والفضاءات. وقد منحت القارئ متعة التخييل وفرصة التأمل في الحياة من خلال منظار خيالي، وجعلته يشارك في تجربة فنية تستدعي الحواس والخيال معاً. غير أن التاريخ الأدبي يكشف أنّ الرواية، في كثير من محطاتها، لم تكن تكتفي بمهمتها الجمالية، بل أدّت أدواراً تجاوزت الفن البحت، لتدخل في قلب النقاشات السياسية والاجتماعية، سواء كان ذلك تصريحاً أو إيحاءً ضمنياً. ومن هنا برزت الفكرة التي ألمح إليها عددٌ من الروائيين في تجاربهم، الرواية يمكن أن تكون أداة من أدوات الحوار الفكري، وأنها قد تسهم في تشكيل الوعي الجمعي بقدر ما تقدم متعة جمالية.

الرواية، في هذا المنظور، تتحوّل إلى منبر طويل المدى، يختلف عن الخطبة السريعة أو المنشور قصير العمر. فهي نص يمتلك أدوات الإقناع، حبكة متماسكة تمسك بالانتباه، وشخصيات تنمو وتثير التعاطف أو النفور، ولغة تجمع بين الإيحاء الفني والحِجاج الفكري. وحين يُوظَّف هذا البناء لخدمة قضية عامة أو للتعبير عن رؤية تجاه مجتمع أو سلطة، فإن أثره يكون أعمق من أي خطاب مباشر، لأن الرواية لا تخاطب العقل وحده، بل تنفذ إلى الوجدان، وتستثير الخيال، وتخلق تجربة شعورية تجعل القارئ يعيش الفكرة قبل أن يقتنع بها.

أمثلة ذلك عديدة؛ فهناك الرواية السياسية الصريحة التي تحوّل أحداثها وشخصياتها إلى مرآة مباشرة لواقع قائم، مثل روايات جورج أورويل: «1984» و«مزرعة الحيوان»، أو رواية آرثر كوسلر: «ظلمة عند الظهيرة» التي قدّمت نقداً داخلياً للنظام السوفياتي من خلال تصوير المحاكمات السياسية. هذه الأعمال لم تُكتب لمجرد إبراز براعة أسلوبية أو ابتكار شكلي، بل جاءت من شعور عميق بضرورة التدخل في النقاش العام وتحذير القراء من مسارات قد تقود إلى الاستبداد.

غير أن الدور السياسي للرواية لا يقتصر على الأعمال المباشرة، بل قد يظهر بصورة ضمنية أكثر عمقاً. فديستويفسكي، مثلاً، لم يكتب رواياته ليصدر بيانات سياسية، لكنه من خلال شخصياته الممزقة وأسئلته الوجودية الكبرى عن الحرية والسلطة والعدالة، فتح للقارئ مجالاً رحباً لتأمل هذه القضايا. وكذلك فعل نجيب محفوظ، الذي وثّق تحولات مصر السياسية والاجتماعية على مدى عقود، وجعل القارئ يعيش تفاصيلها من الداخل عبر شخصياته التي تمثل طبقات وشرائح المجتمع. في مثل هذه الأعمال، السياسة لا تظهر شعاراً، بل خلفية خفية توجه الأحداث وتشكل المصائر.

في المقابل، هناك اتجاه أدبي عُرف بـ«الفن للفن»، يرى أن القيمة الجمالية للرواية تكمن في استقلالها عن أي غرض خارجي، وأن إخضاع الفن لغايات سياسية يهبط به إلى مستوى الدعاية. لكن هذا الموقف يتجاهل أن كل عمل أدبي مرتبط، بشكل أو بآخر، بسياقه الزمني والمكاني. فالكاتب حين يختار موضوعاً أو شخصية أو أسلوباً لغوياً، فإنه يكشف عن رؤية للعالم، وهذه الرؤية قد تحمل أثراً سياسياً حتى لو لم يُصرَّح به. الرواية إذن ليست خطاباً محايداً بالكامل، لأنها تعكس قيماً وأفكاراً ووجهات نظر تسهم في تشكيل وعي القارئ.

حتى الروائي الذي لا ينتمي إلى حزب أو تيار سياسي، لا يعزل نصه عادة عن قضايا عصره، بل يتعامل مع الرواية باعتبارها وسيلةً لاستكشاف القيم والأفكار. فهي ساحة لاختبار المواقف والرؤى، قادرة على خوض معارك فكرية بأسلوب فني بعيد عن الخطابة المباشرة. القارئ حين يدخل عالَم رواية جيّدة لا يشعر أنه يتلقى تعليمات، بل يتعاطف مع شخصيات ويعيش أحداثاً، لكنه بعد أن يطوي الصفحة الأخيرة قد يكتشف أن نظرته لقضية اجتماعية أو تاريخية تغيّرت بعمق.

التاريخ الأدبي يقدّم شواهد كثيرة على هذا التأثير. من كوخ العم توم لهارييت ستو، الذي ساهم في إذكاء الجدل حول العبودية في أميركا، إلى روايات أميركا اللاتينية التي وثّقت أجواء الديكتاتوريات وكشفت آليات القمع. وفي السياق العربي، نجد أن بعض الروايات عالجت تحولات المجتمع وظروف الاستعمار وما تلاها من تحديات بناء الدولة، مقدّمةً بذلك شهادةً فنيةً على مرحلة تاريخية فارقة. في كل هذه النماذج، لم يُلغَ الفن لصالح السياسة، بل منحت السياسة نفسها عمقاً وقوة عبر الفن.

إن القول إن الرواية ليست للفن وحده لا يعني اختزالها في السياسة، بل الاعتراف بأنها تحمل طاقة مزدوجة، جمالية تغذّي الخيال والحس الإنساني، وفكرية قادرة على المساهمة في تشكيل الوعي العام. والكاتب الذي يدرك هذه الازدواجية قادر على أن يقدم عملاً يعيش طويلاً في ذاكرة القراء، يجمع بين البهاء الفني والرسالة الفكرية.

وفي زمن تتسارع فيه الأحداث وتتغير فيه وسائل الاتصال، تبقى الرواية، رغم بطء قراءتها، مساحة نادرة للتأمل العميق، ولرؤية السياسة من منظور البشر العاديين الذين يعيشون آثارها. هي فن أولاً، لكنها أيضاً أفق للتفكير، يسهم في ترسيخ الفهم والتوازن داخل المجتمع. ومن هنا تأتي أهميتها؛ فهي لا تهدف إلى إشعال الصراع أو الدعوة إلى التغيير الجذري، بل إلى تعزيز الوعي، وتوفير لغة مشتركة لفهم القضايا الكبرى، بما يجعلها رافداً من روافد الاستقرار والنضج الثقافي.

* كاتب سعودي


مقالات ذات صلة

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

ثقافة وفنون هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية.

ندى حطيط
ثقافة وفنون إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

يواصل الكاتب المسرحي والروائي ماجد الخطيب، في الجزء الثاني من «ملصقات بيروت»، سرد سيرته الشخصية في بيروت، المبتلية بالحرب،

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها لقد أتاح لي الحظ أن أتعرف على أحمد أبو دهمان لأول مرة

هاشم صالح

«جائزة بيت الغشّام دار عرب الدولية للترجمة» تعلن عن قوائمها القصيرة

شعار الجائزة
شعار الجائزة
TT

«جائزة بيت الغشّام دار عرب الدولية للترجمة» تعلن عن قوائمها القصيرة

شعار الجائزة
شعار الجائزة

أعلنت «جائزة بيت الغشّام دار عرب الدولية للترجمة»، عن القوائم القصيرة لدورتها لعام 2026، وذلك في فروع الجائزة الثلاثة: فرع المترجمين، وفرع المؤلفين، وفرع الإصدارات العُمانية، بعد استكمال أعمال التحكيم والمراجعة النهائية للترشيحات المستوفية لشروط الجائزة ومعاييرها المهنية والأخلاقية، كما جاء بيان لجنة الجائزة. وضمّت القائمة القصيرة - فرع المترجمين (مرتبة أبجدياً حسب العنوان الإنجليزي): «ملائكة الجنوب» رواية نجم والي، ترجمة Angels of the South، ترجمة: بيتر ثيرو، و«ماكيت القاهرة» رواية طارق إمام، Cairo Marquette، ترجمة كاثرين فان دي فات، و«البشر والسحالي»، مجموعة قصصية، حسن عبد الموجود، People and Lizards، ترجمة أسامة حماد وماريان دينين، و«الأشياء ليست في أماكنها» رواية هدى حمد، Things Are Not in Their Place، ترجمة ضياء أحمد، قرية المائة، رواية رحاب لؤي، ترجمة Village of the Hundred، ترجمة إيناس التركي.

وضمّت القائمة القصيرة - فرع المؤلفين (مرتبة أبجدياً حسب العنوان العربي): أبعاد غير مرئية، مجموعة قصصية، مصطفى ملاح، والماتادور، رواية مجدي دعيبس، وجبال الجدري، رواية عبد الهادي شعّلان، وجرس جرش، رواية وائل رداد، وكائن غير سوي، رواية طاهر النور. وجاءت القائمة القصيرة - فرع الإصدارات العُمانية، كما يلي: تحت ظل الظلال، رواية محمد قرط الجزمي، عروس الغرقة، رواية أمل عبد الله، وقوانين الفقد، مجموعة قصصية، مازن حبيب.

وجرى اختيار القوائم القصيرة من قبل لجان تحكيم مستقلة، بإشراف مجلس أمناء الجائزة، الذي ضم كلاً من مارلين بوث (رئيسة)، ومحمد اليحيائي، وسواد حسين. وتكوّنت لجنة تحكيم - فرع المترجمين، من سماهر الضامن، ومارشيا لينكس كوالي، ولوك ليفجرن، فيما ضمّت لجنة تحكيم - فرعا المؤلفين والإصدارات العُمانية، كلاً من أمير تاج السر، وبشرى خلفان، وياس السعيدي.

وشهدت هذه الدورة 346 مشاركة في فرع المؤلفين، و34 مشاركة في فرع المترجمين، و10 مشاركات في فرع الإصدارات العُمانية.

وكانت هذه الجائزة قد انطلقت قبل 3 أعوام، بشراكة بين مؤسسة بيت الغشّام للصحافة والنشر والإعلان ودار عرب للنشر والترجمة، حيث تتولى دار عرب إدارة الجائزة، فيما تتولى مؤسسة بيت الغشّام تمويلها، في إطار تعاون يهدف إلى دعم الأدب العربي وتعزيز حضوره عالمياً عبر الترجمة والنشر الدولي.

وتبلغ القيمة الإجمالية لصندوق الجائزة نحو 70,000 جنيه إسترليني، تُخصَّص جزئياً كمكافآت مالية للفائزين، وجزئياً لتغطية تكاليف الترجمة الاحترافية، والتحرير، والنشر والترويج الدولي للأعمال الفائزة.


هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.