ضياء العزاوي يعرض فصول التراجيديا العربية في غاليري «صالح بركات»

من بغداد إلى غزة المجزرة تتوسع

خريطة بغداد بعد 2003 (غاليري صالح بركات)
خريطة بغداد بعد 2003 (غاليري صالح بركات)
TT

ضياء العزاوي يعرض فصول التراجيديا العربية في غاليري «صالح بركات»

خريطة بغداد بعد 2003 (غاليري صالح بركات)
خريطة بغداد بعد 2003 (غاليري صالح بركات)

يواصل الفنان التشكيلي العراقي ضياء العزاوي، في معرضه الفردي في «غاليري صالح بركات» البيروتي، المستمر حتى نهاية أكتوبر (تشرين الأول)، رحلته الإبداعية التي تصور التراجيديا العربية. وتحت عنوان «شهود الزور» يتحول الزائر إلى متفرج على المجزرة الكبرى.

المقتلة ممتدة من بغداد إلى الموصل فحلب، وبيروت وغزة. أعمال ضخمة تحتل جدران الغاليري وأرضياته. بين الألوان والطين، اللوحات والمنحوتات والتجهيزات، يبحر الزائر في عالم من الألم اللامتناهي.

في الأصل لم يكن المعرض ليتضمن أعمالاً عن غزة. فقد كان مقرراً أن يفتتح في أكتوبر من عام 2023، لكن بدء الإبادة، أجّل الافتتاح. ثم حدد سبتمبر (أيلول) 2024 موعداً جديداً، فوقعت الحرب الإسرائيلية على لبنان وحالت دون بدئه. لكن هذه المرة ها هو العزاوي يعود إلى بيروت التي اشتاقها، بعد طول غياب. حقاً، لم يتوقف هذا الفنان الذي تطارده الحروب عن تصويرها مستخدماً خلفياته، ومكتنزاته الثقافية، ومعارفه، ليصرخ باللوحة والمنحوتة والنص، وأحياناً يستخدمها مجتمعة علّه يأتي بأعمال توازي الكارثة.

خريطة بغداد قبل 2003 (غاليري صالح بركات)

تأخير المعرض جعله يضيف إلى الأعمال التي كانت مقررة سبعاً من سلسلة مكونة من 12 لوحة رسمها العزاوي إثر بدء الحرب على غزة، عنونها بـ«ليالي الإبادة». في هذه اللوحات المرسومة بالفحم، تسرق المتفرج نظرات عيون الضحايا، والأجساد المتهاوية، وجثث القتلى المتناثرة، والأجواء الجحيمية. هي من آخر ما رسمه العزاوي، مواكباً، المأساة العربية الكبرى التي عرفها رغم مواكبته الطويلة للحروب. فمنذ السبعينات وهو يجسد في أعماله، الكوارث المتلاحقة، من فلسطين إلى لبنان والعراق في حربه مع إيران ثم الغزو الأميركي المدمر لبلاده، ليجد نفسه في النهاية في جلجلة لا تنتهي، لا بل إن الدماء تتوسع رقعتها.

وإلى جانب لوحات «ليالي الإبادة»، نجد دفتر غزة الذي أصدره هذه السنة، بعنوان «غزة: الألم الذي فتح عيني ابنتي» من وحي صدمة الناس الذين شاهد هلعهم، مستوحياً تساؤلات ابنته وحفيدته، وهما تتابعان فداحة ما يحدث.

لوحة شهود الزور (غاليري صالح بركات)

أما اللوحات العملاقة المبهرة التي اعتدناها في معارض ضياء العزاوي، هذه المرة، أضاف إليها منحوتات الورود الصحراوية، التي تذكّرنا بمنحوتته عن حنظلة، ووجوهه وأحصنته الأثيرة.

العزاوي كثيراً ما شبّه ببيكاسو بسبب قوة وقع أعماله، وأسلوبه الذي يخلط بين التكعيبية، والتفكيكية، حيث نرى أجساداً مبعثرة الأجزاء، وبيوتاً متناثرة، وحيوانات مقطعة. يبدو كل شيء متشظياً، بحيث نرى عناصر كثيرة في لوحاته، لكننا في الوقت نفسه لا نرى شيئاً محدداً. وهو وإن شبِّه ببيكاسو أو حتى ديفيد سيمينز، فإنه وهو الذي درس الآثار، وانغمس في معرفة فنون الحضارات العراقية القديمة، وشغف بالفن الإسلامي، نلمس تلك الجذور الصلبة في أعماله، وهو ما يشكل فرادتها وجاذبيتها.

العزاوي أقرب إلى مؤرخ فني، لوحاته جزء من أرشيف الذاكرة الجماعية التي يكتبها على طريقته، بإعادة تركيب المعروف، بأشكال غير معهودة، وهو ما يخلق الصدمة عند متابعيه. لوحة «خريطة بغداد قبل 2003»، والغزو الأميركي المدمر للعراق، نرى فيها رسماً تجريدياً للعاصمة العراقية، يجمع بين الفراغ واللون الأخضر، أما الأحمر فسيطر على الخلفية. لكن اللوحة رغم قسوتها، نرى فيها تماسكاً، وكأنما عضل يشدّ الأجزاء كلها، مع ما نلمحه من تمزق. تماماً عكس لوحة «بغداد بعد 2003» التي تبدو وكأن انهياراً قد أصاب كل الأجزاء التي كانت متلاحمة، حتى غطت الألوان المساحة وقد سالت وتداخلت.

أما لوحة «شهود الزور» التي هي بعرض 5 أمتار ويحمل المعرض اسمها، فملحمية بخلفيتها الحمراء الداكنة، والشخص المصلوب، ومجموعة الأجساد السوداء المتراصة التي تشي بالغضب، وإلى جانبها جثث مكومة. مشهد المذبحة يجمع بين الانتفاضة والتضحية والموت في لوحة واحدة.

أما «جنة المنسيين»، بأمتارها التي تزيد على التسعة، فهي تكمل ما سبقها من حيث الخلفية النازفة بالحمرة، والجثامين المحمولة في مشهد جنائزي بين صفين تقف فيهما الجماهير المودعة. هو وداع الضحايا من أناس بلا وجوه ولا ملامح، إنها الجماعة التي ذابت حتى تلاشت تقاسيمها. هي من اللوحات التي رسمها العزاوي بعد الرد العنيف للسلطة العراقية على ثورة أكتوبر 2019 - 2020 حين تعرض المتظاهرون إلى القمع، واستهدفوا بقسوة حتى قضى أكثر من 700 شخص من المحتجين.

جانب من المعرض يظهر فيه تجهيز مأساة مدينتي الموصل وحلب (غاليري صالح بركات)

ومن وحي الموصل (2017 - 2000) «بانوراما الدمار» العملاقة بعرض 10 أمتار، بالأبيض والأسود. هي حقاً لوحة كابوسية. جدارية تنطق ألماً. مرة أخرى التفكيك يفعل فعله، في تصوير العنف اللامتناهي. بقايا أجساد تتشابك مع عجلات، وأشياء أخرى، كأنما البشري فقد روحه وهيئته، وصار جزءاً من آلة. إنها الفوضى التي لا تبقى من الأشكال ما يدلل عليها، حيث الأعضاء المفككة، تشبه أرجل وأيدي الدمى أكثر منها انتماءً إلى الإنسان.

ربما أكثر الأعمال تأثيراً في النفس، تجهيز ضخم يحتل أرضية صالة العرض يحمل عنوان «دمار مدينتين: الموصل وحلب». مأساتان لمدينتين عربيتين. قرر العزاوي أن يحفر نكبتهما بالطين، وأن يحفر فيه بقايا منازل، وخراب أبنية، وأشلاء أناس كانوا هنا. إنه الخراب الكبير مجسداً منحوتاً ومسكوباً وموجعاً. يمكنك وأنت تنظر إلى المشهد أن تتخيل غزة أيضاً، أو أي مدينة أخرى قد تدخل جغرافيا الدمار الشامل. فالمقتلة متواصلة والخراب لا حدود له.

الضحايا عند ضياء العزاوي، في فلسطين ولبنان والعراق وأي مكان آخر، هم ألم واحد متشابه. وإن كان لا يخفي أن الجرح العربي الغائر الذي يزداد عمقاً، ورغبته في رفع الضيم عمن يحيطون به هو المحرك الأول، لكل هذه الصرخات المتوالية التي يحفرها باللون حيناً والفحم حيناً آخر، ولا يتردد في استخدام الكلمة والطين والستانلس، وكل ما يمكن أن يترجم تلك المآسي الجحيمية التي لا تنتهي.


مقالات ذات صلة

ملتقى القاهرة للخط العربي... رحلة بصرية بين هيبة التراث وروح الحداثة

يوميات الشرق استعرضت بعض اللوحات أساليب مبتكرة في التكوين (الشرق الأوسط)

ملتقى القاهرة للخط العربي... رحلة بصرية بين هيبة التراث وروح الحداثة

احتفاءً بالخط العربي بوصفه فناً أصيلاً يحمل بين ثناياه دعوة للسلام، والانسجام الإنساني، أطلقت مصر الدورة العاشرة من «ملتقى القاهرة الدولي لفنون الخط العربي».

نادية عبد الحليم (القاهرة)
يوميات الشرق طفل يبحث عما يشبهه من كتب تحاكي ذاته (الشرق الأوسط)

650 ألف زائر يرسخ مكانة معرض جدة للكتاب كمنصة ثقافية إقليمية

مع رحيل آخر أيام معرض جدة للكتاب، يطرح المشهد الثقافي جملةً من الأسئلة حول المعرض وترسيخ مكانته كأحد أبرز الفعاليات الثقافية في المملكة.

سعيد الأبيض (جدة)
يوميات الشرق عبد الحليم رضوي... طاقات تعبيرية ودلالات مفاهيمية ذات طابع معاصر (الشرق الأوسط)

القاهرة تحتفي برائد الفن السعودي عبد الحليم رضوي

يُصاحب معرض رضوي تقديم أعمال نخبة من رواد وكبار التشكيليين المعاصرين في المملكة.

نادية عبد الحليم (القاهرة )
يوميات الشرق جانب من توقيع الاتفاق لتحويل رواية «القبيلة التي تضحك ليلاً» إلى فيلم (الشرق الأوسط)

السينما السعودية تمدّ جسورها إلى الأدب في معرض جدة للكتاب

لم يعد سؤال صنّاع السينما يدور حول عدد العناوين، بل حول أيّ الروايات تصلح لأن تُروى على الشاشة...

سعيد الأبيض (جدة)
يوميات الشرق تحاول الفنانة التشكيلية في هذه المجموعة العبور من المحدود إلى المطلق (الغاليري)

معرض «تفتّحت الزهور من بين حجار الإسمنت المكسور»... عود على بدء

تستخدم ندى صحناوي الألوان الزاهية، بالإضافة إلى الأسود والأبيض. وفي قوالب الزهور الحمراء والبيضاء، يخال للناظر إليها أنها تُشبه كعكة عيد...

فيفيان حداد (بيروت)

«متحف باكثير»... يستعيد روائع الأديب اليمني الكبير برؤية معاصرة

العرض سلَّط الضوء على مسيرة باكثير الإبداعية (الشركة المنتجة)
العرض سلَّط الضوء على مسيرة باكثير الإبداعية (الشركة المنتجة)
TT

«متحف باكثير»... يستعيد روائع الأديب اليمني الكبير برؤية معاصرة

العرض سلَّط الضوء على مسيرة باكثير الإبداعية (الشركة المنتجة)
العرض سلَّط الضوء على مسيرة باكثير الإبداعية (الشركة المنتجة)

استعاد العرض المسرحي «متحف باكثير» جانباً من روائع الأديب اليمني المصري علي أحمد باكثير في القاهرة، بالتزامن مع إحياء الذكرى الـ115 لميلاده.

العرض الذي أُقيم على خشبة المسرح الكبير في دار الأوبرا المصرية، مساء الاثنين، كان ضِمن فعالية ثقافية وفنية عكست حضور اسمه المتجدد في الوجدان العربي، نظّمتها مؤسسة «حضرموت للثقافة» السعودية، بالشراكة مع «ضي للثقافة والإعلام».

لم تقتصر الاحتفالية، التي نُظّمت تحت عنوان «علي أحمد باكثير... 115 عاماً من التأثير»، على استدعاء السيرة الإبداعية للأديب الكبير، بل سعت إلى تحويل إرثه الأدبي إلى فعل حي على خشبة المسرح بوصفه أحد الفضاءات الأساسية التي شكّلت مشروعه الإبداعي، من خلال العرض الذي استمر لنحو 80 دقيقة، حيث قُدِّم من دراماتورج وإخراج أحمد فؤاد، برؤية تقوم على فكرة المتحف بوصفه مساحة جامعة، تتجاور فيها العصور والشخصيات والأفكار، وتتحول فيها النصوص الأدبية إلى لوحات حية نابضة بالحركة والصوت.

المخرج أحمد فؤاد قدّم العرض بصورة بصرية جذابة (الشركة المنتجة)

اعتمد العرض على استلهام عدد كبير من أعمال علي أحمد باكثير، التي تحولت عبر العقود إلى نصوص مسرحية وسينمائية مؤثرة، من بينها «وا إسلاماه» و«الشيماء»، إلى جانب مسرحيات مثل «جلفدان هانم» و«قطط وفئران» و«الحاكم بأمر الله»، وغيرها من الأعمال التي كشفت عن انشغاله الدائم بالتاريخ والهوية والإنسان.

ومن خلال هذا التنوع، تنقّلَ العرض بين العصور الفرعونية والإسلامية والحديثة، مستحضراً شخصيات تاريخية وأسطورية ومتخيلة، في معالجة درامية سعت إلى إبراز الأسئلة الكبرى التي شغلت الكاتب؛ من الحرية والعدل، إلى الصراع بين السلطة والضمير، وعبر فتاة شابة من جيل «زد» تدخل متحفاً يضم عدداً من الشخصيات التي قدّمها.

يقول أحمد فؤاد، مؤلف العرض ومُخرجه، لـ«الشرق الأوسط»، إن عرض «متحف باكثير» جاء انطلاقاً من إيمان عميق بأهمية إعادة تقديم أعمال علي أحمد باكثير بصيغة مسرحية معاصرة تتيح للجمهور، اليوم، الاقتراب من عالمه الفكري والإنساني دون حواجز زمنية، مشيراً إلى أن اختيار فكرة المتحف كان المدخل الأنسب للتعامل مع هذا الإرث المتنوع؛ نظراً لما تزخر به أعمال باكثير من شخصيات تنتمي إلى عصور وخلفيات مختلفة، من مصر القديمة، مروراً بالتاريخ الإسلامي، وصولاً إلى الشخصيات المتخيَّلة والمعاصرة.

وأضاف أن «العرض صُمِّم على هيئة قاعات متحفية متجاورة، ينتقل بينها المتفرج، بحيث تقوده الأحداث في مسار درامي واحد، تتقاطع داخله الشخصيات والأفكار، في محاولةٍ للكشف عن الخيط الإنساني المشترك الذي يربط هذه العوالم المتباعدة ظاهرياً».

العرض قُدّم على مدار 80 دقيقة على خشبة المسرح الكبير بالأوبرا (الشركة المنتجة)

وأوضح فؤاد أنه اعتمد في بناء العرض على دراسة وقراءة عدد كبير من نصوص باكثير، قبل الاستقرار على اختيار 12 نصاً مسرحياً كُثِّفت وأُعيدت صياغتها داخل بنية واحدة. وعَدّ «التحدي الأكبر تمثل في ضغط الزمن، ومحاولة تجميع هذا الكم من الأعمال في إطار جذاب بصرياً ودرامياً، دون الإخلال بالفكرة الأساسية لكل نص؛ لأن الهدف كان تقديم عرض نوعي، قريب من المتفرج، يُعيد طرح سؤال عن باكثير وقدرته المتجددة على مخاطبة الحاضر».

ووفق الناقد الفني المصري، محمد عبد الرحمن، فإن عنوان عرض «متحف باكثير» قد يوحي، منذ الوهلة الأولى، بطابع وثائقي تقليدي، إلا أن التجربة المسرحية جاءت مغايرة تماماً لهذا الانطباع، وقال، لـ«الشرق الأوسط»: «استطاعت التجربة أن تحصد إعجاب الجمهور بفضل طبيعتها المختلفة واعتمادها الواضح على الحركة فوق خشبة المسرح، كما أن تعدد الشخصيات وتنوعها، والتنقل بينها بسلاسة، منح العرض حيوية خاصة، وخلق حالة من التفاعل المستمر مع المتلقي، بعيداً عن الجمود أو السرد المباشر».

العرض نال إشادات من الحضور (الشركة المنتجة)

وأضاف عبد الرحمن أن «عناصر العرض الفنية جاءت متوازنة، إذ اتسم الحوار بالجاذبية والقدرة على الإمتاع دون إسهاب أو خطابية، مدعوماً بمتعة بصرية واضحة على مستوى الحركة والتشكيل المسرحي»، لافتاً إلى أن الموسيقى لعبت دوراً أساسياً في تكوين المناخ العام للعمل؛ لاعتمادها على إرث أعمال باكثير.

وخلال الاحتفالية أُعلن إطلاق جائزة سنوية تحمل اسم علي أحمد باكثير، تبلغ قيمتها 10 آلاف دولار أميركي، وتُمنح في مجالات عدّة تعكس تنوع تجربته الإبداعية، من بينها الشعر، والكتابة المسرحية، والرواية، والترجمة الأدبية، والنقد الأدبي، في خطوة تستهدف دعم الإبداع العربي وتشجيع الأصوات الجديدة، بجانب تكريم أسماء عدد من الفنانين الذين ارتبطت أعمالهم به، منهم أحمد مظهر، ولبنى عبد العزيز، وسميرة أحمد، وحسين رياض.


مطاعم أميركية تقدم وجبات أصغر لإرضاء مستخدمي علاجات إنقاص الوزن

لينا أكسماشر في مطعم «لو بوتي فيلاج» (أ.ف.ب)
لينا أكسماشر في مطعم «لو بوتي فيلاج» (أ.ف.ب)
TT

مطاعم أميركية تقدم وجبات أصغر لإرضاء مستخدمي علاجات إنقاص الوزن

لينا أكسماشر في مطعم «لو بوتي فيلاج» (أ.ف.ب)
لينا أكسماشر في مطعم «لو بوتي فيلاج» (أ.ف.ب)

لطالما كانت لينا أكسماشر من كبار مرتادي المطاعم في نيويورك إلى أن بدأت تتناول دواء «أوزمبيك» لإنقاص الوزن فلم يعد في وسعها تناول ما لذّ وطاب، غير أنها وجدت حلّاً لهذه المعضلة في مطاعم تقدّم وجبات أصغر تلبية لحاجات هذه الفئة من الزبائن.

وما زالت لينا السويدية الأصل والبالغة من العمر 41 عاماً تصرّ على «مخالطة الناس» وارتياد المطاعم، حتّى لو أنها لم تعد تأكل كالسابق.

وقد سهّل عليها أحد مطاعمها المفضّلة «لو بوتي فيلاج» (القرية الصغيرة) الأمر، وبات كمطاعم كثيرة غيره يقدّم وجبات بكمّيات أصغر وأسعار أقل.

ويعزى هذا القرار إلى الإقبال الكثيف الذي تشهده في الولايات المتحدة أدوية إنقاص الوزن الحديثة التطوير المستخدمة لمعالجة البدانة والسكّري.

وبحسب استطلاع أجراه مركز الأبحاث «كاي إف إف» المتخصّص في مسائل الصحة في نوفمبر (تشرين الثاني)، يلجأ أميركي واحد من كلّ ثمانية إلى هذه العلاجات المسوّقة تجارياً تحت أسماء «أوزمبيك» أو «ويغوفي» أو «مونجارو» والتي أوصت «منظمة الصحة العالمية» أخيراً بها.

والاثنين، وافقت إدارة الغذاء والدواء الأميركية (إف دي إيه) على نسخة أولى بالأقراص من «ويغوفي» الذي يوفّر عادة كغيره من هذه العلاجات على شكل محلول قابل للحقن.

وبفضل هذه التقنية المتطوّرة التي تقوم على محاكاة عمل الهرمون الهضمي «جي إل بي-1» الضابط للشهيّة، فُتحت سوق لتلبية حاجات ملايين الأشخاص الراغبين في خسارة الوزن.

وقال أريستوتل هاتسييوريو الذي يملك خمسة مطاعم في نيويورك: «لاحظت أن الناس باتوا يأكلون كمّيات أصغر بكثير»، مخلّفين الكثير من الطعام في أطباقهم.

تقليص حجم الوجبات

وفي ظلّ هذه التغيّرات، بادر رجل الأعمال إلى تقليص حجم الوجبات مع كمّيات أصغر وعدد أقلّ من المأكولات والمشروبات.

وشهدت قوائم الأطعمة المقلّصة هذه نجاحاً كبيراً، بحسب هاتسييوريو، في أوساط مستخدمي علاجات إنقاص الوزن وأيضا الزبائن الراغبين في عدم دفع مبالغ كبيرة لتناول وجبات في المطاعم في مدينة معروفة بغلاء المعيشة الفاحش.

أطباق طعام في مطعم «لو بوتي فيلاج» (أ.ف.ب)

وما زال تناول «أوزمبيك» وغيره من العلاجات المخفّضة للوزن محدود النطاق في الولايات المتحدة بسبب الأسعار المرتفعة لهذه العقاقير. غير أنه من المتوقع أن تصبح هذه العلاجات ميسورة الكلفة على نحو متزايد، وقد تعهّد الرئيس دونالد ترمب شخصياً بذلك.

ويُحدث الاستخدام المتزايد لهذه العلاجات تحوّلاً في العادات الغذائية في البلاد، بحسب ماريون نستله اختصاصية علم التغذية في جامعة نيويورك التي قالت لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «عندما يصبح الطعام الذي لطالما كان من أكبر ملذّات الحياة عدوّاً، تتغيّر المعادلة برمّتها».

«معجزات»

صحيح أن هذه العلاجات غالباً ما تترافق مع آثار جانبية، غير أنها أحدثت «معجزات» للبعض، بحسب نستله.

غير أن الأستاذة الجامعية حذّرت من أن الآثار بعيدة المدى لهذه المنتجات ليست معروفة بعد، سواء على الصعيد الجسدي أو الاجتماعي، إذ يشكّل الاستخدام الواسع النطاق لهذه العلاجات «تجربة بشرية كبيرة».

وأقرّت لينا أكسماشر بأنها تتوقّف أحيانا عن تناول «أوزمبيك» كي «تستمتع أكثر بالحياة». وقالت: «أريد أن أشعر بالجوع وأتناول ما يحلو لي».

وقد ساعدها تناول «أوزمبيك» على اكتساب عادات حميدة، مثل ممارسة الرياضة بوتيرة أكبر واستهلاك الكحول بكميّة أقلّ.

واعتبرت ماريون نستله أنه لا ضير في تقديم وجبات أصغر في الولايات المتحدة، بغضّ النظر عن العلاجات الرائجة لخفض الوزن.

وأكّد أريستوتل هاتسييوريو أن هذه الوجبات المقلّصة «قد تكون الأنسب حجماً» للزبائن.


«شتاء طنطورة»... تجربة ثقافية بين تاريخ العلا ومستقبلها الواعد

أهالي العُلا يحتفون بفعالية «الطنطورة» تقليداً ثقافياً ارتبط بتنظيم المواسم وبداية مربعانية الشتاء (واس)
أهالي العُلا يحتفون بفعالية «الطنطورة» تقليداً ثقافياً ارتبط بتنظيم المواسم وبداية مربعانية الشتاء (واس)
TT

«شتاء طنطورة»... تجربة ثقافية بين تاريخ العلا ومستقبلها الواعد

أهالي العُلا يحتفون بفعالية «الطنطورة» تقليداً ثقافياً ارتبط بتنظيم المواسم وبداية مربعانية الشتاء (واس)
أهالي العُلا يحتفون بفعالية «الطنطورة» تقليداً ثقافياً ارتبط بتنظيم المواسم وبداية مربعانية الشتاء (واس)

شتاء ثقافي يمدُّ جسوراً معرفية وإثرائية بين الماضي بقيمته الثمينة المحفورة على صخور العلا، والمستقبل الواعد الذي تتطلع إليه المدينة التاريخية، حيث تفتح أبوابها كل شتاء لتروي قصصها، وتكشف أسرارها.

الموسم الثقافي السنوي، الذي اختار اسم «شتاء طنطورة»، تستضيفه بلدة العلا القديمة في المدينة المنورة شمال غربي السعودية، وسُمّي هذا المهرجان الاستثنائي نسبة إلى «طنطورة»، الساعة الشمسية التقليدية في قلب البلدة القديمة، التي اعتمدها أهل العلا لمعرفة الوقت والاحتفال بدخول المربعانية وبداية موسم الزراعة.

تعامد ظل عمود من طين أمام حجر مغروس يحدث مرة واحدة سنوياً ولمدة وجيزة (واس)

يضم المهرجان سلسلة من الفعاليات والتجارب التي تحتفي بالتراث العريق، والثقافة المحلية الأصيلة، والفنون التقليدية، ويستقطب آلاف الزوار الذين يتدفقون لاكتشاف أسرار المواقع التاريخية التي تُمثِّل كُتباً مفتوحة على التاريخ الحي، بدءاً بالحِجر (مدائن صالح)، بمقابرها النبطية الضخمة المنحوتة في الصخر، منذ كانت عاصمة نبطية جنوبية، مروراً بالبلدة القديمة التي تظهر تطور العمارة المحلية، مروراً بوادي دادان عاصمة مملكتي دادان ولحيان، وصولاً إلى جبل عكمة المعروف بـ«المكتبة المفتوحة» وآلاف النقوش الأثرية المنتشرة فيه.

تقول أمل الجهني، إحدى رواة التاريخ في موقعي دادان وجبل عكمة، إن زوار العلا من داخل السعودية وخارجها لا تغادرهم الدهشة أبداً، ويعودون مراراً لاستكشاف مزيد من أسرارها وآثارها.

«الطنطورة»... تقليد يعكس دورة الحياة

برنامج ثقافي يعرض تنوّع الفنون والموروثات الشعبية ويعكس عمق ذاكرة المجتمع المحلي (واس)

وفي موعد يتكرَّر كل عام، التأم أهالي العلا، الاثنين، لإحياء تقليد ثقافي موروث، يعتمد على الساعة الشمسية التقليدية (مزولة)، أو ما يعرف بـ«الطنطورة» التي كانت تُحدِّد مواقيت الفصول ودخول المواسم الزراعية، حين كان أهالي وسكان العُلا قديماً يعتمدون عليها لتنظيم دورة العمل الزراعي وتنظيم الحياة اليومية.

عند تعامد ظل عمود من الطين يقف على أحد مباني البلدة القديمة أمام حجر مغروس في الأرض، وهو حدث يحدث مرة واحدة سنوياً ولمدة وجيزة، يعلن الأهالي رسمياً دخول مربعانية الشتاء في العلا، وهي فترة يشتد فيها البرد وتستمر 40 يوماً، ومن هنا جاء الاسم.

أمسيات مميّزة تتضمّن عروض فنية تراثية تقام طوال الموسم في البلدة القديمة (واس)

وعلى الرغم من التوقف عن استخدام الطنطورة أداة لضبط أوقات الحياة في الزمن المعاصر، بقي هذا التقليد مستمراً للاحتفاء بقيمته الثقافية والتاريخية لأهالي العلا، حيث تتهيأ الفرصة لاستعادة طيف من الماضي القديم بذكرياته وتفاصيله التي بقيت في ذاكرة الأجيال عبر العقود.

ليالي البلدة القديمة... فن وتراث

تُقدِّم ليالي البلدة القديمة أمسيات فنية وتراثية مميزة طوال موسم «شتاء طنطورة»، تقام بين البلدة القديمة وقلعة العلا التاريخية، وبين التكوينات الصخرية المذهلة خلف مدرّج البلدة القديمة، مع إطلالات ساحرة على قلعة العلا التي يعود تاريخها إلى القرن العاشر الميلادي، حيث يستمتع الزوار بعروض فنية مستوحاة من ذكريات البلدة القديمة وتراث واحة العلا العريق.

وفي داخل قلعة العلا التاريخية، تُحاكى أجواء احتفالات الأعراس التقليدية، مع إطلالات بانورامية على البلدة القديمة ليلاً، لتعكس الهوية الثقافية للعلا وثراءها الحضاري، وتمنح الزائر تجربة حيَّة في قلب المشهد التراثي للمكان.

العُلا تحتفي بفعالية «الطنطورة» ضمن تقليد ثقافي سنوي (واس)

على مسرح «ليالي البلدة القديمة»، يُنظَّم برنامج ثقافي متنوع يُبرز الفنون الشعبية والموروثات المحلية، ويعكس عمق الذاكرة الثقافية للمجتمع المحلي.

ولا تكتمل زيارة البلدة القديمة دون الجولات التفاعلية داخل 3 منازل مُرمَّمة، ومزوّدة بتقنيات سمعية وبصرية، لتسليط الضوء على العادات والتقاليد المحلية. تستعرض هذه الجولات محطات مميزة من حياة المجتمع المحلي، مثل مراسم الزواج، وذكريات الطفولة، وحكايات كبار السن الغنية بالحكمة، لتمنح الزائر تجربة ثقافية وإنسانية متكاملة.