تقع جزيرة فيلكا في الركن الشمالي الغربي من الخليج العربي، وتشكّل في زمننا جزءاً من دولة الكويت، وهي في العصور القديمة إحدى الحواضر في إقليم متعدّد الأقطاب، عُرف في مصادر بلاد ما بين النهرين باسم دلمون. اتّخذت هذه الحاضرة طابعاً هلنستياً في زمن الإمبراطورية الإغريقية التي أسّسها سلوقس الأول نيكاتور عقب وفاة الإسكندر الأكبر، وتجلّى هذا الطابع في شواهد أثرية عديدة كشفت عنها أعمال المسح والتنقيب في العقود الأخيرة من القرن العشرين، منها مجموعة كبيرة من المجسمات، تميّزت بأسلوبها اليوناني الكلاسيكي الصرف. تحوي هذه المجموعة قطعاً حظيت بشهرة واسعة، وأخرى باتت اليوم شبه منسية، منها ثلاثة مجسّمات أنثوية وصلت للأسف بشكل مجتزأ.
عُثر على أهم آثار فيلكا اليونانية في منطقة تقع في الجزء الجنوبي الغربي من الجزيرة، تُعرف باسم «سعد وسعيد»، نسبة إلى «تل سعد» و«تل سعيد». خرجت من «تل سعد» قطع أثرية تعود إلى العصور البرونزية، وظهرت في «تل سعيد» أطلال قلعة محصنة تحوي معبدين. وفي ركن منخفض يمتد بين التلّين، على مقربة من الساحل، ظهرت أطلال دار تتكوّن من 12 غرفة، وتبيّن أن إحدى هذه الغرف اتّخذت محترفاً لحدادة، كما تشهد قوالب من الآجر بقيت من مخلفات هذا المشغل. حافظت بعض من هذه القوالب على تكوينها الأصلي نسبياً، وتمّ صب مادة طينيّة طريّة في هذه القوالب، فخرجت منها مجسّمات شبه كاملة، منها مجسّم يبلغ طوله نحو 9 سنتيمترات، يمثّل قامة نسائية فقدت رأسها وذراعها اليمنى.
ترتدي هذه المرأة لباساً فضفاضاً طويلاً تكشف ثناياه المتموّجة عن مفاصل جسدها بشكل واقعي حسّي، وفقاً لطراز فنّي شكّل أساس الجمالية الكلاسيكية اليونانية. تنساب هذه الثنايا فوق الصدر، وتلتف حول الحوض، وتنسدل حتى أخمص القدمين، وتنفتح من حول الساقين، مشكّلة كتلة مقوّسة تماثل في تكوينها ما يُعرف بذيل حورية البحر. تكشف هذه الكتلة الفضفاضة عن حركة تتمثّل بتقدّم الساق اليسرى إلى الأمام، وبثبات الساق اليمنى من خلفها. توازي هذه الحركة الرشيقة حركة أخرى متهادية، تتمثّل بارتفاع الذراع اليسرى بشكل طفيف عند حدود الخصر. تجسّد هذه القامة كما يبدو نموذجاً من النماذج الأنثوية المكرّسة في قاموس الفن الكلاسيكي اليوناني، وهو نموذج المعبودة المعروفة باسم «نيكيه»، المعبودة التي أطلق عليها الرومان اسم فيكتوريا، أي ربة النصر.
تحضر المعبودة «نيكيه» بقوة في العالم اليوناني، كما تحضر في آسيا الصغرى وفي الشرق الأدنى، وتماثيلها في هذه الأقاليم لا تُحصى، وأشهرها نصب ضخم خرج من جزيرة سمدرك (ساموثريس) اليونانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ودخل متحف اللوفر، وبات من أشهر القطع المحفوظة في هذا المتحف. يشبه مجسم فيلكا في تكوينه هذا التمثال الضخم، مع غياب للجناحين الكبيرين اللذين تتميز بهما نيكيه سمدرك، وهما الجناحان اللذان يرافقان هذه المعبودة في العديد من صورها المتعدّدة الأشكال والأنواع، ويشكّلان رمزين من رموزها العديدة المرافقة لها في إطلالاتها، ومنها إشارات النصر التي تحملها عادة، وأكثرها شيوعاً الإكليل، وسعفة النخلة، والصولجان.
خرج من دار فيلكا مجسّم أنثوي آخر استُخرج من أحد القوالب المكتشفة في المحترف الملحق بهذه الدار، ونشرت الدولة الكويتية صورة لهذا المجسّم على بطاقة بريدية، في نهاية الخمسينات، ضمن مجموعة من البطاقات المخصصة لميراث فيلكا. وصل النصف الأسفل فحسب من هذا المجسّم، وطوله نحو 26.5 سنتيمتر، ويمثّل ثوباً نسائياً متقناً، تلتفّ ثناياه برهافة مدهشة حول مفاصل الحوض والساقين الظاهرة من خلف قماشة هذه الثنايا. يصعب تحديد هوية هذه الأنثى المنتصبة بثبات، ولعلّها تجسّد نموذجاً يُعرف في الفن اليوناني باسم «كورا»، أي الفتاة الشابة، وهو الاسم الذي عُرفت به كذلك الصبية «بيرسيفوني»، ابنة زيوس من ديميتر، سيدة الزراعة والحصاد، كما قيل افتراضياً عند اكتشاف هذا المجسّم.
في المقابل، نقع على مجسّم أنثوي مغاير، نُشرت صورته كذلك على بطاقة بريدية مشابهة. فقد هذا المجسم رأسه وذراعيه بشكل كامل، وبقي من قامته الجزء الأعلى من الجسد الذي يظهر هنا عارياً بشكل تام، مع صدر ناتئ تبرز معالمه في وضعيّة تعيد إلى الذاكرة المثال الخاص بالمعبودة أفروديت، «سيّدة الزبد» التي خرجت البحر، و«سبحت نحو سيثير، الجزيرة الملهمة، ثمّ بلغت قبرص التي تحاصرها الأمواج»، وهناك خرجت من الماء، أنثى «ذات بهاء وخفر»، كما روى هزيودوس في القرن الثامن قبل الميلاد. «يُسمونها أفروديت»، يضيف الشاعر الإغريقي، «لأنها من الزبن خُلقت، وسيثيرية لأنها من سيثير جاءت، وقبرصيّة لأنها في قبرص التي تحيط بها الأمواج وُلدت».
