ما هي الثقافة الرابعة؟ وكيف تتشكل؟

مع الذكاء الاصطناعي سيعادُ تشكيلُ مفاهيمنا وكامل كينونتنا البشرية!

ما هي الثقافة الرابعة؟ وكيف تتشكل؟
TT

ما هي الثقافة الرابعة؟ وكيف تتشكل؟

ما هي الثقافة الرابعة؟ وكيف تتشكل؟

نعرفُ في المواضعات السائدة أنّ الثقافة صنفان: أدبية وعلمية. هكذا جرت العادة حدّ أنّ الدراسة الإعدادية (توصف بالثانوية في بعض الأقطار العربية) تحدّد المسار الدراسي للطالب وفقاً لاختياره بين الدراسة العلمية أو الأدبية. يعرف الطالب منذ البدء إلى أين سينتهي به هذا المسار. قد تكون بعض التفصيلات الصغيرة حاضرة؛ لكنْ في العموم هذا هو العنوان الأكبر: الدراسة صنفان: علمية وأدبية. قد يضافُ أحياناً خيارُ التركيز على الرياضيات كما هو حاصل في مصر وبلدان الشمال الأفريقي العربية، وقد يحصل تركيز على الفلسفة ضمن الدراسة الأدبية، كما قد يحصل شطرُ الدراسة العلمية إلى قسم تطبيقي يقود إلى العلوم والهندسة، وقسم أحيائي يقود إلى الدراسة الطبية وتفريعاتها، وهو ما حصل في العراق ثم انتهت القناعة لوأد التجربة والعودة إلى السياق الكلاسيكي: علمي وأدبي.

كل دراسة تقود إلى صناعة ثقافة تدور في مداراتها. نعرفُ في الصورة العامة ما الذي سيكون موضع الاهتمام الثقافي لدى الدارس الأدبي. سيدور هذا الدارس (أو هكذا تفترض البداهة) في مدار الأدب والفلسفة والتاريخ والنقد والرواية وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا. قد لا يدور في كل تلكم المدارات، لكنّه في الأقلّ سيدور في واحد منها ويتطلّع لمعرفة بعض الشيء عمّا يدور في الأفلاك الأخرى. الأمر ذاته يحصل مع ثقافة الدارس العلمي. سيدلّنا الحدسُ على أنّه سيتابع التطوّرات العلمية في حقله الاختصاصي مع رغبة في مدّ عنقه للإطلالة على الحقول العلمية الأخرى. هذا التمركز الاختصاصي حول الأدب أو العلم خلق لنا أصولية ثقافية ناشزة لم تعُدْ مناسبة للتعامل مع معضلات العالم الطارئة. لم يعُد مقبولاً أو مناسباً أن نستخدم مخرجات العلم التقنية من غير أن تكون لنا خلفية مناسبة لمعرفة السياق التاريخي والمجتمعي الذي قاد لتلك المخرجات، وقبل هذا معرفة السياسات العلمية للدول وبخاصة أنّها صارت سياسات معقّدة تشتبك فيها المؤثرات العلمية والتقنية والاقتصادية والثقافية.

كان اللورد سي بي سنو C. P. Snow من أوائل من كتبوا عن القصور الفاضح في الانكفاء على ثقافة علمية أو أدبية؛ فكتب مؤلفه الأشهر (الثقافتان The Two Cultures) الذي سعى فيه لتجسير الهوّة بين الثقافتين العلمية والأدبية. المقصود بهذا التجسير هو امتلاك القدرة على إدامة نمط من التواصل الحي المنتج بين المشتغلين بالعلم والأدب، وقد برهنت الوقائع على أنّ المعرفة بالآخر كانت منتجة وذات نتائج مثيرة. بدأت معالم هذا التجسير من تطعيم المناهج الدراسية الجامعية لكلّ طرف بدراسات من الطرف الآخر في سياق تكاملي لا يرى العلم أو الأدب ومشتقاتهما الثقافية جزراً معزولة بل صوراً متعدّدة لعالم جميل يتّسم بالتعقيد المثير.

نشر اللورد سنو كتابه المثير عام 1959، ثمّ أتْبَعَهُ بتحديث عام 1962. مضى أمرُ الثقافتين بهدوء وسلاسة ولاقى قبولاً واستحساناً عالمياً، وفي مستطاع القارئ حتى اليوم قراءةُ موضوعات على شاكلة «الثقافتان بعد ستين عاماً»، لكنْ يبدو أنّ الوكيل الأدبي والمهتم بشؤون الثقافة العالمية جون بروكمان John Broakman لم يكتفِ برؤية سنو بل أراد الترويج لمفهوم (أو بالأصح سياسة ثقافية) وصفه بالثقافة الثالثة The Third Culture. حصل الأمر ابتداءً من منتصف تسعينات القرن الماضي، وأراد منه بروكمان أن يتوجه العلماءُ المتخصصون إلى عامّة القرّاء بكيفية مباشرة من غير وسيط. هنا حصل انفجار حقيقي (Boom كما يوصف في الأدبيات الثقافية) في كمّ ونوع المنشورات التي تخاطب القارئ العادي. انبرى الفيزيائيون يكتبون عن موضوعات الانفجار الكبير، وأصل الكون ونهايته، وميكانيكا الكم وتطبيقاتها المثيرة، والمصادم الهادروني الكبير والجسيمات الأولية على شاكلة جسيم هيغز. من جانبهم راح الرياضياتيون يكتبون عن نظرية الفوضى Chaos Theory والنظم الدينامية المعقّدة ونظرية الكوارث؛ في حين بدأت بواكير الذكاء الاصطناعي حينذاك وكثُرَ الحديث عن النظم الخبيرة والمعالجة الحاسوبية للغة الطبيعية. الأمثلة أكثر من التعداد البسيط والانتقائي، وقد ساهم بروكمان ذاته في تعزيز مفهوم الثقافة الثالثة ولم يكتفِ بالدعوة المخلصة لها، فأنشأ موقعاً إلكترونياً أسماه Edge.com لم يزل فاعلاً حتى اليوم، وأحسبه كنزاً معرفياً حقيقياً لثراء الموضوعات والحوارات والشخوص فيه، وفي العادة كان بروكمان يصنع من محتويات هذا الموقع كتاباً كلّ سنة أو سنتيْن. قراءة كتب بروكمان متعة عظيمة لمن خَبِر أهمية الموضوعات التي كان يختارها. من المهم الإشارةُ إلى أنّ بروكمان لم يَدْعُ صراحة أو تلميحاً إلى أصولية علمية (أو نزعة علموية) كما قد نظن؛ بل أراد نقل العلم من بنيته الفوقية إلى طور المشاعية العامة. أراد تقريب صورة المشتغل بالعلم إلى الجمهور حتى لا نبقى مشدوهين نحسبُ العلم أقرب إلى كهانة جديدة يلعبُ فيها العلماء دور سَحَرَة العالم القديم. من المفيد أن نتذكّر حقيقة كون بروكمان مشتغلاً في الصناعة الثقافية الأدبية ولم يكن ذا تخصّص علمي معروف، وهذا ما يضفي على دعوته للثقافة الثالثة مصداقية حقيقية ومضاعفة.

أفكّرُ اليوم بمفهوم سيكون مسوّغاً أن أصفه بـ«الثقافة الرابعة The Fourth Culture». لا بأس أن نضيف واحداً إلى (عدّاد) بروكمان الثقافي. الأمر ليس نزوة أو رغبة عابرة أو سباقاً جامحاً لحيازة قصب السبق في ابتكار المسمّيات الجديدة. الأمر أكبر من هذا وله مفاعيله المفاهيمية والعملية. لم أجد في البحث الغوغلي المستفيض ما يشيرُ إلى اعتماد توصيف الثقافة الرابعة، لكنّي موقنة أنّها ستصبحُ مفهوماً جوهرياً في زمن قريب جداً.

أولاً وقبل كل شيء، ما هي الثقافة الرابعة؟ هي -باختصار- الثقافة التي تتعشّق مع الذكاء الاصطناعي وتتناغم مع معطياته. الأصل في هذه الثقافة هي القناعة الراسخة بأنّ الذكاء الاصطناعي ليس ثورة تقنية جديدة فحسب (خامسة أو سادسة أو سابعة. ليس أمراً مهمّاً هذا)، بل هو إيذان بعصر تنوير جديد The New Enlightenment. سيعادُ مع الذكاء الاصطناعي تشكيلُ مفاهيمنا وكامل كينونتنا البشرية، وسيكون من المعيب أن يبقى المرء بعيداً أو ناكراً أو جاهلاً لهذه الثورة التنويرية الجديدة.

كيف تتشكّل الثقافة الرابعة؟ لن نكون مغالين أو متشدّدين ونتصوّر أنّ على المرء دراسة الذكاء الاصطناعي كما يدرسه طلبة الجامعة، علماً بأنّ دراسة الذكاء الاصطناعي في جامعاتنا تجربة قاصرة لا تختلف نوعياً عن الدراسات التقليدية المعروفة في الجامعة، لكن برغم ذلك فمن سعى مخلصاً للمعرفة التقنية في الذكاء الاصطناعي ولم يشأ الاكتفاء بالعموميات الثقافية التي تشكّل الحدّ الأدنى The Minimum فيمكنه الاستعانة ببرامج دراسية مجانية ورائعة على الشبكة العالمية (الإنترنت)، وهي أرقى وأنفع بكثير من مقرراتنا الجامعية. ستكون تجربة ثقافية مميزة أن نقرأ عن تاريخ تطوّر الذكاء الاصطناعي، وفلسفته، ومفاهيم على شاكلة: الخوارزميات، التفكير الحوسبي، البيانات الكبيرة، الروبوتات، مع تركيز خاص على المعضلات التي ينجح الذكاء الاصطناعي في تفكيكها أو قدح شرارتها. يتوجّب أن ننتبه للوجهين؛ إذ لكلّ تقنية جديدة جوانب طيبة ومؤذية. هذا ما تعلّمُنا إياه الثوراتُ التقنية السابقة، وعلينا أن نتخيّل كيف سيكون الحال مع تقنية عظمى هي أقرب إلى عصر تنوير جديد! الأمر منوط بنا في نهاية المطاف. يمكن أن نكون أتباعاً شريرين لمفيستوفيليس أو رفقاء مخلصين لبروميثيوس في تطلعاته الثورية اللانهائية.

علينا أن نتخيّل كيف سيكون الحال مع تقنية عظمى هي أقرب إلى عصر تنوير جديد

ما أهمية الثقافة الرابعة؟ ببساطة، عصرنا هو عصر الذكاء الاصطناعي، وحتى يحوز المرء أقلّ الشغف اللازم للتعامل مع المنتجات الثورية للذكاء الاصطناعي فيتوجّب عليه معرفةُ الأساس الثقافي الذي يتأسّس عليه هذا الذكاء. هذا يصحّ مع الذكاء الاصطناعي أو أي حقل معرفي آخر. الثقافة هي البنية التحتية اللازمة لإدامة أيّ فعل ناجح في العلم والتقنية أو أيّ منشط إنساني. لا شيء يمنعنا أن يحقق شباب عربٌ مجموعات ناشطة في الذكاء الاصطناعي تناظرُ ما حقّقه الهنود أو الصينيون. كل ما نحتاج إليه هو الشغف والرغبة الحقيقية في الإنجاز. المال ليس عائقاً، وهذه واحدة من الخواص الطيّبة للتقنيات الحديثة كالذكاء الاصطناعي. مع حاسوب ووصلة إنترنت وشغف حقيقي (ولا ننسى الكثير من الشاي أو القهوة بالطبع) نستطيع أن نفعل الكثير ممّا فعله الهنود أو الصينيون وأذهلوا به العالم. لن يموت الأدب أو الإبداع كما قد يتوهّم بعضنا، كما لن نكون في حاجة لقتل تراثنا الإبداعي والفلسفي العالمي. ليس مَنْ يبشّرُ بحتمية قتل الجاحظ أو دوستويفسكي أو سارتر أو راسل لكي نكون بارعين في التعامل مع الثقافة الخوارزمية ومعطيات ثورة الذكاء الاصطناعي. الأمر هو العكس تماماً: ليس ثمّة ما يمنعُ أن تكون روائياً بارعاً أو فيلسوفاً متسلّحاً بأفضل المنتجات الثقافية ما بعد الحداثية، وفي الوقت ذاته يمكنك التعامل مع أدوات الثورة الرابعة. بكلمات وجيزة: ليس من المناسب أن نشعر بضياع كامل في متاهة اغترابية كلّما واجهتنا معضلة أو موضوعة يكون الذكاء الاصطناعي طرفاً فيها. هذا هو جوهر الثقافة الرابعة.

لنفعلْ شيئاً. هذا أفضل من أن نبقى شبيهي «فاوست» المأسور بغواية مسمومة ما عادت مناسبة للبقاء والاستمرارية في عصر التنوير الجديد الذي نعيش تباشير ثورته القادمة.


مقالات ذات صلة

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

ثقافة وفنون هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية.

ندى حطيط
ثقافة وفنون إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

يواصل الكاتب المسرحي والروائي ماجد الخطيب، في الجزء الثاني من «ملصقات بيروت»، سرد سيرته الشخصية في بيروت، المبتلية بالحرب،

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها لقد أتاح لي الحظ أن أتعرف على أحمد أبو دهمان لأول مرة

هاشم صالح

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.


حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع
TT

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه، على أهمية النظرة الجماعية للأدب بين التسلية والعمق والدلالات الخطيرة التي تكمن وراء طبيعة نظرة شعب من الشعوب له، وفق هذا المنظور أو ذاك.

ويؤكد العقاد أن اعتبار الأدب أداة لهو وتسلية هو الذي يصرفه عن رسالته العظيمة في فهم النفس البشرية والتعبير الصادق عن الحياة، وغيرهما من عظائم الأمور، ويسقطه في هوة البطالة والفراغ، فينشر حالة من اللامبالاة تجاه الذات والآخرين: «فماذا يُرجى من الفراغ غير السخف والسطحية في النظر للأشياء، فضلاً عن لهو الحديث وافتقاد المعنى؟ وبالتالي يصغي إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله».

ويذكر العقاد أنه إذا بالغ الأديب في مدح أو هجاء، أو جاوز الحد في صفة من الصفات؛ فمسح الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ... غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعراً؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد، ما دام الأدب أداة لهو وتسلية!

ومن شاء التحقق والتثبت من ذلك في تواريخ الآداب، بحسب العقاد، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط بقوة. إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه الشطط والمبالغة والطي والنشر والتوشيع وسائر ما تجمعه كلمة «التصنّع». وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي في الإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها إلا حين تحول إلى أداة تستهدف إرضاء فئة خاصة.

ويتابع العقاد: «هكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة والافتعال وتقل الموهبة، فيضعف وينحدر إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتُخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق واسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة وغلبت التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشلته من سقوطه بعد اتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وبالتالي يجب أن يفهم أبناء هذا الجيل والأجيال أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد، وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والحياة».