«تاريخ الكتابة» يكشف علاقتها بالوجود البشري

كتاب لعالم لغويات نيوزيلندي يتساءل عن شكلها في المستقبل

كتابة مسمارية
كتابة مسمارية
TT

«تاريخ الكتابة» يكشف علاقتها بالوجود البشري

كتابة مسمارية
كتابة مسمارية

في كتابه «تاريخ الكتابة»، يؤكد عالم اللغويات النيوزيلندي ستيفن روجر فيشر، أن الكتابة كانت في السابق مجالاً متخصصاً تقتصر ممارسته على بضعة آلاف من الأشخاص، أما اليوم فنحو 85 في المائة من سكان العالم يمارس الكتابة، ويستند المجتمع الحديث بأجمعه عليها. لكنّ أنظمة الكتابة والخطوط القديمة، لم يعد لها وجود الآن، ولم يتبقَّ سوى آثار ضئيلة لأقدم أنظمة الكتابة الهيروغليفية المصرية القديمة.

الكتاب صدر عن مشروع «كلمة للترجمة» بمركز أبوظبي للغة العربية، ونقلته للعربية رشا صلاح الدخاخني، ويتناول أصول أنظمة الكتابة الرئيسية المستخدمة في العالم، ونصوصها وأشكالها وأدوارها والتغيرات الزمنية التي طرأت عليها.

الكتابة القديمة

يتكون الكتاب من ثمانية فصول، عرض من خلالها للأشكال البدائية الأولى للكتابة في الحضارات والبلدان القديمة، في فترة ما قبل الميلاد وما بعدها، وكيف بدأت الكتابة بأدوات بدائية بسيطة مثل الكتابة على العظام والأخشاب والنقش على الأحجار والجدران والمعادن، وأشكال الكتابة التي بدأت برموز ورسوم وصور تبعث برسائل للآخرين، ودور التجارة والتجار في تطوير ونقل الكتابة من بلد لآخر، واقتصار الكتابة قديماً على النخبة والحكام. ومكانة الكتبة في العصور القديمة، التي كانت مكانة عظيمة لمهنة نادرة ومهمة.

وتناول الكتاب أهم أنواع الكتابة في عدة بلدان؛ منها مصر وبلاد الشام واليونان والصين والهند واليابان وروسيا ودول أوروبا والأميركتين وأفريقيا، وكيف تطورت أشكال الكتابة ورموزها والحروف حتى وصلت لما عليه الآن.

في الفصل الأول، وهو بعنوان «من الثلمات إلى الألواح»، يذكر المؤلف أنه قبل ظهور الكتابة الكاملة، استفاد الجنس البشري من وفرة الرموز التصويرية والرموز التذكيرية بمختلف أنواعها من أجل تخزين المعلومات، وحظيت الفنون الصخرية بذخيرة من الرموز العالمية على هيئة (مجسمات بشرية، ونباتات، وحيوانات، وشمس، ونجوم، وغيرها الكثير)، بالإضافة إلى الكتابة بالصور، والثلمات المحفورة على العظام أو الأغراض الأخرى، والحصى الملون. وعبر آلاف من السنين، نمت الفنون التصويرية وأدوات التذكير أكثر من أي وقت مضى في سياقات اجتماعية محددة، وفي النهاية، اندمجت لتصبح «رموزاً تذكيرية تصويرية»، ويذكر منها «سجلات العقد»، وهي عبارة عن عقد بسيطة في خيط واحد، أو سلاسل معقدة من العقد المشفرة بالألوان مرتبطة بخيوط ذات ترتيب أعلى، وشكلت هذه العقد وسيلة متقنة للعد؛ إذ صورت العقد المختلفة في أوضاع متنوعة كميات عددية، وألوان العقد كانت تمثل سلعاً منفردة. ويعود تاريخ سجل العقد إلى أوائل العصر الحجري الحديث، واستخدمته حضارة الأنكا في بيرو القديمة، لتسجيل المعاملات التجارية اليومية والطويلة الأجل، وكان هذا هو الشكل البدائي للكتابة.

ومنها «الثلمات»، وهي خطوط مائلة محفورة على لحاء شجرة، أو عظام أو حجر، بغرض نقل رسالة إلى الآخرين، ويعود تاريخها إلى 412 ألف عام. ووجدت في كهف بلومبوس بجنوب أفريقيا.

ثم كانت الحاجة للكتابة بالصور، لنقل تفاصيل دقيقة مثل الصفات والخصائص، مثل رسومات الكهوف أو الرسم على الجدران والصخور أو لفائف الخشب. وقد كانت الرسائل المصورة تنقل بالفعل منذ عشرات الآلاف من السنين. وفي القرن التاسع عشر، تبادلت بعض القبائل بأميركا، مثل قبيلة شايان، إرسال خطابات تصويرية على لفائف خشبية، وفي أفريقيا يزين شعب الأشانتي منازلهم وأوانيهم بصور تستدعي إلى الذاكرة الأمثال الشعبية، فصورة تمساح يحمل سمكة طين بين فكيه، تعني: «إذا حصلت سمكة الطين على أي شيء، فإنه سيؤول في النهاية إلى التمساح». وكان الغرض من الكتابة بالصور هو التواصل. ومن قبيل المصادفة أن الكتابة بالصور هي «الخط الافتراضي» للغة التكنولوجية الحديثة الآن.

ولطالما وجدت «عصي العد»، إلى جانب الكتابة الكاملة؛ إذ يسهل استخدامها من قبل الأميين، لكنها مجرد ثلمات وثقوب معيارية تدل على وحدات، وليست كلاماً ملفوظاً بوضوح. وتنتمي عصي العد إلى أقدم أشكال حفظ السجلات، بل إن الأستراليين الأصليين استخدموا هذه العصي لتبادل الرسائل بعضهم مع بعض عبر مسافات، بحيث يشير عدد الثلمات على العصا إلى مقدار ما اتفق مسبقاً على أن الرسالة تنقله. واستخدمت دائرة الخزانة البريطانية عصي العد لتسجيل الإيصالات بين عامي 1100 إلى 1862 ميلادية، إلى جانب الرموز التذكيرية ورسائل الإشارة، والرموز الرسومية على الفخار والطين، للقطع الرمزية الطينية التي ظهرت ما بين عام 8000 و1500 قبل الميلاد في شرق إيران وجنوب تركيا، والألواح الطينية التي ظهرت قرب مصب نهر الفرات في عام 3300 قبل الميلاد. وتحمل تلك الألواح رسماً لليد أو الرأس أو القدم، أو ضم رسمين تصويرين معاً مثل العين والماء ويعنيان البكاء، أو المحراث إلى جوار الرجل وتعني الحارث. ثم ظهرت الكتابة السومرية التي انتشرت في العراق وحتى مصر.

فن الكلام

يستعرض الكتاب في أحد فصوله بعض أنواع الكتابة في الحضارات القديمة. ومنها: الكتابة المصرية، حيث شكلت عدة مئات من الرموز الهيروغليفية الجزء الأكبر من النظام المحلي، المكتوب بالحبر على ورق البردي، واشتقت الكتابة الهيروغليفية في مصر والكتابة المسمارية في بلاد الرافدين من المعين ذاته – الرسم اللفظي أو كتابة الكلمات، وقد أطلق المصريون القدماء على الكتابة (مدو نثر) أي (كلمات الإله)؛ لأنهم آمنوا بأنها هدية من تحوت، كاتب الآلهة ذي رأس أبي منجل.

و«الكتابة المسمارية»، التي يرجع تاريخها إلى تاريخ الكتابة اللوغرافية أو كتابة الصوت، حيث حل الصوت محل الرموز، وكانت تلك الكتابة أداة في خدمة أنشطة تجار بلاد الرافدين؛ ولهذا ساد استخدام الكتابة المسمارية في المنطقة لآلاف السنين. وقد شهدت الكتابة المسمارية تطوراً واضحاً في الخط، واتجه الكتبة فجأة ومن دون أسباب واضحة، إلى كتابة معظم العلامات التصويرية وكأنها مالت على جانبها الأيسر، وتغير اتجاه الخط، فلم تعد النصوص تكتب من اليمين إلى اليسار رأسياً، بل صارت تكتب من اليسار إلى اليمين أفقياً في خطوط عمودية، تماماً كما في صحف اليوم.

وكان الكتبة يدربون الصبية في مدارس خاصة بالكتابة، كما في مصر، وهذا يعد أول نظام تعليمي شهده العالم، فينسخون ما كتبه المعلم على ألواح من الطين.

وصولاً إلى ظهور «الألفبائية» الأولية في مصر وأرض كنعان، والتي كانت مجرد طريقة أخرى للتعبير عن الكلام، ويمكن للعديد من اللغات استخدامها نظراً لسهولة تعديلها بإضافة مجموعة صغيرة من العلامات أو النقاط أو الرموز إلى الحروف الموجودة بالفعل.

ثم ظهرت «الألفبائية الفينيقية»، حيث ازدهرت الأبجدية الفينيقية وانتشرت في شكلين منفصلين، ومن الواضح أن كليهما انحدر من تنويعات خاصة بالألفبائية الكنعانية، وبحلول عام 1000 قبل الميلاد تطورت الألفبائية السامية الشمالية الفينيقية تطوراً كاملاً، وتشكلت من 22 حرفاً صامتاً، واستخدمت الألفبائية الفينيقية لما يقارب الألف عام، وتطورت فيما بعد إلى اللغة البونيقية، التي كتب بها أحفاد المستعمرين الفينيقيين في غرب حوض البحر المتوسط حتى القرن الثالث الميلادي.

الكتابة بالصور هي «الخط الافتراضي» للغة التكنولوجية الحديثة الآن

«كتابة المستقبل»

يذكر المؤلف في الفصل الثامن من الكتاب الذي يحمل عنوان «كتابة المستقبل»، أنه لولا الكتابة لما كان ثم وجود للمجتمع البشري المتقدم الذي نعرفه اليوم، وإذا كان هناك درس واحد يمكن أن نتعلمه من تاريخ الكتابة، فهو أن الكتابة لم تنشأ تدريجياً من الصور الصامتة، بل بدأت بصورة مباشرة بصفتها تعبيراً رسومياً عن الكلام المنطوق، وظلت هكذا لآلاف السنين، ولكن يبدو أن هذه الحال تتغير. وكشفت الدراسات الحديثة عن أن القراءة عبارة عن تتابع من الرموز أو الحروف – وليس كتابتها – يربطها مباشرة بصورتها الذهنية من دون الحاجة إلى تحويلها إلى كلام. وتتيح التكنولوجيا الحديثة للحواسيب والأجهزة الإلكترونية الأخرى التواصل من دون وساطة بشرية.

ثم تناول المؤلف موضوع الازدواجية اللغوية، فحين تختلف اللغة التي يستخدمها شعب ما في الكتابة اختلافاً كبيراً عن اللغة المنطوقة تنشأ لغتان منفصلتان، والسبب في ظهور الازدواجية اللغوية هو أن النقل الكتابي لا يهتم إلا باستخدام اللغة الراقية في المجتمع، إضافة لاستمرار تطور اللغة العامية بصفتها لغة حية، أما اللغة المكتوبة فتتغير بوتيرة أبطأ بكثير أو لا تتغير على الإطلاق. وهذا الانفصال بين اللغتين المكتوبة والمنطوقة تنتج عنه مشكلات. وتظهر في أغلب اللغات فجوة شاسعة بين الأسلوب المكتوب والمنطوق، وكثيراً ما تكون العلامة المميزة للشخص المثقف هي مدى مقاربة اللغة التي يتحدث بها للغة المكتوبة.

ثم تناول المؤلف موضوع مستقبل الكتابة، وذكر أن الكفاءة والبساطة لا تحددان مستقبل الخط، وإنما تحدده مكانة مستخدميه وسلطتهم، وتتطور اللغات تطوراً طبيعياً، أما أنظمة الكتابة والخطوط فلا تتطور بالطريقة نفسها؛ إذ إنها تستعار وتتبدل وتهمل عن قصد لأسباب اجتماعية ونفسية وسياسية. ويمكن أن يصبح التوجه نحو استخدام خط واحد ونظام كتابة واحد على مستوى العالم، مجرد أداة تعمل لصالح اللغة الإنجليزية.


مقالات ذات صلة

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

ثقافة وفنون هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية.

ندى حطيط
ثقافة وفنون إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

حينما تروي اللقالق سيرة حياة الكاتب

يواصل الكاتب المسرحي والروائي ماجد الخطيب، في الجزء الثاني من «ملصقات بيروت»، سرد سيرته الشخصية في بيروت، المبتلية بالحرب،

«الشرق الأوسط» (بغداد)
ثقافة وفنون بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها لقد أتاح لي الحظ أن أتعرف على أحمد أبو دهمان لأول مرة

هاشم صالح

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.


حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع
TT

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه، على أهمية النظرة الجماعية للأدب بين التسلية والعمق والدلالات الخطيرة التي تكمن وراء طبيعة نظرة شعب من الشعوب له، وفق هذا المنظور أو ذاك.

ويؤكد العقاد أن اعتبار الأدب أداة لهو وتسلية هو الذي يصرفه عن رسالته العظيمة في فهم النفس البشرية والتعبير الصادق عن الحياة، وغيرهما من عظائم الأمور، ويسقطه في هوة البطالة والفراغ، فينشر حالة من اللامبالاة تجاه الذات والآخرين: «فماذا يُرجى من الفراغ غير السخف والسطحية في النظر للأشياء، فضلاً عن لهو الحديث وافتقاد المعنى؟ وبالتالي يصغي إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله».

ويذكر العقاد أنه إذا بالغ الأديب في مدح أو هجاء، أو جاوز الحد في صفة من الصفات؛ فمسح الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ... غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعراً؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد، ما دام الأدب أداة لهو وتسلية!

ومن شاء التحقق والتثبت من ذلك في تواريخ الآداب، بحسب العقاد، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط بقوة. إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه الشطط والمبالغة والطي والنشر والتوشيع وسائر ما تجمعه كلمة «التصنّع». وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي في الإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها إلا حين تحول إلى أداة تستهدف إرضاء فئة خاصة.

ويتابع العقاد: «هكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة والافتعال وتقل الموهبة، فيضعف وينحدر إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتُخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق واسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة وغلبت التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشلته من سقوطه بعد اتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وبالتالي يجب أن يفهم أبناء هذا الجيل والأجيال أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد، وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والحياة».